في العاشر من مايو 2023، انحدرت مجلة Nature إلى مستوى جديد عندما مكنت وبسذاجة أحد أكثر أشكال العلوم الزائفة تفشيًا في عالم التوحد. التواصل المُيسر[1] (facilitated communication)، وهو أسلوب تم تفنيدُه بشكل شامل في تسعينيات القرن الماضي، عاد مجددًا بأشكال متعددة مثل طريقة التحفيز السريع ((RPM[2]، التهجئة للتواصل (S2C)، أو ببساطة “استخدام لوحة الحروف”. هذه المتغيرات تنتشر بسرعة في عالم التوحد. ويبدو أن بإمكاننا اعتبار محرري مجلة “نيتشر” من بين أولئك الذين تم خداعهم بهذه الطرق.
جميع هذه الأساليب تتضمن أفرادًا غير ناطقين يقومون بالكتابة على لوحة المفاتيح أو يشير لحروف على لوحة الحروف لتهجئة الرسائل؛ ومن الناحية الظاهرية، تكون النتائج معجزة حقًا. أشخاص لم ينطقوا جملة كاملة في حياتهم، ناهيك عن تعلم القراءة، فجأة يصبحون قادرين على كتابة مقالات وقصائد وروايات. يبدو أن لديهم ذكاءً خفيًا لم يتخيله أحد من قبل. المشكلة الوحيدة هي أن كل هذه التقنيات تشترك في شيء آخر – ألا وهي مشاركة شخص آخر. في حالة الاتصال الميسر، يمسك “الميسر” بيد أو معصم أو مرفق الشخص الذي لا يستطيع الكلام أثناء كتابته. أظهرت الاختبارات مزدوجة التعمية التي نُشرت في تسعينيات القرن الماضي أنه في كل حالة، كان الميسر الذي يجيد الكتابة هو الذي يكتب الرسائل، وليس الشخص الذي لا يستطيع الكلام. عندما تمت مواجهتهم بأسئلة لم يتمكن الميسر من الإجابة عليها، كانت الرسائل المكتوبة غير صحيحة. في كل مرة. في عملية تشبه لعبة الويجا، كان الميسرين يتحكمون بالاتصال بشكل لا واعي.
المشتقات الجديدة للاتصال الميسر تنطوي على قيام الشخص الذي لا يستطيع الكلام بالإشارة إلى لوحة الحروف باستخدام إصبع أو قلم رصاص؛ ولكن بدلاً من وضع لوحة الحروف ببساطة على طاولة، يمسك “شريك الاتصال” بلوحة الحروف في الهواء. ليس واضحًا لماذا يتطلب الأمر ذلك، ولكن من الواضح أن تورط شخص آخر يشوش حقيقة من يكون الكاتب الفعلي. هل يلامس الإصبع لوحة الحروف، أم أن لوحة الحروف تلامس الإصبع؟ إن الفيديوهات المتاحة للجمهور غالبًا ما تُظهر لوحات الحروف ترتفع في الهواء بينما الشخص الذي لا يستطيع الكلام ينظر إلى مكان آخر. علاوة على ذلك، ربما بعدما تعلموا الدرس من تسعينيات القرن الماضي، فقد تجنب مروّجو تقنيات لوحة الحروف هذه المشاركة في الأبحاث التي من شأنها أن تظهر بشكل قاطع من هو مؤلف الرسائل.
نظرًا لاستنفاد البيانات الداعمة لهذه الأساليب بشكل كامل، أصدرت العديد من المنظمات المهنية بيانات موقف تعارض استخدام الاتصال الميسر (انظر القائمة هنا)، وأصدرت جمعية النطق واللغة والسمع الأمريكية بيانًا يعارض استخدام الاتصال الميسر، مشيرة إلى أنه “لا يجب أن يفترض أن المعلومات التي تم الحصول عليها من خلال استخدام الاتصال الميسر هي اتصال الشخص ذو الإعاقة”.
كل هذه المعلومات الأساسية هي معرفة عامة، يمكن لـ “نيتشر” الحصول عليها بسهولة، ولكن يبدو أنهم قد تجاوزوها أو اختاروا تجاهلها. كانت قصتهم المميزة الصادرة في 10 مايو بعنوان “أفضل طريقة للقيام بذلك بشكل صحيح هي الاستماع إلينا” – الأشخاص الذين يعانون من التوحد يسعون للحصول على صوت أقوى في الأبحاث”، ويزعم أن الاقتباس في العنوان قد جاء من أحد المدافعين عن المصابين بالتوحد غير الناطقين والذي يظهر في صورة مصاحبة يشير إلى لوحة حروف مرفوعة في الهواء من قبل شخص خارج إطار الصورة. نظرًا لعدم استناد الاقتباس إلى طريقة اتصال مبنية على أدلة، ليس لدينا وسيلة للحكم على ما إذا كانت هذه هي كلمات الشخص غير القادر على الكلام أم لا. وحتى يوافق أنصار هذه الأساليب على إجراء اختبارات، فلن نستطيع أن نعرف.
