في فيلم القدوم (The arrival) 2016 وبخلاف كل دخول سينمائي إلى العلوم والتي غالباً ما كانت تطال الفيزياء والفضاء، فإن هذه المرة كانت اللغويات هي موضع التساؤلات والتصورات الشيقة والعرض المثير لأفلام هوليوود.
يروي الفلم قصة هبوط مفاجئ لـ 12 مركبة فضائية على الأرض مما يثير مختلف مشاعر الذعر والإستغراب والفضول لدى البشر، فيلجؤون الى مختصي اللغويات، اللغويات ذلك الحقل الذي ينمو برتابة وهدوء فلا يكاد يطاله الكثير من فتوحات علم الأعصاب وينال في الوقت نفسه الكثير من معطيات اللغة مما يجعل أساسه أصلب من الكثير من فرضيات الإدراك والسلوك. نعم أدار البشر الدفة هنا الى اللغويات وكانوا أمام تساؤلات لم يقفوا أمام ما يشابهها منذ إكتشاف شعوب العالم الجديد إنه الحقل العلمي الإفتراضي “لغويات الخارجيين” (Xenolinguistics).
ما هي لغويات الخارجيين Xenolinguistics
لغويات الخارجيين (Xenolinguistics) هو حقل علمي إفتراضي لدراسة لغات الفضائيين أو الكائنات الذكية الخارجية يقترح فرضيات واحتماليات لما يمكن أن تكون عليه اللغات وكيفية إجراء الحوارات وإعداد المصطلحات بغياب أي فهم مسبق لطبيعة الآخر.
أحد أبرز الاسئلة التي تطرحها لغويات الخارجيين هي: إلى أي مدى يمكن أن تكون اللغة غربية؟ هل يمكن أن تكون نوعاً من التواصل اللاسلكي عبر الموجات؟ أو عبر موجات صوتية تختلف عن موجاتنا؟ هل يمكن أن يكون الصوت أمراً ثانوياً وأن يكون جزءاً من أدوات أخرى تستخدم في اللغة؟ هل يمكن أن تكون ايماءات فقط مثل لغة الإشارة البشرية؟ أو أن تكون حبراً مثل الذي تستخدمه الكائنات الفضائية في فيلم القدوم ؟
من الاسئلة أيضاً، هل يحتاج الفضائيون إلى لغة بالضرورة لبناء حضارة قادرة على السفر بسرعة فائقة واستكشاف الحياة في كواكب أخرى؟
يُعتقد أن اللغة يجب أن تكون موجودة بهيئة أقوال تمثل رموز للأفعال والأشياء والأزمنة بدلاً من الايماءات فذلك يستغرق وقتاً أسرع ويكون جزءاً حتمياً من بناء الحضارات المعقدة[1].
ماذا عن التخاطر أو التواصل اللاسلكي؟ بغض النظر عن صعوبة وكلفة انشاء أعضاء حيوية كفيلة بالتواصل عن بعد لأحد الكائنات التي مرت بعملية تطور من كائنات بسيطة، مقارنة بفائدة ذلك التخاطر، فهو مكلف جداً وقد يستغرق بضعة ملايين من السنوات لكي يصقل وينشأ ولن تكون له فائدة في نشوء بدايات الحياة الذكية، ومن جهة أخرى فإن التواصل الذهني اللاسلكي لن يكون سوى تواصلاً لغوياً هو الآخر.
يضع مارفين لي مينسكي (Marvin Lee Minsky) عالم النفس المعرفي مجموعة من الخصائص للغات التي يرى أن أي مجتمع يجب أن يمتلكها وهي:
- إدراك الشئ يجب أن يقود إلى نشوء الاسماء.
- حدوث تغيرات في احوال الاشياء يجب أن يقود إلى نشوء الأفعال.
بإختصار إن ما يضع آفاقاً محددة لمجال لغويات الخارجيين هو أن جميع من هم في هذا الكون خاضعون للحدود الطبيعية ذاتها من الوقت، المواد، الفضاء وإن الاحتماليات ليست مفتوحة الى ما لا نهاية. فشكل الفضائيين قد يكون حتى مشابهاً لنا كما يتنبأ البروفيسور في علم الأحياء القديمة سيمون كونواي موريس (Simon Conway Morris)[2].
