أشترك في القائمة البريدية

اشترك في القائمة البريدية: 

 

الحياة في الكون (1): مع د. سليم زاروبي حول كتابه عوالم لا حصر لها

بواسطة | أكتوبر 3, 2025 | التطور والوراثة, الفضاء والكون, الفيزياء, بودكاست, كتب علمية, لقاءات | 0 تعليقات

في حلقة أخرى من بودكاست العلوم الحقيقية نحاور البروفيسور سليم زاروبي، وهو فيزيائي فلك فلسطيني متخصص في اللحظات الأولى وفي الحقبة الأولى من نشأة الكون. وفي هذا اللقاء، نتكلم عن كتابه الذي ناقش فيه نشوء الحياة؛ ظاهرة نشوء الحياة في الكون وفي الكواكب الأخرى. مرحباً بكم معنا دكتور سليم، وأترك لكم إضافة المزيد حول هذا الكتاب وحول من يرغب القراءة به قبل أن ندخل بمناقشة الكتاب.

شكراً أخي عمر، شكراً. ويسعدني أن أكون معك كمان مرة؛ هذه المرة الثانية التي نلتقي بها. الكتاب—إذا تذكر—في الكتاب الأول الذي كتبته “البدء فيزياء وفلسفة، وتاريخ علم الكون“، أنهيت الكتاب الأول في الخاتمة وتحدثت عن إمكانيات الحياة في الكون بشكل سريع وبلَمحات. هذا موضوع يشغل الكثير من الناس. وعندما أتحدث عن فيزياء الفلك للجمهور العام، عادة أتحدث عن علم الكون بشكل عام، ولكن أيضاً أتحدث في بعض الأحيان عن إمكانيات الحياة في الكون، وأرى الدهشة والافتتان بهذا الموضوع في وجوه الناس. فكان عندي تخطيط منذ فترة أن أكتب عنه، كما كان واضحاً أنه بدأت أكتب كتاباً، ولكن في سنة 2022 كنت أنا كما تعلم كنت أعمل على الأقل جزئياً في جامعة خرونينغين في هولندا، وكنت أُدرِّس دورة معينة؛ دورة علم الكون. وفي هذه الفترة، كان يخطر ببالي سؤال حين ابتدأت الكتاب عملياً. السؤال كان: إذا كان هناك حضارات متطورة في الكون، حضارات متطورة بمفهومنا – حضارات غريبة تبني علماً، وتملك مجتمعات منظمة، وتستطيع أن تجوب الفضاء وتستكشفه، وإلى آخره؛ حضارات صاحبة تقنيات متطورة وتكنولوجيا متطورة. فتساءلت في حينه: إذا كان في حضارات من هذا النوع، هل هناك تشابه بيننا وبينها؟ ما هي أوجه التشابه؟ وما هي أوجه الخلاف؟ هل نستطيع أن نقول أن هناك تشابهاً معيناً أم لا؟. وابتدأت أقرأ عن الموضوع حتى أجيب نفسي عن هذا التساؤل.

رابط شراء كتاب عوالم لا حصر لها من موقع نيل وفرات

سياق الكتاب والتداخل مع واقع غزة والوحشية والقسوة الواقعة على أهلها

وابتدأت في الكتاب، ولاحظت أنه من الممكن أن أكتب مقالاً كبيراً عن الموضوع، فابتدأت في الكتابة. وهذا في كتابي الحالي، والفصل تقريباً قبل الأخير—الفصل قبل الأخير هو الفصل الذي كُتب. وأدركت في حينها أنه يمكن كتابة كتاب عن الموضوع، بالإضافة إلى المواضيع الأخرى المرتبطة بقضية إمكانيات وجود الحياة من الناحية الفلكية ومن الناحية الفيزيائية وإلى آخره. فقررت كتابة كتاب وأجلته بعد الفصل الأول الذي كتبته في البداية، أجلته لسنة 2023، سبتمبر 2023، وصار شهر أيلول لأن كان لدي سنة “سباتيكال” كما تذكر، حصلت على جائزة هومبولت. فحينها كان يجب أن أقضي جزءاً من وقتي في ألمانيا. ولكن بعد فترة صغيرة من بداية الكتاب الذي قررت أن أكتب عنه (“الحياة، أنواعها، السياق الكوني للحياة”—هذه المحاور سنتحاور بها في الحوار)، بدأت مأساة غزة. مأساة غزة شلتني كما شلت كل فلسطيني نفسياً بحجمها ووحشيتها وقسوتها وإلى آخره، فتعطلت عن الكتابة فترة طويلة.

ولكن بعد أشهر، وحتى أهرب من هذه المناظر البشعة التي ما زالت حتى الآن للأسف نراها بشكل يومي، أقنعت نفسي بشيئين. أول شيء أني بحاجة إلى الهرب، والكتابة مَهرب حتى أحافظ على تفكيري وعلى عقلي. والشيء الآخر الذي أقنعت نفسي به، أني كعالم فلسطيني، مساهمتي هي في نضال مجتمعي، وفي مساهمتي الفكرية؛ لأن معركتنا مع الوحش الصهيوني ليست معركة وجود وأرض فقط، وإنما هي معركة تاريخ وحضارة وفكر ومساهمة. فهذان الشيئان جعلاني أُكمل كتابي.

الكتاب—مع أنه كتاب علمي، وهذا أذكره في التمهيد والمقدمة الصغيرة الأولى—يتناول موضوعاً علمياً بحتاً. أنا أتعامل مع الحياة كظاهرة طبيعية، ولا أتعامل معها بشكل آخر كعالم. ولكن، الكتاب مجبول بغزة. كل كلمة كتبت في الكتاب كانت غزة في وجداني وفي خيالي. فهذه هي ظروف كتابة الكتاب.