ليست هذه هي المرة الأولى التي يتم خداع مجلة علمية مرموقة بأساليب اتصال مشكوك فيها مع المصابين بالتوحد. في عام 2020، نشرت مجلة “Scientific Reports” التي تعتبر فرعًا من “نيتشر” دراسة تفصيلية باستخدام تتبع العين لمستخدمي لوحة الحروف التي زعمت أنها تظهر أن الأشخاص غير القادرين على الكلام هم من مؤلفو رسائلهم، ولكن هذه الدراسة لم تحاول إجراء اختبارات أبسط بكثير – مثل تلك التي تم استخدامها في تسعينيات القرن الماضي مع الاتصال الميسر – التي كانت ستحسم السؤال بوضوح. وقد أثارت دراسة تتبع العين بعد ذلك عددًا من الانتقادات، بما في ذلك انتقادي. في عام 2018، نشرت مجلة “Behavior and Brain Sciences ” مقالًا استدلت فيه على أدلة تدعم حججها من اقتباسات من أشخاص لديهم التوحد. على الرغم من أن الكتّاب لم يعترفوا بها أبدًا، إلا أن نسبة كبيرة من هذه الشهادات تم الحصول عليها من خلال الاتصال الميسر وتم قبولها ببساطة على أنها تقارير حقيقية من أشخاص لديهم التوحد. كما شرحت في مقال سابق لي، “مغامرة في مراجعة الأقران“، لا يزال يُذهلني أن يتم نشر المقال مع تلك الاقتباسات المشمولة.
ما الذي على المحك؟
ظهرت هذه الجدلية المتجددة حول طرق الاتصال في سياق معركة سياسية أكبر داخل مجتمع التوحد. كانت قصة “نيتشر” حول الجهود التي يبذلها بعض المدافعين عن التوحد لضمان مشاركة الأشخاص ذوي التوحد بشكل أكبر في تخطيط وتنفيذ أبحاث التوحد. من ناحية نظرية، تبدو هذه فكرة جيدة، ولكن هذه الجهود قد تم الهيمنة عليها إلى حد كبير من قبل المدافعين اللفظيين عن الطيف الأعلى أداءً من طيف التوحد. كما هو معرّف حالياً، فإن اضطراب طيف التوحد(ASD) له نطاق واسع للغاية يمكن أن يشمل كلاً من خريجي جامعة هارفارد ذوي اللفظ العالي وأشخاصًا غير قادرين على الكلام يشتركون في سلوكيات تكرارية ومؤذية للذات. وهو يشمل كل من الأشخاص الذين سيكونون بخير وربما يزدهرون في العيش بشكل مستقل والأشخاص الذين لن يكونوا قادرين أبدًا على العيش بشكل مستقل دون دعم كبير.
يُجادل آباء الأطفال ذوي الطيف الشديد في أن احتياجات أطفالهم تختلف كثيرًا عن تلك الخاصة بالمدافعين عن أنفسهم لفظيًا في الطرف الآخر من الطيف. علاوة على ذلك، إذا تم توجيه خطة البحث من قبل الأشخاص على الطيف الأقل شدة، سيترك الأمر حوالي ثلاثين في المئة من الأطفال الذين يعانون من التوحد ولن يتمكنوا أبدًا من تطوير قدرة الكلام وسيتم إهمالهم.
تجنيد مستخدمي لوحة الحروف
أخيرًا، في تحالف غريب، تم استقطاب بعض أولياء الأمور للأفراد غير القادرين على الكلام الذين يؤمنون بالاتصال الميسر [احدى طرق التواصل المثيرة للشك المقترحة للمصابين بالتوحد] أو إحدى مشتقاته، لهذه المعركة من قبل المدافعين عن الطرف الأكثر تطرفاً من المزاعم حول التوحد. وبالتالي، لدينا حالة غريبة لمقال في مجلة علمية مثل مجلة “نيتشر”، والتي تستمد عنوانها من اقتباس قالت جمعية النطق واللغة والسمع الأمريكية: “لا ينبغي أن يُفترض أنه اتصال الشخص ذو الإعاقة”. ليس لدينا دليل على أن الشخص الذي تم اقتباسه قال تلك الكلمات، ومع ذلك تم تقديمها كمثال حي لحركة سياسية متطرفة للغاية. في رأيي، هذه هي المهزلة الحقيقة. لقد حققت هذه الشخصية شهرة بارزة، بما في ذلك اقتباسات وصورة في مجلة علمية مشهورة، ومع ذلك، تشير الأدلة العلمية المتاحة إلى أنه بدلاً من أن تتحدث باسمها، تم كبت صوتها واستبداله بصوت شخص آخر. قد يكون كل هذا قد حدث بأفضل النوايا، ولكن إذا كنت على حق، فإن هناك ظلم كبير. ومجلة “نيتشر”، التي ينبغي أن تكون على دراية أفضل، متواطئة في تحقيق ذلك.
للمزيد من المعلومات حول مخاطر الاتصال الميسر، يُمكن زيارة الموقع facilitatedcommunication.org.
المصدر:
Stuart Vyse, The Journal Nature Falls for Autism Pseudoscience, Skeptical Inquirer, May 16, 2023
[1] التواصل المُيسَّر(FC) هو عملية يقوم فيها شخص يشار إليه باسم «الميسر» بدعم ذراع أو يد شخص مصاب بشيء يعوقه عن التواصل أثناء استخدام لوحة الأحرف أو أجهزة أخرى بهدف مساعدته في الإشارة ومن ثم التواصل.
[2] هي تقنية علمية زائفة تحاول مساعدة الأشخاص المصابين بالتوحد أو معوقات أخرى في التواصل من خلال التأشير أو الكتابة اليدوية أو على جهاز إلكتروني.
نشر هذا المقال في مجلة العلوم الحقيقية العدد 57 وراجعته لغوياً ريام عيسى