دورات ميلانكوفيتش: رقصة الأرض الساخنة او الباردة جداً

أنت تعلم بلا شك أن الليل والنهار هما وجهان لظاهرة واحدة وهي دوران الأرض حول نفسها في فترة تقارب 24 ساعة ليتعاقب الليل والنهار على المناطق المختلفة في الأرض بحسب خطوط الطول. كما أن الفصول الأربعة هي أوجه لظاهرة الميل المحوري (axial tilt) للأرض في غضون دورانها حول الشمس حيث تغير الميل المحوري للأرض بدرجة 23.5 طيلة العام وتتبدل نقطة الأوج التي ستواجه الشمس لتعطي تبايناً في الصيف والشتاء بين نصف الكرة الجنوبي والشمالي بالإضافة الى العديد من الظواهر والاختلافات بين الفصلين. لكن هذه ليست رقصة الأرض الوحيدة. دورات ميلانكوفيتش هي الرقصة الأخطر والأطول لكوكب الأرض. كثير من التغيرات المناخية التي تجري على مدى الاف او عشرات الالاف من السنوات تعزى لما يعرف بدورات ميلانكوفيتش.

 

من هو ميلانكوفيتش؟

ولد ميلوتين ميلانكوفيتش (Milutin Milanković) في بلدة دالي بامبراطورية النمسا والمجر ضمن حدود الدولة المسماة اليوم كرواتيا عام 1879، توفي والده عندما كان في الثامنة ومات ثلاثة من اخوته صغاراً نتيجة السل وعانى هو الآخر من صحة سيئة في الطفولة ارغمته على اللجوء للتعلم المنزلي لكنه نال مع ذلك تعليماً جيداً وفره له كل من والدته وخاله. غادر نحو فيينا عام 1896 ليباشر دراسة الهندسة المدنية في جامعة وين التقنية (Technische Universität Wien) واستمر هناك حتى نال درجة الدكتوراه عام 1904 وعمل مهندساً مدنياً في فيينا حتى عاد لبلده عام 1912 وعمل في ذات المجال في يعرف اليوم بصربيا.

الى جانب عمله كان لدى ميلانكوفيتش شغف علمي عميق في موضوع المناخ وتحديداً قضية العصر الجليدي وسرعان ما استهوته نظرية العالم النمساوي جوزيف اديمار (Joseph Adhemar) الذي اعتقد ان تعرض الأرض للشمس (earth insolation) في الحقب المختلفة كان السبب في التغيرات المناخية التاريخية الكبرى كالعصر الجليدي لكن آراءه لم تكن مقبولة في حينها. وهكذا فقد وجد ميلانكوفيتش طريقه ساعياً في إيجاد الأدلة في هذا الاتجاه.

اعتقل ميلانكوفيتش بينما كان في شهر العسل عام 1914 ببلدته الأم دالي من قبل القوات النمساوية لانه كان مواطناً صربياً وكانت الحرب العالمية الأولى قد شرعت، وتم ارساله الى معتقل ثم بوساطة احد اساتذته في فيينا واثر سعي زوجته لانقاذه تم نقله الى بودابست مع اعطاءه الحق في العمل. وهناك اتصل بالاكاديمية الهنغارية للعلوم وشرع بممارسة عمله البحثي الذي ركز فيه على مناخ كوكب المريخ ومناخ القمر ونشر اوراقاً بحثية عديدة. بحلول نهاية الحرب العالمية الاولى عاد ميلانكوفيتش الى بلغراد بصربيا ونشر كتاباً نال أهمية كبيرة في عام 1920 وقد اسماه النظرية الرياضية لظاهرة الحرارة الناتجة من الاشعاع الشمسي (Mathematical Theory of Heat Phenomena Produced by Solar Radiation).

لمع نجم ميلانكوفيتش في مطلع العشرينات وبدأ بالمراسلات مع أعلام علم المناخ في ذلك الحين وتوصل في تلك الفترة الى حساباته حول ما يعرف بإسمه اليوم دورات ميلانكوفيتش. ذهب في جولات استكشافية الى القطب الشمالي مع زميله الفريد ويغنير الذي توفي هناك نتيجة انخفاض درجة الحرارة. وكان لميلانكوفيتش نشاطاً في تبسيط العلوم حيث نشر كتباً عديدة ومقالات في هذا المجال كما كان مهتماً بتاريخ العلم.

