بحلول الخريف الماضي، كانت لقاحات فايروس كورونا المستجد قد أصبحت متوفرة بشكل واسع، ولكن بالرغم من ذلك لم تزل هنالك مجموعات كبيرة من الأشخاص حول العالم تبدي شكوكها وتعزف عن أخذ اللقاح. وقد ظهرت على الأنترنت، في هذه الفترة، العديد من المنشورات الساخرة من الجملة الشهيرة “قمت ببحث شخصي عن الموضوع”. بالطبع فإن معطيات البحث الوحيدة التي يحتاج هؤلاء الأشخاص لأن يطلعوا عليها هي نسبة الوفيات من فايروس كورونا المستجد في غير الملقحين. ولكن كما يبدو فإن رافضي اللقاح يركزون على أمور أخرى.
معظمنا يعلم أنه، حينما يأتي الأمر للمسائل الطبية، من الأفضل ترك البحث لمن قضى العديد من السنوات في التدريب الأكاديمي على الموضوع، ولكن كما ذكر توماس نيكولاس في كتابه “موت الإختصاص: الحملة ضد المعرفة الراسخة ولماذا هي مهمة”، لقد دخلنا في حقبة زمنية حيث الكل خبراء ولا أحد خبير. على الأقل حين يأتي الأمر للقاحات، فالعديد من الأشخاص ممن لم يفتحوا كتاباً طبياً يعتقدون بأنهم يملكون معرفة أكثر من أطباءهم.
القيام ببحثك بشكل شخصي – ولكن إلى أي حد؟
كما يبدو الأمر، يتوفر دليل مهم بأن الأشخاص الذين يعتنقون المعتقدات الغريبة ليسوا جيدين في البحث العلمي. على سبيل المثال، أظهر بحث جديد نشر في تقارير نيتشر العلمية (Nature Scientific Reports) بأن الأشخاص الذين يعتقدون بالعلم الزائف، حينما طلب الباحثون منهم اختبار فرضية بسيطة، فقد احتاجوا دلائلا أقل ممن لم يعتقدوا بالعلم الزائف (Rodriguez-Ferreiro and Barberia 2021). في التجربة الأولى من تجربتين، تم الطلب من تسعة وخمسين مشتركاً عبر الأنترنت تحديد أي من الوعائين الحاويين على خرز كان المشترك يسحب منها – أحد الوعاءين الذي يحتوي على ستين خرزة حمراء وأربعين زرقاء أو الآخر الذي يحتوي على ستين خرزة زرقاء وأربعين حمراء- تم اخبار المشاركين بأنه تم افراغ أحد الوعاءين في صندوق افتراضي، وبأن مهمتهم هي سحب خرزة واحدة من الصندوق في كل مرة إلى الحد الذي يشعرهم بكونهم مستعدين لتحديد أي الوعاءين جاءت منه الخرز. في كل مرة يسحب فيها المشترك خرزة، يتم تخييره بين اعطاء جواب وتحديد الوعاء أو سحب واحدة أخرى. بعد أن أعطى كل مشترك جوابه وتوقف عن اللعب، كان عليه أن يملأ استطلاعين: مقياساً للاعتقاد بالعلم الزائف، ومقياس “الأغنام والماعز الأسترالي (ASGS)” [1] لقياس الايمان بالخوارق.