في الكتاب، أتناول عدة محاور. المحور الأول هو السياق الكوني للحياة؛ فالحياة لها سياق كوني، وبدون الكون لا يمكن أن نتحدث عن حياة على الأرض. وفي مراحل مختلفة وجوانب مختلفة من هذا الحديث، أتحدث في الكتاب عن فيزياء الحياة (طبعاً المجموعة الشمسية وتحدثت عن الأرض بشكل عيني)، وكيف نتعامل مع علاقة الفيزياء بظاهرة الحياة. أتحدث عن كيمياء الحياة (لماذا كيمياء الحياة هي كيمياء خاصة، وما الذي يميزها وإلى آخره)، وعن بيولوجيا الحياة ونظرية داروين وما أتى منها. وبالآخر، أتساءل عن التساؤل الذي بدأت فيه: إذا كان هناك حياة متقدمة في الكون، هل هي شبيهة بنا أم لا؟.

ينهي الكتاب بفكرة تعبر كل فصوله، وهي أننا على الأرض كائنات جانبية. كوكب الأرض هو مكان جانبي في الكون، مكان غير مُهم. نحن ندور حول نجم غير مُهم في مجرة غير مُهمة. ومثل الكرة الأرضية، هناك مليارات، عشرات المليارات، إن لم يكن آلاف المليارات من الكواكب الصغيرة التي ممكن أن يكون عليها حياة في الكون، وتشبه الأرض من ناحية خواصها.

الذي يدرس في علم الكون يستنتج بشكل مباشر تقريباً جانبيتنا وعدم أهميتنا في هذا الكون الفسيح. ففي الفصل الأخير أتساءل: إذا كانت أهميتنا ليست مركزية في الكون، فمن أين تأتي أهميتنا؟. هذا سؤال أخلاقي، سؤال فلسفي، سؤال فكري. والإجابة عليها—يمكن أن نتحدث عنها—هي أننا نحن نعملها، نحن نصنع أهمية حياتنا. أهمية حياتنا هي بأيدينا. فهذه هي مواضيع الكتاب بشكل عام.

ولكن يهمني أن أذكر للمستمع والمشاهد السياق الذي منه تطورت.

للأسف الشديد يا دكتور، بينما تكتبون كتاباً عن ظاهرة الحياة وعن تجلي هذه الظاهرة في الكون، وأنتم تشهدون الموت العبثي وسفك الدماء وكل هذا الألم العبثي. وأتمنى لو كان حديثنا عن هذا الموضوع يقود إلى أي شيء لصالح كل هذه المعاناة؛ إنه أمر مؤلم جداً.

صحيح. على فكرة عامة، حتى نغطي هذا الموضوع: في عندي أصدقاء في غزة أتواصل معهم دائماً. وأحدهم هو صديق عزيز، الدكتور سالم أبو مصلح، وهو فيزيائي يعمل في وزارة المعارف الفلسطينية. هو فيزيائي فلك (Particle Astrophysics)، ما يسمى فيزيائي الجسيمات المتعلقة بالفلك. وهو يعمل في وزارة المعارف الفلسطينية لتعليم العلوم وإلى آخره. أجتمع معه بشكل مباشر عبر “الزوم” طبعاً، أسبوعياً تقريباً، أو مرة بالأسبوعين. نتحدث فيها عن برامج وعن مواضيع مختلفة، كيف نساهم في أن نغطي الفجوة على الأقل لِمن هو قادر على أن ينجو من هذه المأساة، من ناحية التعليم وإلى آخره.

وفي مرة أذكر أنه أرسل لي صورة من خيام النزوح التي يسكن فيها، وهو يجلس مع فتيات ويعلمهن عن السماء. فحتى هذه الأمور هي محاولة للحفاظ على إنسانيتنا وعلى وجودنا الإنساني، وأن نتذكر—وهذه الجملة التي كتبها لي في حينه—أننا “نحاول أن نذكرهم أنه في شيء آخر في السماء غير الطائرات والصواريخ التي تسقطها”. فأتمنى. (سأذكر هذه أيضاً في توثيق المقالات؛ كما تعرفون، نوثق المقالات العربية والإنجليزية، أذكر اللقاءات الخاصة).

من علم الكون الى الحياة: نقطة المنتصف بين أصغر شيء وأكبر شيء في الكون

دكتور، حديثكم عن الدهشة التي أصابتكم كونك فيزيائي واقتربت من مجال ليس مجالك التقليدي. ما أدهشني في الكتاب—وأول حقيقة أدهشتني وأترك لكم الحديث عنها للمشاهدين—هي نقطة المنتصف بين نصف قطر بلانك وبين قطر هابل أو قطر الكون، وأن الحياة تقع في موضع معين بين هذين القطرين. وهذا بحد ذاته بوابة للكثير من الأسئلة، لكن أترك لكم تقديمها للمشاهد والمستمع. وأيضاً أرجو أن لا أكون أتكلم عن أمور تتوقع أن القارئ يقرأها بدلاً من السماع عنها.

حتى إذا سمعها مرتين بالعكس، جيد أنه يسمعها أكثر من مرة. اسمح لي أن أعرف البُعدين، ومنهما أنطلق في الفيزياء. يمكن الحديث عن أكبر بعد في الكون وأصغر بعد في الكون في الطبيعة. أكبر بعد في الطبيعة هو كبر الكون نفسه. كبر الكون نعرفه ويسمى نصف قطر هابل. وهابل هو العالم الكوني الأمريكي الذي اكتشف انتشار الكون في سنة 1927 أو 1929. اكتشف أن المجرات تبتعد عن بعضها البعض، واستنتجنا منها أن نسيج الكون وهندسة الزمكان في حالة انتشار وابتِعاد. وعلى اسمه يسمى قانون هابل، ومن قياساته نستطيع أن نعرف كبر الكون الذي نراه.

كبر الكون يسمى نصف قطر هابل، وكبره حوالي 10^{25} متر، أي واحد وبجانبه 25 صفراً. هذا هو أكبر شيء في الكون: الكون نفسه. في الفيزياء، هناك أيضاً إمكانية الحديث عن أصغر شيء. أصغر شيء في الفيزياء هو قطر أو نصف قطر يسمى نصف قطر بلانك. وعند هذا نصف القطر، الفيزياء التي نعرفها وقوانين الفيزياء التي نعرفها تنهار. يصبح المفهوم أننا لا نعرف كيف نصف الفيزياء على أبعاد أصغر من هذا البعد.

