كتبه: راشد العوضي
ساهم فيه وراجعه: عمر المريواني
(English) “التاريخ يعيد نفسه”، كم تبدو مكررة هذه العبارة التي نسمعها ونعتقد بأنها تحمل ادلة على صحتها. التاريخ حافل بالأمثلة على الأحداث التاريخية المتكررة. امبراطوريات تقوم وتسقط، حروب تشتعل، وثورات ثقافية تحدث، وأمثلة أخرى كثيرة. غير أن تلك الأحداث ليست متطابقة مع سابقاتها التي نفترض أنها تكرار لها. الامبراطوريات تقوم على ركام امبراطوريات أخرى التي لها قيم مختلفة، انظمة سياسية مختلفة وأديان مختلفة. الحرب العالمية الثانية مثلاً لا تشبه الحرب العالمية الأولى. وقد نفكر لماذا نقرر اعطاء تسمية معينة متشابهة لحربين أو ظاهرتين في التاريخ؟ ربما هذا بذاته يعطي ايحاءاً بأن هناك تكرار في حين أن التكرار هذا يحدث فقط في عنصر واحد مشترك بين الظاهرتين مع اختلاف كامل في كافة العناصر الأخرى. قد نميل نحن للمقارنة آخذين عناصر معينة بنظر الاعتبار مع اهمال عناصر أخرى. ربما اذن، يجب أن يكون العنوان بأن “التاريخ يعيد نفسه تقريباً”، رغم أن عنواناً كهذا قد لا يكون مثيراً للاهتمام ومختصراً كما هو العنوان الذي اخترناه. لكن بلا شك، هناك وصف أكثر دقة للتاريخ بشكل عام. هدف هذا المقال هو استكشاف موضوع نمذجة التاريخ رياضيا ومحاولة ايجاد وصف رياضي صحيح للخصائص التاريخية الظاهرة مثل اعادة الحدوث، التشابه الذاتي، وعدم امكانية التنبؤ، بغض النظر عما يمكن أن يعتبر وهماً لتكرار التاريخ لنفسه لو قارننا جميع الخصائص بين ظاهرتين تاريخيتين.
أشار كتاب عديدون مثل ابن خلدون الى مفهوم العصبية (التضامن والوعي المشترك لافراد المجموعة). جي ترومف (G. Trompf) اوضح في شرحه للطبيعة البشرية ما يمكن أن يفسر اعادة التكرار في الظواهر التاريخية بأن ذلك عائد لخصائص يتشارك بها الأفراد (طبيعة الفرد) وفيما اصطلح هو عليه بالطبيعة البشرية. غير أننا سنتخلى في هذا المقال عن الرابط بين سلوك النظام الكلي (macro) وسلوكه الدقيق (الفردي في حالة المجتمعات وما يعرف بالـ micro) مفترضين عدم وجود صلة بينهما. وفي الواقع، ليس بالضرورة أن ينطبق عدم وجود علاقة بين الاثنين على المجتمعات البشرية بصفتها أنظمة معقدة، أحياناً تنعكس الصفات الجزئية على الواقع الكلي للنظام فيما يعرف بالترابط القوي وأحياناً لا ينعكس ذلك ولا يمكن تنبؤ السلوك الكلي من الجزئي.
يقترح جوشوا جولدستين (Joshua S. Goldstein) أن الكيانات السياسية كالامبراطوريات لها خصائص شبيهة بخصائص البشر مثل المرور بأزمة منتصف العمر الذي يناظر عدم الاستقرار السياسي في عمر الامبراطوريات. تنشأ الامبراطوريات وتزدهر حتى تصل الى مراحل من الثقة الزائدة، الطغيان، والنزاعات الداخلية بين سلطاتها المختلفة مما يتسبب بانهيار الكيان السياسي. ونحن نتكلم عن مثال جولدستين هنا كمثال فقط دون تمحيصه لرؤية إن كان هناك بالفعل دراسة في الانظمة المعقدة تفترض التشابه بين الامبراطوريات والأفراد من ناحية العمر. كمثال لظاهرة كهذه، يأتي جولدستين بالامبراطورية البريطانية، الامبراطورية الالمانية، والاتحاد السوفيتي. بعض الأشخاص قد يقولون أن الخصائص الدقيقة والجزئية في أحداث التاريخ، التركيب الجزئي (Microstructure)، هو ما يصنع التاريخ. وربما هذا الرأي صائب في بعض الحالات، لكن ذلك لا يعني أننا محكمون بحتميات تجعلنا غير قادرين على التلاعب بالقواعد التي تحكم التطور التاريخي. لمقارنة هذا مع فرعين من الرياضيات، فإن الهندسة التفاضلية تهتم بالتركيب الجزئي، المحلي، للأشكال. أما الطوبولوجيا فتهتم بالخصائص الكلية، أو العالمية، للأشكال. كل من الفرعين يرتبط بالآخر ويعلمنا هذا الكثير.