بينما سحب المشاركون الخرز الافتراضية من الصندوق الافتراضي، واجه جميع المشاركون السياق الثابت نفسه من الخرز الحمراء والزرقاء بترتيب عشوائي. سمح السياق لخمسين عملية سحب كحد أقصى، وتضمن ثلاثين خرزة زرقاء وعشرين خرزة حمراء. على الرغم من تضمن العملية هذه لنصف محتويات الوعاء الافتراضي من الخرز كحد أقصى – وبالنتيجة، بقي كل من الوعاءين خياراً صحيحاً في نهاية المطاف- فقط مشترك واحد أنهى السياق وسحب جميع الخرز الخمسين. جميع النتائج معروضة في مخطط التشتت في الشكل 3. لقد كانت العلاقات في النتائج بعيدة عن كونها مثالية، ولكن بشكل عام، أنهى المشاركون ذوي الإيمان الأعلى بالعلم الزائف والخوارق التجربة بوقت أبكر من نظرائهم الشكوكيين، وكان الارتباط ذو دلالة إحصائية. [2]
في الدراسة الثانية، لعب الطلاب لعبة حاسوب على شكل فخ الفئران (الشكل 4). كان بإمكان الطلاب تحريك الفأر عبر المتاهة من خلال ازرار الاتجاهات في الحاسوب، وعندما وصلوا إلى صندوق الفخ، أظهر الحاسوب في بعض الأحيان “حصل الفأر على الجبن!”، فيما أظهر في أحيان أخرى “وقع الفأر في الفخ!”. تم إخبار الطلاب أن عليهم معرفة القاعدة التي تحدد كيف يمكن للفأر تجنب الفخ والحصول على الجبن. المهم في الموضوع، هو أن المشاركين تم اخبارهم بأنهم يمكنهم تكرار تجربة اللعب بقدر ما أحبوا – حتى 100 مرة – قبل أن يحددوا القاعدة.
فقط سبعة من ضمن الإثنين والستين مشتركاً استطاعوا معرفة القاعدة الصحيحة، والتي كانت، اذا دخل الفأر الى مربع الفخ بعد ما لا يقل عن أربع ثوان من بداية اللعبة، عندها يمكنه الحصول على الجبن، ولكن الدخول السريع (أقل من أربع ثوان من بداية اللعبة) إلى المربع كان يعني وقوع الفأر في الفخ. ففي المحصلة واجه المشاركون صعوبة في معرفة القاعدة، ولكن واحداً من أقوى نتائج الدراسة هو أن عدد المحاولات في اللعبة ارتبط بشكل عكسي بمدى اعتقاد المشترك بالعلم الزائف والخوارق: كلما زاد إيمان المشاركين بالإعتقادات الغريبة والأفكار غير المدعومة علمياً، كلما أسرعوا في التوقف عن اللعب.
من المهم تذكر أن نتائج هذه الدراسة هي في علاقة ترابطية. لا يمكننا تحديد ما يسبب كل من لعب المشترك لفترة قصيرة فقط أو الإيمان بالأفكار غير المدعومة علمياً، ولكن لو فكرت بالقيام بتجربة بإحدى التجربتين (تجربة الخرز أو لعبة فخ الفئران) بنفسك، من باب “القيام بالبحث الشخصي الخاص بك”، فإن النتائج تقترح أن المؤمنين بالعلوم الزائفة والخوارق هم أقل حماساً لإيجاد الحقيقة. إنهم يقومون ببحثهم الخاص ولكنهم بالمجمل لا يقومون بالكثير. بعض الباحثين أشاروا إلى هذا الأمر بأنه تحيز سريع نحو القفز إلى الاستنتاجات، “الميل نحو إستنباط الحقيقة بالإعتماد على معلومات محدودة جداً” (Irwin et al. 2014, 70)
القفز إلى الاستنتاجات والأوهام السببية
هذا التحيز نحو القفز إلى الاستنتاجات هو مرتبط أيضاً بالعلاقات المغلوطة بين السبب والنتيجة. في دراسة أخرى حديثة، طلب الباحثون من المشاركين إكمال نفس مهمة الأواني والخرز التي استخدمها رودريغو-فيريرو وباربريا (2021) بالإضافة إلى اختبار لتحديد فيما اذا كان دواءٌ تخيليٌ نافعاً في علاج المرض التخيلي (Moreno-Fernández et al. 2021). في التجربة الطبية، ألقى المشاركون نظرة على عدد من “ملفات المرضى” التي ذكرت فيما إذا كان المريض قد تلقى العلاج الجديد (التخيلي) أو لا، وفيما إذا تحسن المريض أو لا. (الشكل 5) كان بمقدور المشاركين الإطلاع على ملفات ما يصل إلى خمسة وأربعين مريضاً، كما كان بإمكانهم التوقف واعطاء قرارهم فيما إذا كان الدواء فعالاً بأي وقت قبل أن يصلوا إلى الحد المسموح لهم الإطلاع عليه. ما لم يكن معلوماً للمشاركين، هو أن الباحثين رتبوا مجموعة من الملفات حيث كان في الكثير منها قد أخذ المريض الدواء وتحسن، ولكن في الحقيقة لم تظهر هذه الملفات أي علاقة تربط أخذ العلاج بتحسن المريض من عدمه. كما يظهر الشكل 6، لكل مجموعة من 9 تجارب سريرية، كانت احتمالات تحسن المريض هي نفسها سواء أخذ الدواء (أربع حالات من كل ستة، أو 67 بالمئة) أم لم يأخذه (حالتين من كل ثلاثة، أو 67 بالمئة).