إذا تذكر، في واحدة من النظريات الأساسية في الفيزياء تسمى نظرية الكم  (Quantum Physics)وفيها مبدأ يسمونه “مبدأ اللايقين”. فيه نحن محدودون فيما نعرفه على بعد معين وسرعة معينة. فنستخدم الجاذبية حتى نعرف هذه السرعة، ومنها نعرف هذا القطر. هذا القطر يعتمد على ثلاث ثوابت في الفيزياء، وتحته—أي في أبعاد أصغر منه—لا نستطيع الحديث عن أي شيء؛ لا نعرف. وهذا البعد، نصف قطره 10^{-35} متر على ما أذكر.

إذا أخذت المعدل الهندسي بين أكبر شيء في الكون وأصغر شيء في الكون. (المعدل الهندسي يختلف عن المعدل الحسابي؛ المعدل الحسابي تأخذ رقمين تجمعهما وتقسمهما على اثنين. المعدل الهندسي هو تأخذ رقمين تضربهما ببعض وتأخذ الجذر التربيعي لحاصل الضرب). فإذا أخذت المعدل الهندسي بين أكبر شيء وأصغر شيء في الكون، نحصل على رقم حوالي العشرة ميكرومتر، أي 10^{-5} من المتر، أو واحد على مئة ألف من المتر وهذا هو تقريباً كبر الخلية الحية. الخلايا الحية أصغر قليلاً أو أكبر قليلاً، ولكنها في هذا الحيز من الكبر.

وهذه شغلة مذهلة: الحياة تحصل في النصف، في الوسط، بين أكبر شيء وبين أصغر شيء. أنا لا أعرف كيف أفسر هذه الظاهرة التفصيلية، ولكن هذا يدل على أن سياق الحياة أو وجودها مرتبط بشيئين: بأصغر الأمور في الكون (الذرات، صفاتها، الكيمياء، إلى آخره)، ولكنه أيضاً مرتبط في أكبر الأشياء في الكون نفسه. فسياق الحياة هو ليس فقط كيميائي وفيزيائي وبيولوجي، وإنما كوني بمفاهيم عديدة. وهذه الحقيقة تعكس هذين الشيئين المهمين. ما زالت شغلة مذهلة أن الحياة تحصل بالضبط في النصف تقريباً بين أكبر شيء وأصغر شيء. لما أنا أول مرة تعلمت هذه الحقيقة، ذُهلت؛ كانت شغلة مذهلة.

دكتور، تكلمتم بالحديث عن الحقائق الكونية وعلاقة ظاهرة الحياة بالكون، قرأت عن سلوك المادة المظلمة في بداية نشوء الكون. هل هناك صلة مباشرة بين حقائق مثل هذا؟ وهل تطور العلم في هذا المجال هو جزء مما يتكلم عنه الكتاب وعن نشوء الحياة؟ أم تطرقتم لهذا على سبيل البدء بالحقائق من الأعلى، ومن المستوى الأعلى من الكون إلى ما هو أدنى من ذلك؟ ما سبب تطرقكم إلى هذا المستوى من الحقائق؟.

صحيح، دعني أُعرِّج على شغلة ذكرت في السؤال السابق، ثم أأتي إلى قضية السياق الكوني للحياة. ذكرت حضرتك أن هذا ليس جزءاً من خبرتي الأساسية. هذا الموضوع ما حدث في الثلاثين سنة الأخيرة. أذكر عندما أنهيت الدكتوراه، سافرت إلى جامعة بيركلي في كاليفورنيا. وأذكر في أحد الاجتماعات كنا كل يوم ثلاثاء على الغداء—العلماء المختلفون يذكرون أبحاثهم وماذا يفعلون، وفي بعض الأحيان يتحدثون عن أبحاثهم. فأذكر مرة دخل زميل وهو مُنفعل (هذا الحديث سنة 1996)، وهو منفعل جداً لأنه أعلن فريق سويسري أنه لأول مرة نكتشف وجود كوكب سيار خارج المجموعة الشمسية، يدور حول نجم آخر غير الشمس.

اليوم نسميهم كواكب نجمية Exoplanet بالإنجليزية؛ الكواكب السيارة التي تدور حول نجوم أخرى. وكانت هذه أول مرة. هذا الزميل كان عنده المعطيات والبيانات التي كان ممكن هو نفسه أن يكتشف بها هذا الكوكب السيار، ولكن لسوء حظه سبقه السويسريون وخسر جائزة نوبل. (السويسريون أخذوا جائزة نوبل على اكتشافهم). ولكن هذا الزميل كان منفعلًا بشكل إيجابي لأنه أدرك أبعاد هذا الاكتشاف.

اليوم نحن نعرف الكثير. من ذاك الوقت (تقريباً 30 سنة حتى الآن) تطورت معرفتنا بشكل هائل. فعدد الكواكب السيارة التي اكتشفناها حتى الآن بشكل مباشر—نعرف أسماءها، كتلتها، حول أي نجم تدور، وإلى آخره—يتعدى 5000 كوكب سيار. ومنها، صرنا نقدر نعمل تعميمات. هذا فتح سؤالاً كبيراً في فيزياء الفلك: هل ممكن وجود حياة أخرى في الكون؟. هذا التساؤل الذي يسأله الناس دائماً، ولكنه الآن أصبح سؤالاً عينياً تفصيلياً؛ نسأل عن هذا الكوكب أو ذاك الكوكب: هل هناك حياة عليهم؟ وكيف يمكن أن نكتشف حياة عليهم؟. فتحول السؤال من سؤال بيولوجي كيميائي إلى سؤال فيزيائي فلكي، لأنه هذا هو المكان. من هنا أتى اهتمامي بالموضوع وارتباطه بالمواضيع التي أرتبط بها.

