تشغل قصص العمالقة حيزاً خاصاً على مواقع الإنترنت، يتجه البعض إلى الاعتقاد بوجود العمالقة في عصر التوراة، واستمرار وجودهم إلى أوائل القرن العشرين، إلى أن ظهر التطوريون مع عزمهم على الحفاظ على نظرية داروين وأطاحوا بتلك الاعتقادات.
تتم الإشارة إلى العمالقة في بعض الأحيان بالكلمة العبرية الأصل “نيفيلم” والتي تعني الجبابرة.
ما هو أصل هذه الكلمة؟ وهل الجبابرة هم ذات العمالقة المتعارف عليهم؟ سوف نتعمق اليوم في التاريخ ونكتشف إذا ما كان لتلك المخلوقات وجود في تاريخنا الأدبي والأثري.
تحدثنا في مقال سابق عن قصة “فيضان تارتاريا”، تدعي هذه الرواية بأن العمالقة كانوا متواجدين في جميع أنحاء الأرض قبل العام 1800 كدليل على ذلك يشير المؤمنون بوجود العمالقة إلى صورة فوتوغرافية قديمة لشخص يدعى “روبرت والدو” والذي توفي عام 1940 عن عمر يناهز الثانية والعشرين جراء مضاعفات متعلقة بحالة صحية تدعى “العملقة” والتي جعلته بذلك أطول رجل في العالم بما يعادل 8،11 قدم، وقد استمر نموه إلى يوم وفاته.
يدعي المؤمنون بالتاريخ البديل بأن حضارة كاملة قد طمست جراء الفيضان العظيم -فيضان تارتاريا- مما أدى لمقتل جميع العمالقة الآخرين، ويلاحظ بشكل جلي بأن هذا التخمين ينقصه التفسير المنطقي لسبب غرق العمالقة فقط دوناً عن الكائنات الأصغر حجماً كالبشر على سبيل المثال _ الدليل الرئيسي على حدوث هذا الفيضان فعلاً هو امتلاك الأبنية في بعض المدن لطوابق دون مستوى الشارع ويبدو أن الفيضان قد أجبرهم على الاستغناء عنها بعد أن غمرها كلياً.
يتبنى الأشخاص الشغوفين بالتاريخ البديل غالباً، قصصاً خيالية مبهرة، ويواجهون التاريخ الحقيقي بالعدائية والازدراء، ويأتي الإنترنت وما يتردد في فضائه من ترهات ليؤكد تلك القصص ويجعلها تبدو أقرب للواقعية، فيتم تناقل جميع الأدلة والبراهين التي تدعم تلك الروايات، ويتضمن هذا عادة صوراً معدلة على الفوتوشوب لاستخراج هياكل عظمية ضخمة وغيرها من الأمور.
بعض هذه الأدلة يتخذ منحى الشرعية السماوية حيث فسر البعض كلمة “الجبابرة” المذكورة في الكتاب المقدس على أنها تعني عمالقة حرفياً.
ما هو المرجع الأصلي لهذا الادعاء؟ ربما نحصل على الإجابة عن هذا السؤال في سفر التكوين، الآية 6:4، والتي جاء فيها:
“كان في الأرض طغاة في تلك الأيام، وبعد ذلك أيضاً، إذ دخل بنو الله على بنات الناس وولدن لهم أولاداً، هؤلاء هم الجبابرة ذوو الاسم منذ الدهر”.
إذا، هذه الشخصيات التي تُدعى “أبناء الله” أنزلت إلى الأرض وأنجبت من نساء البشر ذرية الجبابرة، فمن هم أبناء الله؟ لا يوجد جواب موثوق لهذا السؤال، يصف البعض الجبابرة بالملائكة الهابطة من السماء، فربما “أبناء الله” هم أيضا ملائكة هبطت من السماء وأنجبت أبناء الآلهة الذين هم الجبابرة.
حسناً، هذا جيد، إلا أنه لا وجود لذكر أبناء الآلهة أو أنصاف ملائكة-أنصاف بشر في أي مكان آخر في الكتاب المقدس، لعله تفسير خاطئ للآية، أو انحراف باللغة، عملياً، لا يوجد تفسير ثابت ومتماسك لما تعنيه هذه الآية، ربما هو لا يعدو عن كونه ترجمة ضعيفة أو صياغة سيئة في الأساس.
يوجد ذكر آخر للجبابرة في سفر العدد، الآية 13:33 ، عندما خرج بعض الجواسيس لاستكشاف أرض كنعان لكنهم وجدوا فيها أناساً أشبه بالعمالقة في ضخامتهم، حيث جاء فيها:
“وقد رأينا هناك الجبابرة، بني عناق، لكننا في أعيننا كالجراد وهكذا كنا في أعينهم”.