اللغويات في فيلم القدوم
الجميل أنه وبخلاف الكثير من الأفلام حيث يواجه الفضائيون بالقوة فإن البشر في هذا الفيلم قرروا إرسال اللغويين، وليس ذلك بعيداً عن الواقع حيث كان الاوربيون يرسلون بعثات سلمية من المبشرين الذين يتعلمون اللغة ويكونون خطاً أولاً للتعامل مع الشعوب في العالم الجديد وأستراليا. قررت اللغوية التي تم اختيارها للمهمة أن تلجأ للكتابة البشرية كطريقة للتواصل فعرضت عليهم كلمة إنسان أولاً ثم إسمها وأسم عالم الفيزياء المرافق لها ثم الأفعال الأساسية كالمشي والوقوف والكلام، وبالمقابل فعل الفضائيون الأمر نفسه ولكن بكلماتهم المعقدة.
لم يخطأ معدو السيناريو حينما قالت الدكتور لويز بانكس بأن اللغة تعيد هيكلة ادمغتنا (Rewire our brains) فهذا ما تم إثباته فعلاً بحسب جوديث أف كرول من جامعة ولاية بنسلفانيا[3]، غير أن الكبوة الكبيرة في الفيلم والتي رسمت المنحنى الكامل لأحداثه كانت في ترسيخ الفهم الخاطئ لتلك العبارة، إذ ومع بدء الدكتورة لويز بانكس بفهم لغة الفضائيين صارت ترى رؤى غريبة وأحلام كانت تحدث واقعاً في مستقبلها، كانت ترى إبنتها وترى زواجها من الفيزيائي المرافق لها كما أنها رأت رقم هاتف الجنرال الصيني في المستقبل لتعاود الإتصال به في الماضي ليحل السلام على الأرض، ينقلنا ذلك نوعاً ما إلى مفارقة الجد[4]، والتي يُمكننا الكلام عنها على مستوى الجسيمات وإلى حد شبه محسوس لكن لا يُمكننا الكلام عن هذه المفارقة على مستوى المعرفة اللغوية بهذا الشكل، إنه خلط للأوراق بكل ما تحمل الكلمة من معنى.
إشكالية معرفة المستقبل في الفيلم لا تقل سوءاً عن الغرض الأساسي من مجئ الفضائيين بحسب القصة وهو لإعطاء أهل الأرض هدية ستساعدهم ليتمكنوا بدورهم من مساعدة الفضائيين هؤلاء الذين يعلمون أنهم سيعانون من مشكلة معينة تهدد وجودهم بعد 3000 سنة!. نكرر هنا إن اللغات مهما بلغ تعقيدها لن تصنع من الدماغ معالجاً ذرياً هائل الحجم قادر على التنبؤ بالمستقبل[5].
خيارات بدء تعليم اللغة للفضائيين مفتوحة فقد يرى بعض أصحاب الإطلاع على اللغويات أن البدء بالأرقام سيكون بداية أفضل من كلمة “إنسان”، البدء مع الأشكال الهندسية قد يعطي فهماً متكاملاً للطرفين حول ماهية ما هو معروض وهذا ما قام به البشر حينما ارسلوا رموزاً إلى الفضاء على المركبة فويجر فيما يعرف بالسجل الذهبي (Golden record)[6]. لكن بجميع الأحوال فإن مسيرة التعليم كاملةً لن تحدث فرقاً كبيراً.
في النهاية هل تبدد هذه المغالطات الروعة الفنية للفيلم؟ كلا بالتأكيد لكن فرص جعل علم اللغويات يبدو بشكل أكثر أناقة كانت متوفرة ويمكن استغلالها بدل من إستخدامه لإحداث خلط يمكن من خلاله وضع دور للمشاعر الغزيرة وبالتالي إعطاء الفلم ذلك الطعم الجميل.
مصادر
[1] Minsky; Watson, “Can there be intelligence without language?”, Bowling green state university, July 3 to August 9, 2001
[2] DAVID NIELD, “Aliens will look a lot like us, says an expert on evolution“, sciencealert.com, 3 JUL 2015
[3] أحمد الساعدي، “ثنائيو اللغة يعيدون هيكلة أدمغتهم“، العلوم الحقيقية، مقال مترجم من جوديث أف كرول – ساينس ديلي
[4] حسن إحسان، “السفر عبر الزمن يحل مفارقة الجد“، العلوم الحقيقية، مقال مترجم.
[5] حسين الستراوي، “هل لدينا إرادة حرة؟ هل خياراتنا عبارة عن وهم؟“، العلوم الحقيقية، مقال مترجم
[6] NASA jet propulsion laboratory – Voyager, “Golden record“, June 11, 2014