طبعاً، هذا الكتاب هو كتاب تجميعي بمفهوم أنه متعدد الخبرات. فيه مواضيع كيميائية، ومواضيع بيولوجية، ومواضيع فيزيائية، ومواضيع فلكية، وحتى فيه مواضيع فلسفية وأخلاقية وإلى آخره. عملت جهداً هائلاً حتى أجمع هذه المواد وأضعها في بوتقة واحدة لتعكس تفكيري. هذه الكتب هدفها ليس أن تضع معلومات كأنها قائمة، وإنما الهدف من التفكير العلمي هو وضع صورة متكاملة حول فهمنا لهذه المواضيع. وهي تغطي ليس فقط الحقائق، وإنما أنت تجمع الحقائق وتلصقها بشكل قصة أو بفهم معين؛ فهم عميق. طبعاً ليست قصة “حدوتة” (كما يقول المصريون)، وإنما هي قصة فكرية وفلسفية وعلمية تعكس الواقع بشكل أمين بالقدر المستطاع.

هذا ما حاولته في هذا الكتاب. أذكر بهذا الموضوع أنني قضيت وقتاً طويلاً؛ فإذا كان هناك مكان ليس لدي خبرة فيه، كنت أقرأ مقالات متقدمة حتى في البيولوجيا، وهذا ليس موضوعي، فاضطررت أن أتعلم. أخذ مني الكتاب مجهوداً كبيراً، ولكنه مجهود ممتع، وتعلمت الكثير منه. أتأمل أنني وصلت لمرحلة يكون فيها مستوى الكتاب لا يحتوي فجوات من ناحية معلوماته، ولا يحتوي أخطاء واضحة (على الأقل سيكون فيه خطأ أو خطآن، فالإنسان ليس إلهاً). ولكن وضعت جهداً كبيراً حتى يصل هذا الكتاب لمستوى معقول، مستوى جدي ومكتوب وعلمي واضح، هدفه علمي وتساؤلاته علمية وفكرية وفلسفية، طبعاً كله مرتبط ببعض.

الآن نعود لسؤالك. حول المادة المعتمة ودورها، وما هو دورها في الكون. الكون يمتلك عدة مركبات، وهذا موضوع خبرتي. هناك عدة مركبات في الكون، وجزء صغير من هذه المركبات هو المادة العادية التي نكونها؛ هي فقط 5% من مركبات الكون. الكون فيه أشياء أخرى: 25% من الكون هو مادة تسمى المادة المعتمة أو المظلمة.

هذه المادة لا تتفاعل مع المادة العادية بشكل واضح إلا عن طريق الجاذبية، وهذا ما يميزها. لدينا أمثلة من جسيمات أخرى تتصرف كما يجب أن تتصرف المادة المعتمة، ولكن حولنا—عندما ننظر إلى الشمس والأرض والمجموعة الشمسية—لا نرى إلا المادة العادية.

ما هي المادة المعتمة؟ وما هو دورها؟

هناك دور أساسي للمادة المعتمة في سياق تكوُّن المجرات والنجوم. حتى تبدأ المجرات بالتكوُّن، الكون في بدايته لم يكن فيه مجرات، وكان متجانساً؛ كل نقطة ومركباته مخلوطة ببعضها البعض ومندمِجة بشكل كامل تقريباً. ولكن رويداً رويداً، تبدأ في الكون في بدايته بحدوث ما يسمى “Fluctuations” بالإنجليزية، أي ذبذبات صغيرة جداً، ضئيلة جداً، بالكاد تُذكر (بنسبة واحد بالمئة ألف صغيرة جداً من كثافة الكون).

في هذه الذبذبات الصغيرة، هناك أماكن فيها كثافة أكثر. ولأن فيها كثافة أكبر، تبدأ الجاذبية بشد هذه المادة على بعضها البعض رويداً رويداً. والدور الأساسي في شد هذه المادة عبر النطاق الجاذبي هو المادة المعتمة. هذه هي المرحلة الأولى من تكوُّن المجرات. نحن بحاجة للمادة المعتمة في سياقنا حتى تتكون المجرات؛ فبدون المادة المعتمة، المجرات لا تتكون في البداية.

الشد الأساسي للجاذبية هو بواسطة المادة المعتمة. وطبعاً تأتي معها المادة العادية (التي نسميها في فيزياء الكون المادة الباريونية، ولكن دعونا نسميها في هذا اللقاء المادة العادية). يبدؤون بالانهيار على أنفسهم حتى يكونوا كرة من المادة التي كثافتها أعلى من المحيط. السبب في هذا الانهيار هو الجاذبية. الجاذبية هي القوة الوحيدة في الكون—باستثناء حالة خاصة—التي دائماً تجذب، ولا يمكن إلغاؤها.

في المرحلة الأولى من تكوُّن المجرات، المادة المعتمة والمادة العادية معاً يبدؤون في تكوين كثافة أعلى من المحيط، والمحرك الأساسي هو المادة المعتمة. في مرحلة معينة، بعدما تبدأ هذه الكرة في التكوين، تنفصلان عن بعضهما البعض. والسبب في الانفصال هو أن المادة العادية تستطيع أن تبرد، لأنها تتفاعل مع القوة الكهرومغناطيسية، فهي تستطيع أن تُشع الحرارة عندما تسقط.

وعندما ترتفع درجة حرارة هذا الغمام الأول (الذي يسمى “البروتوجالكسية”، أو ما قبل المجرات)، المادة المعتمة فقط تتحرك. أما المادة العادية، فتستطيع أن تتخلص من حرارتها، وعندما تتخلص من حرارتها، تنكمش أكثر من المادة المعتمة. فالمجرات تصفو نتيجة لهذه الظاهرة على مدى مئات ملايين السنين، وتؤدي إلى أن تتركز المادة العادية في مركز المجرة. وباقي حول المجرة، المحيط الكبير، تسيطر عليه المادة المعتمة. ولكن المادة العادية تكون في المركز، وهناك تتكون النجوم والكواكب والمجرات.