 

ما هي دورات ميلانكوفيتش؟

نصت فرضية ميلانكوفيتش القائمة على الحسابات الرياضية على ثلاث حركات دورية. تعرف الحركة الأولى او الدورة الاولى بالانحراف المداري (orbital eccentricity)، حيث لا يكون مدار الأرض حول الشمس دائرياً بالضبط بل يكون فيه انحراف بحيث تكون هناك نقاط تقترب فيها الأرض أكثر من الشمس وتسمى بالأوج (aphelion) ونقاط أخرى تكون فيها الأرض بعيدة عن الشمس وتسمى بالحضيض الشمسي (perihelion). في الوضع الطبيعي فإن مرور الأرض عبر نقاط الأوج والحضيض يظهر في الفصول لكن دورة ميلانكوفيتش التي تعنى بهذه الظاهرة تصف عملية تغير المدار ذاتها والتي تحدث كل 413 الف سنة حيث يزداد الانحراف ثم يصبح معاكساً بقيمة سالبة بالمقدار الذي ازداده. هناك تغير آخر في انحراف المدار يصبح على نطاق أوسع فمثلاً مدار الأرض يبلغ أقصى انحراف له في الـ 250 مليون سنة الأخيرة، ومن ثم هناك دورات اصغر يكون فيها تغير الانحراف أقل وتبلغ 95 الف و125 الف سنة. يوصف الانحراف برقم أقل من 1 عادة للكواكب (لكن لا يشترط ذلك ربما يزيد عن ذلك)، يبدو شكل المدار بيضوياً الى حد كبير حين يكون برقم مثل (0.9)، ويكون دائرياً تماماً حين يكون الانحراف صفراً. يبلغ انحراف الأرض اليوم 0.017 وهو متجه الى الانخفاض، أي أن مدار الأرض يتجه الى ان يكون أكثر دائرية.

سبب حدوث الانحراف المداري يرجع الى السحب الجذبي لكل من كوكبي المشتري وزحل. اما انعكاسات الظاهرة على مستوى الفصول فأولها الاختلاف في طول الفصول حيث يقضي الكوكب فترة أطول ماراً بالحضيض الشمسي، وفترة أقصر وهو في القمة (الابعد عن الشمس) لذا نجد الخريف والشتاء في الأرض أقصر بقليل من الربيع والصيف في الحقبة التي نعيش فيها الآن[1]. أما التأثير الأهم فيما لو كان الانحراف في المدار عالياً فهو أن التباين بين الفصول يكون مرتفعاً جداً. لكن بشكل عام فإن الانحراف المداري للأرض ليس من القوى الكبيرة المؤثرة على التغير المناخي التاريخي. ثبت أن التغيرات في الانحراف تسبب تغيراً في نسب الجليد في الأقطاب لكن الانحراف ليس العامل المهيمن في ذلك.[2]

ثم نأتي لظاهرة الانحراف (Obliquity) أو الميل المحوري (axial tilt)، وأيضاً فقد ذكرنا في بداية المقال كيف أن الميل المحوري الحالي للأرض هو 23.5، وهذا الميل المحوري أيضاً ليس ثابتاً بل له دورة طولها 41 الف سنة. آخر مرة كان الميل المحوري في أعلى قيمة له كانت قبل حوالي 10 الاف سنة، أما الآن فنحن نتجه نحو انخفاض الميل المحوري حتى سنبلغ أدنى ميل محوري بعد 11 الف سنة من الآن. لا يؤثر الميل المحوري على أجزاء الأرض بالتساوي، فعندما يرتفع الميل المحوري يزداد التعرض للاشعاع الشمسي في خطوط العرض الأعلى، وينخفض في مناطق خط الاستواء. أما حين ينخفض الميل المحوري (أي تبدو الأرض وكأنها عمودية أكثر) فإن تعرض خطوط العرض العليا للشمس ينخفض وبالتالي فإن ذوبان الثلوج في خطوط العرض العليا ينخفض حيث أن معظم الثلوج تقع في الطبقات العليا. وبالتالي فإن التوجه نحو انخفاض الميل المحوري يقترح فصولاً أكثر اعتدالاً وانخفاضاً أقل في درجة الحرارة[3].

