لحم وملح وماء: حمية بيترسون الزائفة. هل حقاً هناك من يحتاج الا يأكل سوى الملح واللحم والماء؟
يبدو العنوان غريبًا بعدما كتبته، لكنه بالفعل كذلك، ميكايلا ابنة السيكولوجي الشهير جوردان بيترسون تروج لحمية بهذا الشكل ويروج لها والدها أيضاً، وهناك زعم (لم نتحقق أهو سوء فهم من الجمهور أم هو زعمهم) بأنهم يعانون من حالة وراثية تحول دون تناولهم لأي طعام آخر. وبما أن الموضوع بأكمله يدور حول أشخاص مشاهير فإن تفاصيل ذلك المرض الوراثي معروفة أيضاً، تعاني ميكايلا من التهاب المفاصل الروماتويدي (Rheumatoid arthritis) وللأسف فقبل أن نبذل أي جهد في تفنيد أي جزء آخر من حمية الأسد لا بد أن نوضح أنه لا توجد أي تعليمات طبية تنصح المصابين بالتهاب المفاصل الروماتويدي بتناول اللحم فقط ولا توجد تعليمات غذائية واضحة لمواجهة الأمراض ذاتية المناعة[1].
حمية الأسد كما تسميها ميكايلا بيترسون هي حمية شديدة التطرف في النظر إلى المواد الغذائية، ومثل كثير من أشكال التطرف فإن الأرضية المنطقية تبدأ بالتلاشي. ليست حمية اللحم والملح والماء هذه هي نظير للحميات منخفضة الكربوهيدرات بل هي حمية صفر كربوهيدرات، وهي ليست أيضاً نظيراً أو صنفاً من الحمية الكيتوجينية فهي لا تعطي أهمية للدهون كما أنها لا تعطي أي أهمية لكافة أبعاد التغذية والقيم الغذائية المختلفة للمواد. لكن لنتمهل، أين كل التفاصيل عن الحمية المزعومة هذه؟ في الحقيقة ربما نبالغ بالكتابة عن حمية بيترسون فصاحبة الحمية ذاتها لم تحترمها لتقدم لنا أدلة مناسبة ووصف متكامل. حتى الدجالين يكتبون في أحيان كثيرة كتباً تلخص آرائهم، أما بيترسون فلم تقدم سوى ملاحظات متناثرة بمدونتها.
في مدونتها، نجد تبويباً بعنوان “حمية الأسد” وماذا هناك؟ حكمة كبيرة: “كيف تستطيع أن تختبر علمياً وبدقة جميع الأطعمة التي تزعجك؟ احذف كل شيء ثم خذ ما يضم كل ما يحتاجه جسمك”. ثم نجد الكثير من الكتابات المتناثرة لاحقاً والتي تتضمن كل شيء من أدوات المطبخ إلى تجارب الزبائن الممتنين، لكنها تفتقر لشيء واحد: الأدلة، اللهم إذا ما اعتبرنا ما نشرته عن موقع باليوميديسينا الهنغاري (Paleomedicina Hungary) دليلاً. للوهلة الأولى تخالها دراسة، لكنها منشور بوستر يتضمن زعماً باختبار حمية العصر الحجري الكيتوجينية (Paleolithic ketogenic diet) على 4000 شخص دون أن نجد تفاصيلاً لذلك. طبعاً ما يروج له هذا الموقع ليس شبيهاً بما تروج له بيترسون بل تسمح حميتهم بتناول الخضار والفواكه والحليب والكثير من المنتجات، ومنشوراتهم التي اعتبرتها بيترسون دليلاً هي من ذلك الصنف من أقوال الصحف التي تجمع دراسات استحسنت او ذكرت مضار شيء ما دون أن تعطي صورة كاملة. دليل على شاكلة “البصل يشفي من سرطان البروستات”.
يستطيع البشر تناول اللحوم فقط، أو الخيار فقط، أو نوع واحد من اللحم – مثلما تفعل بيترسون وأبيها – وأن نبقى مع ذلك على قيد الحياة، لكن مفاهيمنا للتغذية وما نحتاجه من مغذيات وحتى تسميات الفيتامينات والمواد الغذائية كلها مؤسسة على كوننا قوارت وأننا نأكل الحيوانات والنباتات سوية.
أما بيترسون الأب فهو ليس بريئاً مما يحدث بل هو شريك ومروج، ودأب على ذكر أنه لا ينصح أحداً بل فقط يذكر تجربته وهذا ما تفعله ابنته ايضاً، ولعل هذا يعفيهم من المسؤولية القانونية مثلما يفعل السطر الذي كتبته أسفل موقعها “انا لست طبيبة انا اكتب قصتي فحسب”، لكن في نفس الوقت فإن ميكايلا قدمت استشارات مدفوعة الثمن في السابق وهي مستمرة في الترويج لحميتها ليس كخرافة شخصية بل كحمية جيدة للصحة، وكما عهدنا في الترويج للخرافات، فإن تجنب الوقوع بقفص الاتهام لا يعني عدم الترويج للزيف وتضليل الملايين.