فالمرحلة الأولى من تكوُّن أي مبنى في الكون، والتي منه تنشأ النجوم والكواكب السيارة، هي المادة المعتمة. نبدأ بالذات من الجاذبية؛ فالجاذبية قوة مهمة جداً في تركيب هذه الأمور.

أريد أن أذكر حقيقة أخرى: الجاذبية هي أضعف قوة في الطبيعة. في الفيزياء، هناك أربع قوى في الطبيعة: الكهرومغناطيسية والجاذبية، وهناك قوتان تتعلقان ببنية الذرة والنواة بالأساس (القوة النووية الضعيفة والقوة النووية القوية). الجاذبية أضعف قوة من هذه الأربعة، وأضعف بكثير من غيرها. هذا هو السبب في أن العمليات في الفلك والكون هي أبطأ جداً؛ لأن قوة الجاذبية تحتاج إلى وقت لأنها ضعيفة. ولكنها دائماً تجذب، أي لا يمكن إلغاؤها. بينما القوة الكهرومغناطيسية يمكن إلغاؤها (إذا كانت الشحنات الموجبة والسالبة مخلوطة ببعضها، لا تشعر بقوة الجذب الكهربائي). الجاذبية لا نستطيع إلغاءها.

المرحلة الأولى لتكوُّن المبنى المُعقد في الكون تحتاج إلى المادة المعتمة. ومنها نكمل العمليات التي تؤدي لنشوء النجوم. هناك أيضاً نقطة كونية في قضية النجوم، وهي المرحلة التي تأتي بعد. عندما تكوّن الكون في بدايته، تكونت عناصر المادة العادية الوحيدة: الهيدروجين والهيليوم. لا يوجد غيرهما، وبصعوبة تجد “ليثيوم” (كل عشرة ملايين ذرة هيدروجين تجد واحدة ليثيوم فقط). لا يوجد فيه كربون، ولا أكسجين، ولا حديد، ولا نيتروجين. كل متطلبات كيمياء الحياة غير موجودة. كيمياء الحياة هي كيمياء المواد الثقيلة.

مواصفات النجم الذي يصلح ليرعى الحياة بأحد كواكبه

حتى تنشأ هذه العناصر الجديدة، كان على المادة في الكون أن تصنع نجوماً. السبب في إشعاع النجوم هو تفاعلات نووية؛ فما يحدث في بطن النجوم هو تفاعلات نووية تعطيها الحرارة. على سبيل المثال، شمسنا يتم فيها تفاعل بين أربع ذرات هيدروجين (أربعة بروتونات) لتُكوِّن نواة هيليوم (بروتونات ونيترونات). الفرق بين كتلة أربع بروتونات وكتلة نواة الهيليوم هو الذي نراه كأشعة وكطاقة للشمس.

ما تصنعه النجوم في بطونها هو تفاعلات نووية تنشئ عناصر جديدة. في المراحل الأولى من تكوُّن النجوم، يكون في بطونها الهيدروجين الذي يتحول إلى هيليوم. ولكن إذا كان النجم كبيراً، فمن الممكن أن يصنع الكربون والأكسجين في بطنه وداخله ونواته، وكذلك النيتروجين وإلى آخره، حتى نصل إلى الحديد. الحديد هو أكثر شيء ممكن أن نعمله في هذه التفاعلات داخل النجم.

هناك شيء مرحلي يحدث عندما يموت النجم. ما نقصده بأنه يموت النجم هو أن المواد التي تجعله يُشع حرارة وطاقة ويقاوم الجاذبية تنتهي. الذي يحدث هو أن الأجزاء الداخلية تسقط على نفسها، والأجزاء الخارجية، نتيجة سقوط الداخلية على نفسها، تطلع مثل موجة صادمة، فيتمزق النجم. هذا ما نقصده بما يسمى سوبرنوفا (المستعر الأعظم).

أهمية المستعر الأعظم في سياق حديثنا هي أنه يأخذ هذه المواد الكيميائية التي نُسجت في بطن النجوم وينثرها عبر المادة ما بين النجوم. والآن، الأجيال الأخرى من النجوم عندما تنشأ، تنشأ من هذه المواد. فيها هيدروجين وهيليوم، ولكن أيضاً فيها كربون ونيتروجين، وهذه هي شروط وجود الحياة.

حتى تنشأ الحياة، كنا بحاجة إلى أجيال من النجوم حتى نصل إلى المواد الكيميائية أو العناصر التي نحتاجها إلى الكيمياء العضوية لبناء أجسامنا. على سبيل المثال، شمسنا هي جيل ثالث من النجوم. كان هناك مرحلتان من النجوم التي نشأت واندثرت. نجمنا فيه قليل من الكربون وقليل من النيتروجين، ومنه تكونت الكرة الأرضية. الكرة الأرضية أغلبها حديد ومعادن من هذا النوع، وعلى سطحها هناك كربون وسيليكون وشغلات سمحت بوجود الحياة بالأساس (الكربون والأكسجين والنيتروجين وإلى ما ذلك). بدون هذه المراحل من تكوُّن الكون، لا يمكن أن نتحدث عن الحياة. ما في مكونات للحياة. لهذا، الحياة سياقها كوني.

نعم دكتور، تقريباً غطيت. لدي سؤال ثانٍ كنت أرغب بسؤاله وهو ما يحدث في النجوم. لكن سؤال متوقع من هذا المحور (محور النجوم): هل نتوقع أن لو نشأت الحياة في مكان آخر من الكون، فيجب أن يكون النجم بنفس المرحلة العمرية من نجمنا الشمس؟.

والسؤال الرئيسي في المحور الآخر: تكلمتم عن انتشار هذه العناصر التي تكونت داخل النجم في محيط النجوم، ثم تكلمنا عن الكواكب السيارة. ما هي الخصائص التي يتطلبها الكوكب السيار لكي تكون فيه حياة؟. أنا قارئ بسيط في علم الفلك، أعلم أن بعض الكواكب في المجموعة الشمسية هي بسيطة جداً كتكوين (تحتوي على عنصر، عنصرين، ثلاثة، بعض المركبات). وقرأت أيضاً في الكتاب أن بعض الكواكب تصل إلى وجود مواد عضوية فيها. ما هي مواصفات الكوكب الصالح للحياة؟ وما هي المرحلة العمرية الأنسب للنجم؟ وهل نتوقع ذات الأمر في أي مكان في الكون تنشأ فيه الحياة؟.