الجهود الرياضية في فهم ودراسة التاريخ
إن فكرة دراسة التاريخ كعلم حقيقي ليست جديدة. البروفيسور بيتر تورجين (Peter Turchin) كان عالم أحياء تحول الى عالم مختص بالأنظمة المعقدة، ثم أصبح أحد مؤسسي علم الكليوداينمكس الذي يدرس العلوم الاجتماعية بالأنظمة الديناميكية الرياضية. تهدف هذه الدراسة الى بناء نماذج رياضية من التاريخ وما فيه من عمليات عبر دمج مكونات عديدة يُعتقد أنها تساهم في تكوين تلك العمليات. يدمج المجال تاريخ الاقتصاد، التطور الثقافي، علم الاجتماع الكلي..الخ. يهدف تورجين ومن معه في هذا المجال الى الاجابة على اسئلة مثل: لماذا تكبر بعض الامبراطوريات وتزدهر فيما تسقط أخرى وتموت. قد يستخدم تورجن وغيره في مجال الكليوداينمكس معلومات مثل السجلات الضريبية التاريخية أو قياسات العظام كمؤشر على متوسط الطول في تعداد سكاني تاريخي أو أدلة اثارية يمكن استخدامها كمعلومات في نموذج رياضي.
أثبتت النماذج الرياضية نجاحها في مجالات العلوم الطبيعية حيث تكون المعلومات الشفهية غير كافية. كما تسمح لنا النماذج الرياضية بتوضيح وتحديد المكونات المطلوبة في دراسات كهذه، وبوسائل لبناء نماذج قابلة للقياس لاختبار فرضياتنا تجريبيا بالضد من بيانات العالم الحقيقي. مختصو التاريخ اليوم يمتلكون الكثير من المعلومات التي يمكن أن تستخدم في الذكاء الاصطناعي لكشف انماط مجهولة عن البيانات ولاضفاء بعد جديد من الفهم على الأحداث التي يدرسونها.
الانظمة الديناميكية، مثل التي يدرسها تورجين، يمكن أن يكون لها سلوك عشوائية، وهذا بخلاف الأنظمة التي تدرس أمراً بسيطاً مثل مسار حركة كرة والتي قد لا تصل الى نتائج غير متوقعة. عندما نغير أحد المعطيات في معادلة من معادلاتنا، لنقل كتلة الكرة، فإن المسار لا يتغير بشكل متطرف. اذا كان مسار الحركة قطعاً مكافئاً، فإن المسار الجديد قد يختلف قليلاً مع تغير كتلة الكرة لكنه سيبقى قطعاً مكافئاً رغم تغير شكله بعض الشيء. يمكن أن نتوقع دوماً مسار الكرة بسهولة. غير أن الأمر ليس كذلك في الأنظمة العشوائية (Chaotic Systems) التي لها اعتماد عالي على معطيات المعادلات. تغير بسيط في أخد المعطيات يمكن أن يقود الى سلوك مختلف تماماً للنظام. يبدو ذلك وكأن الكرة تتخذ مساراً اعتباطياً حينما تتغير كتلتها، كمثال لنقل أننا غيرنا كتلة الكرة لنجد أن مسارها لم يعد قطعاً مكافئاً بل صار شكلاً آخر تماما. يمكن أن نفكر أيضاً بمثال آخر وهو أن تكون لدينا عدة كرات وأن تكون هناك علاقات معتمدة على بعضها بين معطيات كل كرة بحيث يصبح النظام معقداً وأكثر عرضة للعشوائية. التاريخ يبدو عشوائياً وغير قابل للتوقع أحياناً. في بعض الأحيان تقود احداث شديدة الصغر الى عواقب هائلة الحجم. على سبيل المثال، أدى اغتيال قيادي سياسي بامبراطورية النمسا والمجر الى الحرب العالمية الأولى التي راح ضحيتها عشرات الملايين. السؤال هنا، كيف نرصد صفات كهذه للأنظمة عبر الرياضيات؟
الفوضى، التشابه الذاتي، وعدم امكانية التنبؤ
سأذكر هنا ثلاثة قضايا تقف عائقاً أمام توقعنا للأحداث التاريخية: السلوك العشوائي، عدم امكانية التنبؤ، والتشابه الذاتي. نفترض هنا أن هناك عدداً من الاحداث التاريخية المترابطة وأننا قمنا بتحليلها ونمذجتها رياضياً. ثم نجد أن سلوك النظام له خصائص عديد أو قضايا تتضمن تلك القضايا الثلاث والتي تعطينا ذلك الحس بأن التاريخ يعيد نفسه.
التعقيد من معادلة بسيطة
التعقيد من معادلة واحدة. تترابط القضايا التي ذكرتها أعلاه وسأشرح للقارئ هنا كيف لعدم امكانية التوقع ألا تعني العشوائية. قدم جورج ريش (George A. Reisch) في بحثه باسم الفوضى، التاريخ، السردية (Chaos, History, and Narative) مثالاً عن نموذج لعبة. النموذج يفترض ذهاب طالب احياء لحقل ما لتدوين المعلومات عن أحد الكائنات الحية. يسجل الطالب المعلومات عن التعداد السكاني للكائن في كل موسم ويتوصل الى شكل كالذي نراه أدناه.
في هذه الحالة، فإن تعداد الكائن في هذا المثال سيكون المتغير الذي سندرسه في نموذجنا الرياضي.
لاحظ في المخطط الذي توصل اليه الطالب أنه بعد 30 موسماً، بدأ التعداد يمر بانهيارات مفاجئة تستمر لخمسة مواسم. لم يكن هناك أي انذار مسبق أو اشارة لحدوث ظاهرة كهذه. نحد أيضاً أن التعداد وبعد الموسم 35 ينهار مرة أخرى في الموسم الرابع والأربعين لكن مع تعافي سريع. يذهل الطالب ويحاول أن ينظر لما يمكن أن يتسبب بهذا الانهيار. يجب أن يكون هناك سبب ما، لكن مع أخذ عدد المتغيرات بنظر الاعتبار فمن الصعب النظر لكل تلك المعطيات. يحاول الطالب إذن أن ينمذج التعداد السكاني خلال المواسم المختلفة باستخدام معادلة رياضية تساعده في تنبؤ تطور التعداد السكاني. فيكتب المعادلة التالية:
تمثل Xn التعداد للموسم n وتمثل r رقماً موجباً يخبرنا عن مدى سرعة تضاعف التعداد السكاني. لبعض الكائنات يمكن أن تكون قيمة r مساوية لـ 4. المعادلة شديدة البساطة وهي باختصار ترينا أن التعداد لموسم معين يعتمد على الموسم السابق. التعداد الحالي يؤثر على سلوك كل تعداد سكاني مستقبلي. باستخدام التعداد المسجل في الموسم صفر، يرسم الطالب المخطط الآتي أدناه:
تبدو المعادلة وكأنها تتنبأ بدقة انهيارات التعداد السكاني على الرغم من بساطتها الشديدة وكونها لا تأخذ أي متغيرات بنظر الاعتبار باستثناء عدد السكان ذاته. لاحظ كيف يميل التعداد الى الانهيار، وكيف يعيد التاريخ نفسه، في المواسم 45 ثم 55، لكن الأرقام وفارق الوقت بينها ليس ذاته. يعيد التاريخ نفسه ربما بذات الطريقة لكن مع فارق بسيط وهو أننا نعمل على خصيصة واحدة هنا وهي التعداد السكاني. نحن نذكر القارئ بالتأكيد أن هذا هو مجرد مثال قدمه البروفيسور ريش لتوضيح كيف يمكن أن يمكن تمثيل التغيرات العشوائية في الطبيعة والتاريخ بمعادلات رياضية.
للمضي قدماً في قدرة الخارطة اللوجستية هذه على كشف صفات التاريخ، نعود الى سلوكها العشوائي القادم من المتغير r. سنثبت قيمة r ونحسب التعداد السكاني لقيمة كبيرة للموسم (n) لنقل 150. ولنقل أن ذلك الموسم هو الموسم الأخير. ثم سنسجل التعداد لكل قيمة من قيم r لنرى كيف سيتغير التعداد النهائي في كل حالة اذا ما بدأنا بقيمة معينة لـ r ومضينا لـ 150 موسما. يعرف المخطط الناتج من عمل كهذا بمخطط التشعب ومن الواضح لماذا يسمى بتسمية كهذه.
سأقتبس تعريف مخططات التشعب بما يلي: “هو مخطط للحالة الثابتة لحل معين مقابل متغيرات التحكم في الخارطة. الظهور المفاجئ لحل مختلف للنظام يسمى تشعباً والنقاط التي يحدث فيها ذلك تسمى نقاط التشعب.”