نحن لا نعلم من هو “عناق” هذا، كل ما نعلمه أنه من المفترض أن يكون رجل قوي وضخم البنية، أي عملاق.
في العبرية كلمة “عناق” هي مرادف للعملاق أو القلادة أو الرقبة الطويلة.
عندما نقرأ بعض النقاشات العلمية حول هذه الآية، نجد أن البعض ذهب إلى أن العمالقة قد عاشوا فعلا هناك، وكان البشر كالجراد مقارنة بهم، يعتقد البعض الآخر بأن الجواسيس الذين ذهبوا إلى أرض كنعان خافوا من الدخول إليها فاختلقوا هذه الرواية، بينما رأى آخرون أن البشر الذين تواجدوا في كنعان كانوا أطول من الاسرائيليين، وبالطبع هناك دائماً احتمال أن الكتاب المقدس مجازي وفي بعض الأحيان خيال مطلق.
ببساطة، تفتقر هذه الآية إلى السياق الذي يمكننا من تقديم أي تفسير موثق وذا مغزى، بتعبير آخر، الوثائق التي تستند إليها أسطورة الجبابرة واهية للغاية، مع ذلك، هناك العديد من الإدعاءات المذكورة التي تشكل مزيجا قوياً مقنعاً، فالأشخاص الذين يحاولون إثبات أن الكتاب المقدس وثيقة تاريخية لا تقبل الجدل متعصبين جداً لقضيتهم، شأنهم شأن دعاة التاريخ البديل.
هناك كتاب مثل ستيف كويل ولين مارزولي وروب سكيبا، كتبوا الكتب وألقوا المحاضرات وصنعوا الأفلام الوثائقية بغرض إثبات صحة تلك الادعاءات بشأن العمالقة. لقد ربطوا بين الروايات القديمة حول وجود الكائنات الفضائية وبين آيات الكتاب المقدس. على سبيل المثال، ليؤكدوا صحة ما جاء في الكتاب المقدس، إدعوا بأن “أبناء الله” ما هم إلا فضائيين قد زاروا الأرض وأنجبوا نسل العمالقة. كما يقوم هؤلاء الكتاب باتخاذ ادعاءات قديمة وغير صحيحة في مجال علم الآثار كدليل، مثل اعتبار عظام الثدييات الضخمة القديمة المكتشفة كالماموث، عظام عمالقة، أو اتخاذ الجماجم المشوهة لبعض القبائل القديمة التي كان شعبها يمارس تقليد ربط الرأس وشده من أجل التزين، كدليل على وجود العمالقة. وهناك المزيد من التفسيرات الخاطئة لأمور كثيرة بغرض إثبات وجود العمالقة من قبل هؤلاء الكتاب، بالإضافة إلى ادعائهم بأن علماء العصر الحديث يسعون لطمس هذه الحقائق.
التقارير المزيفة عن العمالقة ليست ظاهرة إنترنت حديثة، حيث يُظهر البحث في مقالات الصحف في الفترة ما قبل الحرب العالمية الأولى، العديد من الأمثلة. إليكم مثالاً من تينيسي عام 1845، من صحيفة “واشنطن تلغراف” :
“لا يشك أي شخص رأى هذه العظام أو فحصها بأنها ممكن أن تكون عظام بشرية؛ جميع العظام الكبيرة سليمة، والجمجمة والأذرع وعظام الفخذ والركبة واعوجاج الكتف، جميعها تشير إلى أنها غير بشرية، يبدو أن الهيكل العظمي بكامله يبلغ طوله حوالي 18 قدماً، و 19 قدماً لو وقف بشكل كامل.
في عام 1892، أفادت صحيفة “كانساس سيتي ستار” بوجود مثل هذه العينة في ولاية إنديانا:
“تم العثور على خمسة وعشرين هيكلاً عملاقاً لشعب الهنود الحمر، على بعد ميلين غرب المدينة في حفرة رملية على الجرف العالي لنهر “شوجار” ، وما زالت التنقيبات جارية لاكتشاف المزيد من هذه العظام العملاقة. آخر هيكل عظمي تم العثور عليه بلغ سبعة أقدام، يثبت الفخذ وحده أن الهيكل يعود لشخص عملاق، وعظام الحوض تبلغ ضعف حجم عظام الإنسان العادي.