كان العالم العربي الدمشقي أبو الحسن علاء الدين الأنصاري الملقب بابن الشاطر احد أولئك الذين قاسوا انحراف الأرض بدرجة دقيقة[4]، كما وجه الخليفة المأمون العباسي في انجاز قياس مشابه وكان القياس دقيقاً أيضاً.

أثر حركة الانحراف على المناخ يعد أكبر من أثر الانحراف المداري، حيث يؤثر بشكل أكبر على الاشعاع الشمسي كما يؤثر على ذوبان الثلوج في القطب الشمالي.

المبادرة المحورية (Axial precession) هي الحركة الثالثة وتحدث بفعل جاذبية الشمس والقمر – ما يعرف بقوة المد والجزر – وما يحدث فيها بالضبط هو أن اتجاه محور الأرض بالنسبة لنجوم معينة يبدو مختلفاً، يدور في دورة عمرها 25,700 سنة. أي أن النجوم التي يستدل بها البشر على اتجاه الشمال في هذه الحقبة من تاريخ البشر قد لا تكون صحيحة بعد 10 الاف سنة، حيث سيكون اتجاه الأرض مختلفاً بالنسبة لذات النجوم. تؤثر المبادرة المحورية على المناخ بشكل متباين بين نصفي الأرض الشمالي والجنوبي، في الفترة الحالية يمر النصف الجنوبي بصيف أكثر حراً، فيما يمر النصف الشمالي بصيف أكثر اعتدلاً، الامر الذي سينعكس بعد 13 الف سنة ³ . تؤثر هذه الدورة بطبيعة الحال على الثلوج في نصف الكرة الشمالي أيضاً.

تأكيد دورات ميلانكوفيتش من قبل علماء المناخ اللاحقين

كما ذكرنا أن فكرة أثر الاشعاع الشمسي المتباين في ظل دوران الأرض كان فكرة قد قدمها من قبل جوزيف اديمار لكنها لم تنل القبول الكافي كما أنه لم يدعمها بذات الأدلة. الأمر كان مختلفاً مع ميلوتين ميلانكوفيتش الذي قدم الكثير من الأدلة الرياضية على النظرية. مع ذلك، فإن الأمر لم يخل من التشكيك وكان بالضد من تلك الشكوك علماء آخرين قدموا ادلة مساندة. ومن ثم جاءت مقاربات زمنية لأحداث مناخية كثيرة لتقدم تطابقاً مع دورات ميلانكوفيتش.

ريتشارد مولير (Richard A. Muller) كان احد أولئك الذين شككوا بدورات ميلانكوفيتش لصالح حركة أخرى تعرف بالتمايل الفلكي (Astronomical nutation)[5] في تفسير الحقب الجليدية، غير أن افتراضه القائم على ما يعرف بالتمايل الفلكي (Astronomical nutation) لم يلق ذات التأييد من قبل الكبار في المجال في عصرنا الحالي مثل نيكولاس شاكلتون (Nicholas J. Shackleton) الذي أيدت أبحاث كثيرة له أثر دورات ميلانكوفيتش على المناخ. شاكلتون عرف باختباراته لنظير الاوكسجين 18 التي تستخدم في تقدير المناخ في الحقب السابقة، وفي احدى تلك الاختبارات التي أجريت على الجليد بمحطة فوستوك (Vostok Station) في القطب الجنوبي، أيد شاكلتون أثر دورتي الانحراف المداري والمبادرة المحورية[6]. يرى شاكلتون رغم ان لديه اختلافات بسيطة مع رؤية ميلانكوفيتش في أثر تلك الحركات على المناخ، أن الحركات في مدار الأرض تعد منظماً للفترات الجليدية وتحديداً المبادرة المحورية والميل المحوري.[7]