يوضح المخطط الخصائص المثيرة للاهتمام. لاحظ كيف ان القيم بين صفر و1 تؤدي الى وفاة التعداد السكاني. ثم بين 1 و3 يتزايد التعداد السكاني بشكل خطي كلما زادت قيمة r. ثم يحدث شيء مثير للاهتمام، بحدود القيمة 3 للقيمة r، يبدأ التعداد بالتذبذب بين قيمتين مختلفتين لـ r، أي أنه يتشعب. في الحقيقة، كلما تتغير قيمة r يتجه الخطان المتفرعان من r أكثر فأكثر حتى قيمة 3.75 حيث تحل الفوضى. تصبح قيمة التعداد السكاني شديدة التحسس لقيمة r كلما تغيرت القيمة. حين تحل الفوضى يصبح من المحال التنبؤ بقيمة التعداد السكاني النهائية. الشكل أدناه هو لقيمة r بين 2.8 و4.
الجاذبات – Attractors
التشبيه الآخر بين التاريخ والأنظمة العشوائية يمكن أن تتم دراسته من خلال مفهوم الجاذبات. يمكن تعريف الجاذب بأنه حالة تميل الحلول (احداث الانظمة) الى التطور اليها. الجاذب في الحرب العالمية الأولى يمكن أن يكون حالة الحرب، اذا ما كان هناك حالة كهذه في النظام. من وجهة نظر الانظمة المعقدة، الحالة التي قادت للحرب تعتبر حالة حرجة. لذا فإن النظام في هذه الحالة يميل الى التطور الى حالة الحرب. من الأمثلة على نظام عشوائي له جاذبان يمكن ان نأخذ جاذب لورنتز.
يتكون جاذب لورنتز من نظام ذو معادلة مبسطة تصف حركة ثنائية الابعاد لمائع مع عمق ثابت، ويتأثر ذلك بمتغيرات كالحرارة والجاذبية وغيرها. في هذه الحالة فإن جاذب لورنتز سينطبق على مثال آخر وليس سطح المائع ثنائي الابعاد.
يمثل هذا المخطط حلاً لشروط ابتدائية معينة لنظام ما. نقطة البداية، يمكن رؤيتها في اسفل المخطط في المنتصف. الحل، الخط، لا يتجاوز حداً معيناً مهما طالت مسيرته. وهو لا يعود الى الوراء حيثما كان مطلقاً الا بشكل تقريبي. الا نرى كثيراً من هذا في التاريخ حين يعيد نفسه. لنغير النقاط الابتدائية ونرى كيف يتغير مسار الخط لثلاثة نقاط بداية مختلفة.
تمثل الحلول الأربع بالألوان البرتقالي، الأخضر، والأحمر. لاحظ أن الحلول وعلى الرغم من البدء بنقاط مختلفة على المخطط وعلى الرغم من التفرع من بعضها عند نقاط عديدة، فإنها تنجذب نحو دوامتين. وهذا هو التشبيه الذي اود الوصول اليه حول الاحداث التاريخية. بنفس الشكل يمكن أن تنتهي احداث مختلفة، قرارات، عوامل بيئية تقود الى ذات العواقب وبنفس الشكل (خذ الحربين العالميتين كمثال). جاذب لورتنز يقدم سلوكاً مشابهاً للانظمة العشوائية.
قد تكون نمذجة الأحداث التاريخية في نظام ديناميكي يتمتع بالخصائص السابقة خطوة في الاتجاه الصحيح للنحو بدراسة التاريخ باتجاه رياضي. اتوقع أن معظم المؤرخين قد يعارضون هذه الفكرة التي أعرضها هنا في هذا المقال. لكن في النهاية، فإن تركيزهم على الاحداث الفردية والقصص والسرديات وأهميتها. ونحن لا نقلل من أهمية ذلك المنحى الدقيق لدراسة التاريخ. لكن ماذا لو حاولنا فهم تلك الأحداث بمبدأ أساسي؟ ماذا لو لم تكن الاحداث الفردية كافية لتغيير مسار التاريخ؟ الهدف هو الدراسة العالمية للتاريخ بدلاً من المحلية. سواء كانت النملة تقف على شرشف أم على كرة فسترى سطحاً مستوياً. والأحداث الفردية قد تكون محكومة بأبعاد عالمية أكبر منها.
على الرغم من البدء من مواضع مختلفة على المخطط وتفرع المسارات من بعضها في بعض النقاط فإنها تلتقي نحو دوامتين. وهكذا فإن متغيرات عديدة في الأحداث التاريخية يمكن أن تقود إلى حالات، أو نقاط قد تكون شبيهة بالدوامتين في الشكل.
راشد العوضي من الإمارات، حاصل على الدكتوراه في الفيزياء النظرية من جامعة كوين ماري في بريطانيا
تم نشر المقال في العدد 61 من مجلة العلوم الحقيقية وراجعته لغوياً ريام عيسى