يعتبر اختبار رورشاخ وما يعرف ايضا بطريقة بقع حبر رورشاخ (Rorschach Inkblot Method) من اكثر اختبارات تقييم النفسية تقديرًا واكثرها ازدراء في نفس الوقت. حيث يرد كواحد من اكثر الاختبارات النفسية استخدامًا بواسطة متخصصي علم النفس السريري ومن قبل المرشدين النفسيين في المدارس. حيث يتم تدريس هذه الطريقة في العديد من برامج الحصول على شهادة الدكتوراه في علم النفس، بالرغم من شيوع اخبار تؤكد انه كان هناك توجه لتقليل تدريسها خلال العقد الماضي. يسيطر اختبار رورشاخ على المخيلة العامة كذلك، من خلال ظهور اشكال مشابهة لبقع حبر رورشاخ في وسائل اعلام مختلفة، من كتاب الرسوم المتحركة (الحراس، لالن مور وديف كيبون) الى كليبات موسيقية مثل كريزي (Crazy)  لنارلز باركلي) .

قصة تطوير هيرمان رورشاخ للاختبار الذي حمل اسمه مثيرة للاهتمام، كان هيرمان مأخوذًا في شبابه (كما كان اغلب الالمان في زمانه) بلعبة صالات شعبية اسمها كليكسوغرافي Klecksographie، حيث يقوم شخص بالقاء قطرة حبر على ورقة ثم يطويها الى النصف ويتنافس بعد ذلك لاعطاء اكبر عدد من الاجابات او اكثرها اثارة للاهتمام. اجريت دراسات عديدة في اوائل القرن العشرين باستخدام بقع الحبر بواسطة عدد من الباحثين النفسيين، لكنها كانت محصورة في الغالب على دراسة مناطق الاحساس البصري وعملية الذاكرة، بالرغم من أن  بحث الفرد بينت استخدامها في قياس الذكاء. غير ان رورشاخ يبدو وكأنه غفل او تجاهل هذه الابحاث عندما ابتدع في عام 1918 بقعه الحبرية وطور استخدامها، ولكن كان يبدو انه أُلهم من عمل لطالب طب من زيورخ، حاول التمييز بين المرضى المصابين بالذهان من غيرهم بالاعتماد على اجاباتهم لبقع الحبر لكنه لم ينجح في ذلك.  

لم يعتمد رورشاخ على الصدفة والعشوائية في عمل بقعه الحبرية، بل قام بتشكيلها بدقة  باستخدام حبر والوان مائية. وبناءً على عمله الوحيد (حيث توفي في عمر 37 سنة، بعد 9 اشهر من نشر عمله هذا) كان رورشاخ مهتما بعاملين في استجابة الشخص للبقع، الحركة واللون. لم يبدِ عليه التأثر بالنظريات الفرويدية حول تشكيل بقع الحبر وتفسيرها، بل كانت لديه نظرية خاصة في ان ادراك الحركة واللون سيعطي لمحة عن معرفة شخصية الانسان. وتحديدا اعتقد ان اجابات الحركة كانت متعلقة بحالة الانطواء الذاتي، بينما اجابات اللون ترتبط بالانفتاح او ما اطلق عليه(“extratension”).

ان فكرة ارتباط الحركة مع الانطواء كانت مبنية في جزء منها على بحث حول حركة العضلات والاحلام لفيلسوف من القرن التاسع عشر يدعى مورلي فولد. حيث اخذ رورشاخ فكرة مورلي فولد في ان تقييد الحركة اثناء النوم سيسبب احلاما فيها حركة اكثر وطبقها في الاجابات المتولدة عن بقعه الحبرية. وبعبارة اخرى، كانت نظريته هي ان الانطوائيين يجب ان يروا صورا متحركة اكثر في بقع الحبر لانهم مقيدون نفسيا. وأوجز رورشاخ ايضا نظرية تقوم على ان ادراك واستخدام الالوان في وصف البقع الحبرية كان مرتبط بالمشاعر والانفتاح. حيث ان من استخدموا اجابات لونية اكثر كانوا اكثر انفتاحا وقابلية لان يظهروا مستويات اعلى من العواطف.