بشكل مثير للاهتمام، على الرغم من كونهما تجربتين منفصلتين، قام المشاركون الذين انهوا اختبار الأواني والخرز وقفزوا للاستنتاج بوقت أبكر، بإعطاء تقييم أعلى لفاعلية الدواء في التجربة الثانية. بالطبع، لم يكن هنالك أي تأثير للدواء التخيلي على المرضى التخيليين، لذلك كان أي اكتشاف لعلاقة تربط أخذ الدواء بالتحسن هو مجرد وهم. مرة أخرى، لم تكن النتائج قاطعة، ولكن كانت ذات دلالة إحصائية. بالاعتماد على هذا البحث، فإن الأشخاص الذين كانوا أكثر ميلاً للقفز للاستنتاجات هم أكثر عرضة لرؤية علاقة ارتباطية غير موجودة في الحقيقة. اذا قمنا بتعميم هذه النتائج خارج نطاق المختبر، فإنها تقترح بأن الأشخاص غير المتعمقين بشكل كاف في “بحوثهم” هم أكثر عرضة لاكتشاف أشياء غير موجودة أصلاً، مثل التأثير الإيجابي لحساء الفلفل على المصابين بكوفيد-19 (World Health Organization n.d.) أو تأثير قميصهم الجالب للحظ على أدائهم في لعبة ماينكرافت.
القيام ببحثك بشكل الشخصي
إذاً، فإن الأشخاص الذين يقفزون للاستنتاجات هم أكثر ميلاً للإيمان بالمعتقدات الغريبة وإيجاد العلاقات السببية غير الموجودة في الأصل. بالطبع، إننا، أيضاً، يتوجب علينا الحذر عند تحديد ما يسبب هذه العلاقة بين الأمرين، لأننا لا يمكننا حقاً معرفة ذلك. يبدو من غير المحتمل أن حقيقة إعتقادك بالخوارق يجعلك شخصاً سهل الإقناع. إذ يبدو العكس معقولاً بشكل أكبر. ولكن من المحتمل أن أمراً ثالثاً لم يتم قياسه من قبل الباحثين يجعل الأشخاص يملكون كل من تحيز القفز إلى الاستنتاجات بالإضافة إلى الإيمان بالمعتقدات الخرافية والعلوم الزائفة. مهما كان الأمر الذي يسبب هذه العلاقة، فإن نسق النتائج لا يتنبأ بالخير لأولئك “الذين يقومون ببحثهم الشخصي” في المسائل الطبية المهمة – أو الملامسين لهم على حد سواء. لهذا السبب ولغيره من الأسباب، ما لم تكن متدرباً على القيام بالبحث العلمي، فمن الأفضل أن تتركه لمن هم كذلك.
- مقياس الأغنام والماعز الأسترالي (SGS)، هو استبيان تصوره مايكل ثالبورن لتحديد إلى أي مدى يعتقد الشخص بالخوارق . تم إعطاء الوصف “أسترالي” لأن الاختبار تم تصميمه في Adelaide ، جنوب أستراليا ، ولتمييزه عن أدوات الدول الأخرى (مثل مقياس الأغنام والماعز الأيسلندي). (المترجم)
- للتأكد مما إذا كانت النتيجة المتطرفة للشخص الذي قام بسحب الخرز الخمسين كلها قد أثرت على النتائج، قام القائمون على الدراسة بإزالة نتيجة ذلك الشخص وأعادوا الحسابات. النتائج كانت مشابهة وبقيت ذات دلالة إحصائية.
المقال الأصلي: