بقلم: جيم الخليلي
ترجمة: حسن مازن
ان الدافع لكتابة هذه التدوينة هو مقال منشور على الانترنت (http://io9.com/5975778/scientific-evidence-that-you-probably-dont-have-free-will) والذي ناقش كيف ان تجارب علماء الأعصاب بينت ان الارادة الحرة مجرد وهم. الامر الذي كان مرفوض لعدد من السنوات (او قل لعدد من القرون) في النقاشات الفلسفية الذي يبدو انها لن تقدم لنا اجابة شافية. كفيزيائي اجد ان الفيزياء بطليعة من يتصدى للعقد العلمية الصعبة. لكن بهذا القضية, لست متاكداً من ذلك.
ما ساقوم بشرحه مستل من كتابي (اعظم تسع الغاز في العلوم – The Nine Greatest Enigmas in Science) ما يتعلق بـ”شيطان لابلاس” ] بيير سيمون لابلاس (1749 -1827) رياضياتي وعالم كونيات فرنسي اشتهر باعتناقه لمبدأ الحتمية حيث كان يرى ان الكون اشبه بآلة يحكمها قانون حتمي اذا عرفنا حالتها الحالية فسنتنبأ بالمستقبل بدقة كبيرة .. المترجم [ . باي حال فانها من شطحات الفيزياء النظرية التي ممكن ان ينظر اليها علماء الاعصاب وعلماء النفس كفلسفة ناعمة. وسيكتفي الفلاسفة بالنظر لها بسذاجة.
اسمحوا لي ان ابدأ بمقدمة بسيطة عن مفاهيم: الحتمية (determinism), العشوائية (randomness), والقدرة على التنبؤ (predictability). بالنسبة للحتمية اعني بها الحتمية السببية وهي فكرة ان الاحداث الماضية سبباً للاحداث المستقبلية ]الحتمية اللابلاسية كما سبق وبينا[ وفق هذا المنظور ان كل شيء يحدث لسبب محدد وبترتيب منطقي ينتهي الى بداية الكون نفسه.
في القرن السابع عشر جاء اسحاق نيوتن بقوانينه الرياضية التي ادخل فيها رياضياته الجديدة –حساب التفاضل والتكامل الذي كان له دور فعال في تطويره- . معادلات نيوتن تسمح بالتنبؤ بمسار الاجسام عن طريق معادلات تدخل بها صفات الجسم مثل الكتلة, الموضع, الشكل , والسرعة والقوة المؤثرة بها. وقد كانت معادلات بسيطة توفر معلومات دقيقة لما سيحصل في اي وقت في المستقبل.
ساهمت نجاحات نيوتن بترسيخ الاعتقاد الذي ساد لقرنين تاليين وهو: ان الطبيعة محكومة بقوانين محددة تعتمد على الزمن ولو حدث ان حددنا هذه القوانين وحددنا الوضع الحالي بدقة فان بامكاننا ان نتوصل إلى الوضع المستقبلي لكل شيئ في الكون, لامجال للصدفة ولاللخيار الحر ولالعدم الدقة بهذا التصور الكوني, انه التصور النيوتني للكون. للوهلة الاولى قد يعتقد البعض ان هذه الرؤية المحددة للكون تختلف عن رؤية اينشتاين التي لم تعتمد على زمن مطلق بل اصبح الزمن محلي في الكون ] حسب نسبية اينشتاين العامة والتي تعتبر بديل اكثر دقة لنظرية الجاذبية النيوتنية. فان الزمن يعتبر محلي وليس مطلق, ومن الممكن ان يختلف التزامن بين شخص متحرك واخر ساكن او متحرك بسرعة مختلفة, وكذلك يختلف التزامن بين شخص يقع بمجال جاذبية قوي وأخر يتواجد في الفضاء الخالي بدون تاثير للجاذبية .. المترجم[ , لكن في الواقع كلا التصورين للكون التصور النيوتني وتصور اينشتاين يعتبران الكون حتمي وسببي, تحدث به الاحداث لاسباب محددة ولامجال للصدفة او الاحتمالية فيه.