وعلى العكس من افكاره حول الحركة، كانت نظريته حول اللون مستوحاة من الافكار الدارجة في المجتمع (كارتباط اللون الاسود بالكأبة) واراء خاصة لا عن بحث او نظريات سابقة. كان رورشاخ مهتما في ايجاد توازن بين الانطواء والانفتاح او كما سماها توازن التجربة“Experience Balance”   ومختصرها في اللغة الانكليزية (EB). حيث ان نسبة اجابة الحركة للون كما اعتقد ستكشف عن “التوجهات الاساسية للانسان ونظرته نحو الواقع”.

يجب ان تفحص الاسباب التي دعت رورشاخ للتركيز على اللون والحركة فيما اذا كانت مدعومة بأدلة علمية ترجح اصحيتها. مراجعة للكتابات المختصة بهذا الشأن تظهر ان الاجابة في الغالب هي “لا”. فمثلا “توازن التجربة EB ” لم يظهر ارتباطاً ثابتاً مع الانطواء او الانفتاح وكذلك الاجابات اللونية التي لم تثبت ارتباطا مع أي تشخيص نفسي سريري كالاكتئاب مثلا. لكن من الضروري الاشارة في ان بعض نظريات رورشاخ لها شيء من الصحة فمثلا، علاقة ذكاء الشخص عدد الاجابات المتعلقة بالحركة التي سيعطيها، تم تأييدها بدرجة معتدلة، وكذلك بعض المؤشرات المتعلقة بالاضطرابات الذهانية.

اذا، هل كان رورشاخ محقا؟ الاجابة ستكون “في الغالب لا” مع “نعم” في بعض الحالات. في حين ان نظرياته الكبرى لم تثبت اصحيتها، تمتعت بعض من نظرياته الصغرى بالتأييد. لكن ماذا يعني هذا للاختبار بشكل عام؟ هل يجب التخلي عنه بشكل كامل؟ قادت هذه الاراء المتضاربة والمخاوف الى اختلافات داخلية ببن مجاميع الباحثين خلال ثلاثينيات القرن العشرين. حيث قامت مجموعة من الباحثين والاطباء بتطوير انواع اخرى من  المقاييس او تحسين في مفاهيم مقاييس محددة بذاتها. وخلال فترة الاختلافات هذه، بدأ البعض باستخدام طريقة رورشاخ بشكل اكبر لغرض التحليل النفسي، حيث كان يتم تفسير اجابات البقع الحبرية كما لو كانت احلاما (نهج المحتوى)  بدلا من اتباع نهج اكثر هيكلية (كاتباع طرق رورشاخ).

فضلا عن هذا، اظهر بحث مصاغ بشكل جيد في عام 1950 ان طريقة رورشاخ لم تكن اكثر فائدة (كانت بالحقيقة اقل فائدة) من مقياس شخصية اكثر موضوعية، وهو مقياس مينيسوتا متعدد الاوجه  للشخصية  MMPI، حيث ظهر انه كان كثيرا ما يعتبرا اشخاصا اصحاء مصابين بأمراض نفسية. واظهرت بحوث لاحقة ان هذه الطريقة اضافت القليل ان لم تكن قد اضافت شيئا الى صحة المعلومات المتراكمة من التاريخ المرضي للشخص ومعلوماته الشخصية الاخرى. وفي بداية الستينات كان رأي اكثر أخصائيو علم النفس، المهتمين بالابحاث والمنهج العلمي،  ان طريقة رورشاخ لم تكن اداة ذات فائدة.

قادت الانتقادات ونقص الدليل العلمي الى محاولات لاعادة صياغة طريقة رورشاخ. كان اكثر هذه المحاولات نضوجا والذي يعزى الفضل اليه في انقاذ رورشاخ من ان يرمى في مقبرة الفحوص النفسية هوالنظام الشامل لجون اكسنر (John Exner’s Comprehensive System) الذي احتوى على مراجعات للكتابات المتعلقة بطريقة رورشاخ والمعايير التي تأخذها ودليل للاستخدام، اي انه احتوى على كل ما ينقص النظرية في ذلك الوقت. وقاد اكسنر بحثا كبيرا حول مقبولية واصحية المعايير التقليدية، وفي نفس الوقت قام بابتكار معايير جديدة. تم تصوير اكسنر على انه  “استطاع وحده انقاذ رورشاخ  واعاده الى الحياة”. ثم بدأت نتائج البحوث تظهر من قبل باحثين اخرين عن اكسنر وزملائه،  اختلاف واضح عن تلك المذكورة في النظام الشامل (CS) لاكسنر. وفي الواقع ان غالبية الدراسات المؤيدة والموجودة في اخر نسخة من دليل النظام الشامل هي دراسات غير منشورة اجريت من قبل اكسنر وزملائه في ورش رورشاخ البحثية.