هذا سؤال جيد. هناك محور في الكتاب أحاول أن أتعامل فيه مع هذا السؤال، لأنه له عدة خطوات. دعني أبدأ بالقسم الأول من سؤالك، وهو عن النجوم.

النجوم فيها شيء غريب؛ فالنجوم كما نعلم لها كتلة، وأهم صفة من صفات النجوم هي كتلتها. كتلة النجم تحدد تقريباً أغلب صفاته. والشيء الغريب أنه كلما كان النجم أكبر، كلما كان طول حياته أقصر (عكسياً). النجوم الكبيرة تعيش حياة قصيرة جداً. مثلاً، عندما نتحدث عن نجم أكبر من الشمس بمئة مرة (أو 30-40 مرة) من ناحية كتلة وليس من ناحية حجم، فإنه يعيش حوالي مليون سنة. بينما شمسنا تعيش 10 مليارات سنة؛ فرق هائل.

السبب هو أنه كلما كانت الكتلة أكبر، كلما كانت عملية الاحتراق أعنف. ومع أن فيه مواد أكثر، ولكن عملية الاحتراق أعنف بكثير. لهذا، فإن النجوم الكبيرة جداً لا تستطيع أن تنشئ حياة حولها، لأنها تموت بسرعة. فالحياة تحتاج إلى وقت. أنت بحاجة إلى مئات ملايين السنين في البداية حتى تبدأ الحياة في مرحلتها الأولى. (100 مليون أو 200 مليون سنة هذا ليس كثيراً بالنسبة لعمر الكرة الأرضية البالغ 4.5 مليار سنة، ولكن بالنسبة لنجم كل حياته ستكون مليون سنة، فهذه كمية كبيرة).

النجوم الكبيرة حولها يصعب تخيل وجود حياة. إذاً، هي بحاجة إلى نجوم صغيرة مثل الأرض، التي فيها العناصر المذكورة تكون متواجدة. أما النجم الأصغر أو الكتلة الأصغر من اللازم (مثلاً 1% من كتلة الشمس)، فلن يحصل فيه احتراق داخلي نووي. لأن الجاذبية لا تعطي الحرارة الكافية لتبدأ عملية الاشتعال الأولى.

لدينا مثال على هذا في مجموعتنا الشمسية؛ المشتري هو 1 على 1000 من الشمس، ولكنه مجرد كوكب سيار وليس نجماً. لو كان المشتري أكبر بمئة مرة (ليس ألف مرة)، ممكن أن يشتعل ويصبح نجماً جديداً. فيه تحديد من ناحية ما يسمح به الكبر؛ فالكبر أكبر من اللازم غير جيد، وأصغر من اللازم غير جيد. ففيه مجال لكبر النجوم بين تقريباً عُشر كتلة الشمس و 10، 20، 30 مرة كتلة الشمس. ولحسن الحظ، أغلب النجوم تقع في هذا المجال من الكتلة.

الآن، عندما تتساءل: هل كل نجم بهذه الكتلة ممكن أن يكون حوله حياة؟ الجواب: لا. لأنه لدينا مثال أن النجوم الأولى لم يكن فيها عناصر غير الهيدروجين والهيليوم. فحوليها لا يمكن أن تتكون حياة لأنه ما فيه عناصر منتشرة تسمح بوجود الحياة مثل الكربون والهيدروجين.

ولكن إجمالاً، ضمن هذا المجال بين عُشر كتلة الشمس و 30 مرة كتلة الشمس، ممكن أن نتخيل وجود حياة في أي مكان حول كل نجم مثل الشمس. ولذلك، هناك منطقة صغيرة نسميها عادةً “Habitable Zone” أو المنطقة الصالحة للحياة. ويمكن وجود الحياة فيها إذا كان هناك كوكب صغير مثل الأرض وعليه مياه. يجب أن تكون هذه المياه في هذه المنطقة في الحالة السائلة.

إذا كان الكوكب أقرب من هذه المنطقة للنجم، يصبح ساخناً أكثر من اللازم، والمياه تتحول على سطحه لبخار، مثل الزهرة (الغلاف الجوي للزهرة ملآن بالبخار). وإذا كان الكوكب السيار أبعد من هذه المنطقة حول النجم، سيكون بارداً، مثل المريخ الذي هو بارد جداً. إذا عليه مياه، فستكون في الحالة الجليدية، مع شروط معينة صغيرة ممكن أن تكون سائلة.

المياه وتواجدها في الكون ودورها في نشوء الحياة

نعم، سؤال بخصوص المياه: لم أكن قد فكرت بالسؤال، لكن هل المياه نادرة الحدوث، أم المياه السائلة هي الأمر النادر؟.

المياه السائلة في هذه المنطقة يجب أن تكون مياهاً سائلة. (نأتي إلى الأرض؛ الأرض مثلاً فيها مفاجآت من ناحية المياه، إذا تحب أن نتحدث عن هذا الموضوع).