في العام 1886 كان المجتمع العلمي على موعد مع تحدي جدّي للنظرة الحتمية للكون, حيث عرض ملك السويد الفين وخمسمائة كرونة –وهو مبلغ كبير اكثر مما يمكن لاي شخص ان يكسبه بسنة كاملة وقتها- على من يبين ان النظام الشمسي نظام مستقر او لا. اي الاجابة على السؤال: هل ان الكواكب ستستمر بالدوران حول الشمس ام سياتي يوم تخرج به عن مجال جاذبيتها وتذهب بعيداً. انبرى لهذه المهمة بروفسور الرياضيات والفيزياء الرياضية هنري بوانكاريه. بوانكاريه اعتمد على مشكلة ابسط من النظام الشمسي, هو افترض وجود الشمس وكوكبان اخران (ليكن الارض والقمر) مما صار يعرف بمسالة الاجسام الثلاثة (Three-Body problem). لكن حتى مع السهولة النسبية لمسالة الاجسام الثلاثة لم يستطع بوانكاريه ان يجد جواب محدد ودقيق لسؤال ملك السويد! لكنه شرح السبب حيث ان الشروط الاولية المتعلقة بالكواكب مثل الموضع الابتدائي والكتلة وغيرها تؤثر بشكل كبير على النظام في المستقبل وان اي تغيرات بهذه الشروط الأولية مهما كان صغير من الممكن ان يؤدي لنتائج غير متوقعة وفوارق كبيرة. مع ذلك فان بوانكاريه استحق جائزة ملك السويد على جهوده.
اكتشف بوانكاريه انه حتى نظام من ثلاث اجسام ممكن ان يتصرف بغرابة كبيرة جداً لايمكن توقعها بسبب اختلافات بسيطة في الشروط الاولية ناهيك عن النظام الشمسي بكل كواكبه واقمارها والشهب والنيازك. لكن كان على الاثار المترتبة على عمل بوانكاريه ان تنتظر ان يمر الربع الاول من القرن العشرين ليتم استيعابها.
]ما اكتشفه بوانكاريه كان تاثر الفراشة (butterfly effect) وهو ما اعاد اكتشافه لكن بصورة اكثر منهجية ادوارد لورينز الباحث في مجال المناخ في معهد ماسوشيستس , واسس لنظرية الفوضى (Chaos Theory) وهي نظرية تبحث بسلوك الانظمة التي تكون حساسة جداً للظروف الاولية. مثل التغيرات المناخية فان اي تغير بقيم الرطوبة او الضغط الجوي او غيرها من الممكن ان يسبب اثار مختلفة عما يتم توقعه لدرجة دفعت لورينز ان يعنون محاظرة له “هل تُحدث رفرفة جناح فراشة في البرازيل اعصار في تاكساس؟!” ومن هذه المحاظرة جائت تسمية تأثير الفراشة .. المترجم[ .
عندما يتعلق الامر بالارادة الحرة فان لتاثير الفراشة ما يقوله, صحيح ان الامر بعيد عن الحل في الوقت الحاظر, ولا يزال هناك الكثير من الاختلاف الفلسفي حوله. لكن ساقدم رايي كفيزيائي نظري وانت حر في ان تختلف او تتفق معي فيه.
هناك اربع احتمالات ممكنة عندما يتعلق الامر بنوع الواقع الذي نعيش فيه
الأول: الحتمية موجودة وصحيحة, وليس بامكاننا اتخاذ قراراتنا بارادة حرة, وليست الارادة الحرة الا مجرد وهم.
الثاني: الحتمية موجودة وصحيحة, لكن لا يزال لدينا قرار بارادة حرة.
الثالث: الحتمية هي مجرد كذبة والكون عبارة عن احداث عشوائية, ولدينا ارادة حرة كاملة تحدد خياراتنا.
الرابع: الحتمية مجرد كذبة, لكن ليس لدينا ارادة حرة لاننا لا نملك ان نحدد خيارتنا بوسط عشوائية واقعنا.