وفي بيركلي، عام 1903، بحسب ما نشرت صحيفة “سان فرانسيسكو كول” :
“العظام التي اكتشفها الكابتن شيتيندن تشكل هيكلاً كاملاً تقريباً، لا ينقصه إلا الفقرات. الفخذ كبير الحجم، ويشير بحسب المعايير الحالية إلى أن صاحبه يجب أن يبلغ طوله 8 أقدام و5 بوصات على الأقل. نصف الجمجمة مندثر ولكن يٌظهر النصف المتبقي أن الرأس يتسع لمخين مقارنة بإنسان العصر الحديث.
تلعب مؤسسة “سميثسونيان” الدور الشرير في هذه الرواية، حيث يراها بعض المؤرخين البديلين حارساً شريراً للمعرفة المقدسة، يروج فقط للعلوم الضيقة الأفق المتداولة، ويطمس الحقائق الجميلة حول العمالقة، والرحالة القدماء، وجماجم الكريستال وما إلى ذلك.
تم نشر مقالات كاذبة تدعي تدمير “سميثسونيان” لعدد هائل من عظام العمالقة بقصد إخفاء حقيقة وجودهم :
“يدعي المتحدث باسم AIAA، جيمس تشوروود، بأنه قد تم الكشف عن عناصر جديدة خلال المحاكمة، حيث اعترف عدد من أبواق “سميثيونيان” بوجود وثائق تزعم بأنه قد تم تدمير عشرات الألاف من عظام البشر التي يبلغ طولها بين 6 أقدام و12 قدم، وهو أمر لا يعترف به عالم الآثار لأسباب مختلفة”.
تمتلك “ناشيونال جيوغرافيك” أيضا حصتها من تلك المقالات الكاذبة :
“اكتشف فريق البحث ألواحاً قديمة تحتوي على نقوش تنص على أن “براهما”، الآلهة الأسطورية الهندية، خلقت شعباً عملاقاً، فقد كانوا كبار الحجم وطوال القامة ذوي قوة هائلة قادرة عل اقتلاع الشجر من جذوره، لقد خٌلقوا ليحلوا السلام فيما بيننا فقد كنا على خلاف دائم”.
هذا يكفي، يمكننا أن نستمر في قراءة هذه القصص لمدة أسبوع، فما الذي يجمع بين كل هذه الاكتشافات؟ أو بالأحرى، ما الذي يفتقدونه؟ لا يوجد أي دليل علمي مثبت. في مقال يتحدث عن العظام، من المفترض أن يكون هناك على الأقل عظمة واحدة،لكن لا وجود لأي عظمة في كل هذه القصص العديدة، لم يتم أبداً إكتشاف أي عظمة، ولا يوجد أي صورة لعظمة، لم يتم كتابة ورقة أكاديمية واحدة. لا يوجد أي عظمة بشرية عملاقة في أي مكان، سواء في متحف أو أرشيف جامعة أو مجموعة خاصة.
وهكذا، يفشل هذا الجهد الحديث الذي نراه لإثبات فرضية الكائنات الفضائية عن طريق الاستشهاد بجبابرة الكتاب المقدس، بنفس الطريقة التي يفشل بها إثبات وجود الأقزام عن طريق الادعاء بوجود حصان وحيد القرن. على الرغم من ترددي في تذكير هؤلاء الكتاب بأساسيات الطريقة العلمية، سأقوم بهذا على أي حال. العلم هو عملية إيجاد تفسير قابل للاختبار، وعندما يتم دعم هذا التفسير بدليل قوي يأتي من عدة مصادر، فإنه يتحول إلى نظرية. أول خطوة يجب اتخاذها هي الملاحظة : في هذه الحالة، وجود عظام بشرية عملاقة يمكن اختبارها ودراستها، للوصول إلى استنتاجات، بدون مثل هذه العظام، ليس لدينا أي شيء لتفسيره وتأكيده. عندما يقوم الكتاب بتلك العملية بشكل عكسي- بالتأكيد على أن الكتاب المقدس حقيقة حرفية بسبب وجود الكائنات الفضائية القديمة، وبالمضاربة في تضخيم الأكاذيب القديمة – فإن ذلك يعني أنهم لا يقومون بالعلم؛ بل إنهم ينغمسون في الأوهام وبطريقة غير مقنعة.
وبالتالي، فإن الجبابرة ليسوا جزءاً من أي تاريخ حقيقي، ولا ينبعون من أي أحداث فعلية سواء كانت حديثة أو تاريخية. ربما يتم العثور على عظامهم غداً ونتمكن من عكس هذا الاستنتاج؛ لكن ذلك سيكون اكتشافاً مذهلاً حقاً.
المقال الأصلي:
Brian Dunning, The Hard Fall of the Nephilim, Skeptoid Podcast #887, June 6, 2023