نعتقد أن المياه السائلة هي أحد شروط الحياة أو تكوُّن الحياة؛ هذا شيء مهم. طبعاً، هذا لا يكفي. هذا عادة ما نبحث عنه في فيزياء الفلك: هل هناك كوكب سيار في المنطقة القابلة للسكنة وعليه مياه؟. ولكن هذا لا يكفي، هذا هو الشرط الأولي. هناك شروط أخرى نعرفها من تاريخ الأرض. تاريخ الأرض كان مُعقّداً؛ نشأت الحياة فيه باكراً أول ما سنحت لها الفرصة، ولكن شيء معقد، ليس سهلاً، ليس بشكل أوتوماتيكي عندما توجد مياه سائلة أن توجد حياة. هناك شروط أخرى يجب أن تتطور بعد أن نعرفها كلها. ولكن الآن ما نفعله هو نبحث عن كواكب سيارة تشبه الأرض، أكبر أو أصغر من الأرض بعشر مرات (في هذا المجال)، وموجودة في المنطقة القابلة للسكنة، أي المياه التي عليها سائلة. هل هذا يكفي أم لا؟ لا نعرف، ولكن نبدأ من هنا. فمن هنا مصطلح ما نقوله: “كواكب سيارة قابلة للحياة”؛ هذه فرضية

كيف ستكون أشكال الفضائيين؟ كيف يحدد الكوكب وجاذبيته ذلك؟

لا أدري إن كان هذا السؤال مبكراً؛ لأنه قد يتطلب التحدث عن ظروف الكوكب، ظروف الأرض تحديداً وتاريخ الأرض. لكن قرأت عن العلاقة مثلاً بين أطوال الأشجار وأطوال الكائنات الحية وجاذبية الأرض. وتكلمتم عن أنه قد يكون أحد الكواكب الصالحة للحياة عشرة أضعاف كتلة الأرض، وهذا طبعاً يترتب عليه تغيير في الجاذبية. ما هي هذه الشروط؟. كنت أفكر عندما قرأت هذا في الخيال العلمي حول الفضائيين مثلاً. هل نتوقع أن تكون هناك كائنات ذكية خلوية مثلاً؟ أو أن تكون الكائنات الذكية عملاقة؟ أو ربما من الحتمي—نظراً لحقائق مثل هذه، وكيف يقود تعقيد المعادن والمركبات في الكوكب وظروفه وحتى جاذبيته—أن تقود إلى كائنات بذات الحجم؟. هذا أكثر من سؤال، لكن ما هي ظروف الكوكب أو تاريخ الأرض تحديداً؟ وما هي توقعاتنا عن أثر الجاذبية على الكائنات التي ستكون في الكوكب؟.

هذا سؤال فيه عدة مسارات يمكن أن نأخذها. دعني أجيب عنه بهذا الشكل: عندما تسأل—وهذا فخ—أنت في مخيلتك حياة ذكية لحد معين (ليس شرطاً، ولكن لحد معين). أنا لا أتوقع أن تشبهنا. قد يكون الأمر يتعلق بالأطوال.

إذا نظرنا إلى الكائنات الحية على الأرض التي تعيش على اليابسة، طولها لا يتراوح أكثر من مترين (الزرافة أطول شيء). لا يوجد أكثر من ذلك، وهذا له سبب. السبب أنه إذا وقع شخص مثلنا—ونحن طوال جداً—على الأرض، فهذا السقوط يحرر طاقة. وإذا حررت طاقة، فالمفروض أن يتحمل عظمُنا الصدمة. العظم الذي يمسكه هو القوة الكهرومغناطيسية. فإذا كانت الجاذبية أقوى من اللازم، فعندما يسقط، القوة التي تمسك العظم لا تستطيع المقاومة، فينكسر. لهذا، لا يمكن أن يكون البناء طويلاً، مثلاً 100 متر. لا نستطيع. ولا في تاريخ الكرة الأرضية كان هناك كائنات بهذا الكبر. كان هناك كائنات بعشرة أمتار، ولكن إجمالاً متران أو ثلاثة هي أكبر شيء.

وهذا له سبب؛ السبب هو أن الجاذبية تحدد طول وكبر هذه الأجسام. والجاذبية الأرضية لها جاذبية معينة، تسارعها حوالي 9.8 متر/ثانية². لو كان الكوكب السيار أكبر من ذلك، لكانت قوة الجاذبية على سطحه أكبر. في كواكب سيارة كبيرة كتلتها أكبر من الأرض، لا أتوقع أن تكون الأجسام أطول من الأرض، بل ستكون أقصر. وإذا كان الكوكب السيار كبيراً جداً وعليه حياة، فممكن أن تكون كلها على كبر البكتيريا (على الخلية الوحيدة) التي ليس لديها إشكالية السقوط.

الظروف الفيزيائية على الأرض تحدد صفاتنا، وهذه قضية مهمة. لماذا ليس لدينا كائنات حية بكبر الجبال؟. فولتير له قصة شهيرة اسمها “ميكروميداس”، يتخيل زواراً أتوا من المريخ (أو الزهرة)، ولكن أصلهم من كوكب بعيد اسمه “كلب الجبار”، وكان اسمه “جوريس”، وجاؤوا وكبرهم كبير جداً كالجبال. هذا غير واقع على الأرض. لا يمكن أن تكون على الأرض حياة من هذا النوع، لأن الشروط الفيزيائية على الأرض هي الشروط الفيزيائية. وهذا ما أشدد عليه دائماً في هذا الكتاب: شروط معيشتنا وصفاتنا الفيزيائية والكيميائية والعامة هي صفات تخضع لقوانين الفيزياء والصفات الخاصة للمكان الذي نشأنا فيه، أي الكرة الأرضية.

أشكال الحياة على الكواكب الأخرى ممكن أن تكون أشكالاً أخرى من ناحية الكبر. أريد أن أستبق الأمور قليلاً: إذا نظرنا إلى تاريخ الحياة على الأرض، فوجود الإنسان هو محط صدفة. حدثت عدة أمور حتى نكون نحن موجودين. كان ممكن أن تتطور حياة ذكية على الأرض. (وأنا أتحدث عن الجانب العلمي، لا أعرف آسف إذا مس إيمان أحد، ولكن هذا هو التوجه العلمي). حتى تطورنا ووصلنا إلى ما وصلنا إليه كان صدفة. لولا انقراض الديناصورات مثلاً، لما كنا نحن موجودين.