على مدى الاف السنين ناقش العلماء, الفلاسفة, ورجال الدين واللاهوت. السؤال الملح: هل لدينا ارادة حرة؟. سوف احاول التركيز على جوانب من الارادة الحرة وطبيعتها وعلاقتها بالفيزياء. ولن اخوض بطبيعة الحال بمسالة العقل والجسم او طبيعة الوعي او النفس البشرية.
أدمغتنا المادية, تتكون من شبكة من مئة مليار خلية عصبية, ترتبط جميعها مع بعضها البعض بمئات الترليونات من نقاط الاتصال المتشابكة. وفقا لما نعرفه عنها حتى الآن, لاشيئ اكثر من اجهزة متطورة ومعقدة بشكل كبير تشبه نظام الكومبيوتر, رغم ان ادمغتنا تفوق تعقيد الكومبيوترات الحالية بصورة كبيرة جداً. تلك الخلايا العصبية تتكون من ذرات تتبع قوانين الفيزياء التي تحكم كل الكون من حولنا. لذا فانه – من حيث المبدأ- اذا تمكنا من معرفة المعلومات الدقيقة حول كل ذرة من هذه الذرات عند زمن معين, فانه وحسب التصور النيوتني للكون بامكننا – من حيث المبدأ- ان نعرف سلوكها المستقبلي. اي انه مع معلومات كافية استطيع ان اعرف ما ستفكر به في المستقبل. هذا الفرض يتضمن عدم التفاعل مع العالم الخارجي وبخلافه سنضطر لمعرفة الظروف الخارجية كذلك.
الان جوابي على السؤال: هل لدينا أرادة حرة ؟ سيكون نعم رغم ما سردناه اعلاه حول الحتمية. والسبب الذي يضمن لنا الارادة الحرة هي ليست ميكانيكا الكم وسلوكها التصدافي كما يروج الكثير, انما نظرية الفوضى وعدم القدرة على التنبؤ. فبحسب تأثير الفراشة ممكن لاي قرار نتخذه او ظرف نمر به ان يغير مستقبلنا وطريقة تفكيرنا بشكل جذري ؛ لذا فان عدم القدرة على التنبؤ تعطينا خيارات مستقبل مفتوحة.
هكذا وبفضل نظرية الفوضى نحن نملك ارادة حرة. افعالنا وقراراتنا تحدد اي من الاحتمالات الانهائية التي ستحصل لنا في المستقبل. ان نظام عمل ادمغتنا المعقد يجعل من عدم التنبؤ امراً لا مفر منه مع كل عمليات الفكير , الذكريات , والحلقات التي تربط بينها وبتغدية راجعة, كل ذلك يعطي لنا ارادة حرة.
سواء كانت هذه الحرية حقيقية ام مجرد زيف ووهم, فانك لا تستطيع ان تتنبأ على الامد البعيد بطريقة عمل الدماغ بسبب ما ذكرناه من تعقيد. هذا بفرض ان عمل الدماغ يخضع لحتمية مطلقة اما في حال كان بعض نشاط الدماغ يخضع لقوانين ميكانيكا الكم فالامر سيكون اكثر تعقيداً مما تناولناه.
الرابط :
http://www.jimal-khalili.com/blog/do-we-have-free-will-a-physicists-perspective.html
الصراع بين القدرية و الجبرية ما يزال مستمرا حتى الان؟
(اذا تمكنا من معرفة المعلومات الدقيقة حول كل ذرة من هذه الذرات عند زمن معين, فانه وحسب التصور النيوتني للكون بامكننا – من حيث المبدأ- ان نعرف سلوكها المستقبلي.)
—أنه ليس بامكاننا معرفة تلك المعلومات الدقيقة في الوقت الحالي لا يعني أن ذلك مستحيل ..
( افعالنا وقراراتنا تحدد اي من الاحتمالات الانهائية التي ستحصل لنا في المستقبل)
— كيف عرفت أن قراراتنا في الأصل هي بارادتنا الحرة …؟؟ أنت بدأت بافتراض أن لدينا ”ارادة حرة” لتصل الى نفس النتيجة o.O