الإنسان كائن قارت، أي أنه حيواني ونباتي التغذية سوية. نعم يستطيع البشر تناول اللحوم فقط، أو الخيار فقط، أو نوع واحد من اللحم – مثلما تفعل بيترسون وأبيها – وأن نبقى مع ذلك على قيد الحياة، لكن مفاهيمنا للتغذية وما نحتاجه من مغذيات وحتى تسميات الفيتامينات والمواد الغذائية كلها مؤسسة على كوننا قوارت وأننا نأكل الحيوانات والنباتات سوية، وكذلك الحال مع الرئيسيات والكثير من الثدييات. ماذا يعني ذلك؟ ببساطة يعني أن تقييد التغذية سيخلق مشاكل كثيرة، أولها ما نعرفه بمفاهيم التغذية الحالية بنقص الفيتامينات، وليس آخرها الوفاة نتيجة أصناف من السرطان مثل سرطان القولون، وإن كانت أدلة بيترسون على حميتها من صنف البوستر الهنغاري الذي أشرنا إليه والذي ليس له أي إشارة في الأبحاث، فإن السرطان الناتج من نقص الألياف في حميتها أشارت له دراسات نالت المئات من الاستشهادات. [2] [3]لكن هل تطرقت بيترسون لسرطان القولون في خربشاتها بموقعها؟ كلا بالتأكيد، ربما لم تدرك ذلك بعد ربما. ماذا عن نقص التغذية فيما لن يتوفر في لحوم المجترات من فيتامينات ومواد؟
الزعم الآخر من صاحبة هذه الحمية هو أنها شفيت من الاكتئاب كنتيجة لتناول اللحم فقط. لابد أن نتفادى الوصف غير المنطقي لحميتها والتي تقوم على تناول لحوم المجترات فقط (ليس الدجاج حتى) وأن ننظر في حقائق من مستوى أعلى مثل دور الحمية الكيتوجينية في معالجة الاكتئاب. هناك دراسات على مستوى التجارب على الفئران[4] ودراسات على المستوى العصبي[5] لكن هناك أيضاً من درس الاكتئاب تحت تأثير الصيام المتقطع وذكر نتائج إيجابية[6] وأيضاً تحت تأثير حمية البحر المتوسط[7] وهناك من وجد روابطاً مع تقليل السعرات الحرارية بشكل عام[8]. نحن نتكلم عن دراسات هنا، وللأسف تفتقر حمية الأسد إلى الأسس المنطقية لتجعلها مؤهلة للنقاش الأكاديمي. لكن بشكل عام كما نرى في الأبحاث فإن الاكتئاب أمر معقد والدراسات التي تناولت أثر الحميات عليه كثيرة ومتنوعة المستويات والجواب القصير هو أن الحمية بذاتها لا يمكن أن تكون جواباً قصيراً للاكتئاب.
لماذا تفعل بيترسون هذا؟ ليس المال هو الجواب الواضح فحتى الاستشارات المدفوعة التي قدمتها كانت لفترة محدودة ولم تعد موجودة الآن في موقعها. ليست الحمية جذابة وليس هناك دعايات لمنتجات ترتبط بها. وليس من شأننا أيضاً أن نتكهن تلك الأسباب، لكن ما يمكن ملاحظته هو أن هذه الحمية هي رد فعل متطرف على فئة أخرى متطرفة (الخضريون)، وأن بيترسون الأب لطالما كان خصماً إعلامياً لجبهة أيديولوجية تتبنى النمط الغذائي المعاكس. لا نزعم أن هذا تفسير قطعي لما يجري، لكنها فقط صورة كاريكاتيرية حول ما يمكن أن يكون سبباً لهذا الترويج. هو وابنته كمن يقول: “أنتم تقاطعون المنتجات الحيوانية كلياً؟ أنا لن آكل سوى اللحم!” ولسبب ما، فما زال جانب من الأيديولوجيا مرتبطاً بالتعصب فيما نأكله، وكأن الحمية هي جزء مهم من وصفة انشاء أيديولوجيا معينة.
المصادر
[1] Palmer, Sharon. “Is There a Link Between Nutrition and Autoimmune Disease?.” Today’s Dietitian 11.13 (2011): 36.
[2] Vargas, Ashley J., and Patricia A. Thompson. “Diet and nutrient factors in colorectal cancer risk.” Nutrition in Clinical Practice 27.5 (2012): 613-623.
[3] Murphy, Neil, et al. “Dietary fibre intake and risks of cancers of the colon and rectum in the European prospective investigation into cancer and nutrition (EPIC).” PloS one 7.6 (2012): e39361.
[4] Bostock, Emmanuelle, Kenneth C. Kirkby, and Bruce VM Taylor. “The current status of the ketogenic diet in psychiatry.” Frontiers in psychiatry 8 (2017): 43.
[5] Guan, Yan-Fei, et al. “Anti-depression effects of ketogenic diet are mediated via the restoration of microglial activation and neuronal excitability in the lateral habenula.” Brain, behavior, and immunity 88 (2020): 748-762.
[6] Stockman, Mary-Catherine, et al. “Intermittent fasting: is the wait worth the weight?.” Current obesity reports 7.2 (2018): 172-185.
[7] Sanchez-Villegas, Almudena, et al. “Mediterranean diet and depression.” Public health nutrition 9.8A (2006): 1104-1109.
[8] Manchishi, Stephen Malunga, et al. “Effect of caloric restriction on depression.” Journal of Cellular and Molecular Medicine 22.5 (2018): 2528-2535.
من متابعتي لجوردان بيترسون و كلامه عن الموضوع أرى انك انت أيضا بمقالتك تأخذ جانبا متطرفا في تفسير خلفيات القصة، أي ان تفسيرك أيضا هو متطرف و ليس تفسيرا معتدلا.