رائد آخر في المجال وهو صاحب فكرة الدورة الحرارية الملحية والشخص الذي اشاع مصطلح الاحترار العالمي (Global warming) عالم الجيوكيمياء الأمريكي والاس سمث برويكر (Wallace Smith Broecker) وجد هو الآخر بصمات دورات ميلانكوفيتش بوضوح في دراسته للحيد المرجاني حول جزيرة باربادوس، حيث قام بدراسة الطبقات القديمة المندثرة من المرجان تحت البحر. رصد برويكر ثلاث موجات احترار ارتفع فيها البحر قبل 82 الف سنة، 103 الف سنة و122 الف سنة. تظهر لمسة المبادرة المحورية في ذروات دفء قبل 11 الف سنة تقريبا، ثم 48 الف سنة، 82 الف، و127 الف سنة. أما الميل المحوري فتظهر ذروته قبل 50 الف سنة لكنها ليست بقوة المبادرة المحورية. نجد في قراءة ارقام كهذه رقم يضاف لوقت التأخر (lag time) وهو يعكس فترة تصل الى عدة الاف من السنوات قبل أن يظهر تأثير احدى حركات ميلانكوفيتش كلياً. [8]

وهكذا فإن دورات ميلانكوفيتش لم تدرس فقط للحقبة الأخيرة من تاريخنا بل درست لحقب جيولوجية سحيقة أيضاً ولبعض الكواكب الأخرى، وتعد احدى اهم الابعاد لفهم التغير المناخي التاريخي، لكنها مع ذلك ليست الوحيدة.

 

أين نقع اليوم ضمن دورات ميلانكوفيتش؟

او لنعد صياغة السؤال بطريقة أخرى: هل يفترض أن تكون الأرض في وضع يرجح الاحترار طبقاً لدورات ميلانكوفيتش؟ والاجابة هي كما رأينا في بداية المقال فإننا في هذه الالفية لسنا في وضع يكون فيه الانحراف المداري شديداً، بل يكاد يكون مدار الأرض دائرياً. أما الانحراف المحوري فنحن نقع في المنتصف، أي أننا لسنا في احد طرفي الحالة المتطرفة التي بلغتها الأرض قبل 10 الاف سنة والتي ستبلغها بعد 11 الف سنة. أما المبادرة المحورية فنحن أيضاً لسنا في حالة متطرفة الآن، بل يقترح واقع الأرض في ظل درجة المبادرة المحورية أن يكون الصيف معتدلاً في شمال الكوكب أي أن ذوبان الثلوج أقل. لذا ولسوء الحظ أو لحسن الحظ ربما فإن دورات ميلانكوفيتش ليست السبب في الاحترار العالمي الحالي.

المصادر

[1] Astronomical Applications Department, Earth’s Seasons – Equinoxes, Solstices, Perihelion, and Aphelion

[2] Shackleton, Nicholas J. “The 100,000-year ice-age cycle identified and found to lag temperature, carbon dioxide, and orbital eccentricity.” Science 289.5486 (2000): 1897-1902.

[3] Nasa, global climate change, Milankovitch (Orbital) Cycles and Their Role in Earth’s Climate

[4] “Ibn Al-Shat?ir, ‘Ala’ Al-Din Abu’l-H?asan ‘Ali Ibn Ibrahim .” Complete Dictionary of Scientific Biography. . Encyclopedia.com. 19 Aug. 2022

[5] Muller, Richard A., and Gordon J. MacDonald. “Glacial cycles and orbital inclination.” Nature 377.6545 (1995): 107-108.

[6] Shackleton, Nicholas J. “The 100,000-year ice-age cycle identified and found to lag temperature, carbon dioxide, and orbital eccentricity.” Science 289.5486 (2000): 1897-1902.

[7] Hays, James D., John Imbrie, and Nicholas J. Shackleton. “Variations in the Earth’s Orbit: Pacemaker of the Ice Ages: For 500,000 years, major climatic changes have followed variations in obliquity and precession.” science 194.4270 (1976): 1121-1132.

[8] Broecker, W. S.; Thurber, D. L.; Goddard, J.; Ku, T.-l.; Matthews, R. K.; Mesolella, K. J. (1968). Milankovitch Hypothesis Supported by Precise Dating of Coral Reefs and Deep-Sea Sediments. Science, 159(3812), 297–300. doi:10.1126/science.159.3812.297

 

مصادر أخرى:

Wikipedia, Milankovitch cycles

راجعت المقال لغويا ريام عيسى وتم نشره في مجلة العلوم الحقيقية العدد 51  لشهري سبتمبر-اكتوبر 2022