وعندما بدأت تتجمع بحوث حول النظام الشامل (CS)  من اشخاص لا علاقة لهم باكسنر وورشة رورشاخ البحثية في الثمانينيات والتسعينيات، ارتقت وتيرة المخاوف من جديد، نفس  تلك التي ظهرت في الخمسينيات والستينيات: اعتبار اشخاص اصحاء مرضى و الدقة التشخيصية الواطئة للحالات النفسية عدا الاضطرابات الذهانية وانعدام الرابط مع المقاييس الموضوعية لعلم امراض النفس والشخصية. وحتى المعايير التي استخدمها النظام الشامل تختلف بشكل كبير عن تلك الناتجة من دراسات اخرى. وقد وجدت اخطاء في معايير اكسنر نفسه، حيث وجد ان ثلث عينته المعيارية لم يكن لها وجود، ففي تقريره 221 من اصل 700 من مواضيعه المعيارية كانت من تقارير مكررة. ومما يثير الاهتمام، ان معظم الدراسات المؤيدة لرورشاخ تم نشرها مؤخرا في مجلة تقييم الشخصية Journal of Personality Assessment)) وهي مجلة محترمة تنشر كميات ضخمة من الابحاث ذات القيمة العالية. لكن يصدف ايضا انها المجلة الرسمية لجمعية تقييم الشخصية، التي تكونت اساسا كمؤسسة رورشاخ، والتي تكاد تدار حصريا من قبل محررين مناصرين بقوة لاستخدام طريقة رورشاخ.

ماذا يمكن ان يقال عن استخدام طريقة رورشاخ في البيئة السريرية؟ مما يثير الاهتمام ان كلا من المناوئين والمؤيدين  يتفقون على انها لا يجب ان تستخدم كأداة في التشخيص. وشاهد ذلك “ان بيانات رورشاخ هي ذات فائدة قليلة في تحديد ماهية الاعراض المحددة التي يظهرها الشخص… وتبعا لذلك، فان طبيعة هذه الاعراض يمكن تحديدها بالسؤال المباشر عنها بدلا من محاولة تخمين وجودها”. وفي التطبيق السريري يمكن تطبيق بعض من مقاييس النظام الشامل على الذكاء والاضطرابات الذهانية، كما وجده نظام رورشاخ الاصلي قبل 90 سنة. لكن عند ربطها مع الفئات التشخيصية التي تستخدم في الوقت الحاضر، لا يوجد دليل علمي يعتد به يثبت ان استخدام طريقة رورشاخ وفق دليل النظام الشامل يمكن ان يساعد بدقة ثابتة في تشخيص الامراض العقلية بشكل عام (تستثنى من ذلك الامراض الذهانية)، او تشخيص اي فئة محددة من الامراض مثل القلق والمزاج واضطرابات التغذية. وعلى اي حال هناك مقياس اخر غير النظام الشامل – مقياس اليزور للقلق –  الذي  يختض بالسلوكيات القلقة، لكنه غير دقيق لاضطرابات بعينها. لسوء الحظ يعتبر هذا المقياس كأداة بحث فقط، لفقدانه للمعايير القياسية واساليب الاستخدام.

وخلاصة الحديث هي ان طريقة رورشاخ التي رأت النور في 1922 كفحص مهزوز نظريا، ولا يحظى بتأييد تجريبي واسع لمعظم الامراض النفسية (تستثنى من ذلك الاضطرابات الذهانية) ، وعلى الرغم من مرور ما يقارب ال90 سنة من البحوث والتجارب عليه، وظهور نسخ متعددة من المقاييس ومعايير الاستخدام، فأن معظم الادلة الموجودة اليوم تشير انه لم يتغير كثيرا خلال كل تلك السنوات. لا يوجد اي دليل معقول ومؤيد تجريبيا لاستخدام رورشاخ كأداة لتشخيص اي اضطراب عقلي.

المصدر

http://www.skepticink.com/gps/2012/12/18/the-rorschach-inkblot-method-science-or-pseudoscience/