كان يمكن أن تكون هناك حياة ذكية، ولكنها انبثقت عن الديناصورات، لا عن الحيوانات اللبونية. لدينا الآن حياة ذكية أصلها من الديناصورات؛ الطيور، الغربان (الغراب كائن ذكي جداً)، وأصله من هناك. فلو لم نكن موجودين، ولو لم تسيطر الحيوانات اللبونية (الثدييات) على الكرة الأرضية، كان ممكن أن تكون الحياة مسيطرة عليها من قبل كائنات أخرى لا تشبهنا أبداً، أصولها مختلفة، ولكنها أيضاً قد تكون ذكية وبانية لحضارات وتكنولوجيات.

توقعاتنا حول ماهية الحياة خارج الكرة الأرضية، كما في مسلسلات الخيال العلمي، هي أن الكائنات الحية الأخرى دائماً تشبهنا؛ لها أيدٍ ورجلين. طبعاً هذا له سبب؛ أنهم يريدون ممثلين ليمثلوا هذه الأدوار. أما في الحقيقة، فهل لهم صفات مشابهة لنا أم لا؟

هذا سؤال معقد. وجودنا نحن بهذه الصفات هو صدفة. فعلى الأغلب، إذا وجدنا كائنات حية أخرى، سيكون هناك ما يشبهنا به، ولكن أيضاً سيكون هناك الكثير مما لا يشبهنا به.

احتمالية الحياة على كواكب أخرى مثل المريخ

هناك محور آخر؛ فقد تكون الحياة غير ذكية. تكلمتم عن ظروف النجم أو ظروف الكوكب. وربما يعني نافذة حدوث الحياة وانقراضها في كوكب آخر قد تحدث قبلنا بمليارات السنين أو بعدنا بمليارات السنين، ولو كانت ذكية فقد لا تتقاطع معنا. وربما الحياة على الأرض قد لا نكون متفائلين جداً ببقائها لملايين أو مليارات، أو بالنسبة للبشر ككائنات ذكية ربما ليس لعشرات الآلاف. تحدثت عن أعمال الإبادة في بداية اللقاء؛ نحن ندمر الكرة الأرضية وندمر وجودنا فيها بشكل مجنون، ولكن هذا سؤال آخر.

بالنسبة للسؤال العلمي، أنت صادق. من الممكن أن تكون الحياة على كوكب آخر بعيد بدأت قبلنا بمليار سنة مثلاً. أعطيك أمثلة أخرى: إذا تنظر في المجموعة الشمسية، هناك كوكب صغير آخر، هو المريخ. وهو كوكب مقصود البحث عن الحياة عليه، أو حياة سابقة عليه؛ هو موضوع هام في الأبحاث. الاعتقاد هو أنه في الماضي كانت الشروط على سطح المريخ مواتية لوجود حياة. وقبل أسبوع كان هناك إعلان عن بحث لوكالة “ناسا” اكتشفوا فيه بقايا هذا الاعتقاد. (هل هذا صحيح أم لا؟ يجب أن يُفحص). لكن الإعلان كان أنهم وجدوا أماكن فيها علامات لوجود حياة سابقة في المريخ من بكتيريا وغيرها، وتداولته أجهزة الإعلام بشكل كبير.

المريخ—كما يظهر—شيء مُذهل. غير أنه كوكب سيار قريب علينا (التالي بعد الأرض)، أرسلنا له عدة صواريخ ومراكب و”مُسيَّرات” (مثل السيارات التي تنزل)، لدينا صور عن المريخ. نرى آثار “دلتا” لأنهر، وكان واضحاً أن اليوم ليس فيه ماء (هناك مياه في داخله على عمق 10 كم في محيط المريخ)، ولكن على سطحه هناك علامات واضحة على أنهر كبيرة ودلتا لأنهر متفرعة مثل دلتا النيل. بالإضافة إلى ذلك، عندما تنظر لصور الجبال على المريخ، تراها مكونة من طبقات ترسُّبية. هذه الطبقات الترسُّبية تتكون فقط في محيطات الأرض. هذا الترسب على المريخ كما يظهر كان هناك محيطات في السابق، وعليه غلاف جوي لكنه صغير.

ما حصل في المريخ (وهذا مهم أن نفهمه بالنسبة للأرض) هو أن المريخ صغير، تقريباً ثُلث أو رُبع الأرض. الأجسام الأصغر تبرد أسرع. عندما يبرد الكوكب السيار، يتحول إلى صخرة. الأرض ليست صخرة؛ سطحها صخرة، ولكن داخلها سائل. هذا هو السبب في البراكين وتحرك القارات وإلى آخره. هذا شيء مهم جداً للأرض حتى يبقى الكوكب حياً. لماذا؟

عندما يكون لُب الكوكب السيار سائلاً، تكون حرارته عالية (ألف درجة مئوية). الأرض حرارتها في داخلها حوالي 6000 درجة مئوية. في باطن الأرض، هناك سائل حديث ومُتأين (الإلكترونات مفصولة عن البروتونات) في الكثير من المناطق. هذا يؤدي إلى تكوُّن تيارات كهربائية التي تؤدي لـ غلاف مغناطيسي. الغلاف المغناطيسي له أهمية هائلة في بقاء الحياة. لماذا؟ لأن بدون الغلاف المغناطيسي، الأشعة الكونية التي تأتينا من الشمس (الجسيمات: بروتونات وإلكترونات بطاقة هائلة) تدمر الحياة على الأرض. الغلاف المغناطيسي يحمينا منها ويوجهها للفضاء الخارجي.

ولكن عندما يبرد الكوكب السيار ويصبح مثل المريخ، يتوقف الغلاف المغناطيسي عن الوجود. وعندما يتوقف عن الوجود، لا يستطيع حماية نفسه من الأشعة التي تأتي من الشمس. فبالإضافة لقضية الكتلة، هناك شروط عملية: يجب أن يكون داخل الكوكب سائلاً حتى يحمي نفسه من الفضاء. هذا شيء صعب.

ماذا يقول هذا؟ يقول إن الحياة شيء عابر. المريخ—كما يظهر—إذا كانت عليه حياة، فقد توقفت. المريخ بَرَد ولم تعد فيه مياه المياه، واختفت عليه قبل مليار سنة. قبل مليار سنة كان المريخ كوكباً ربما صالحاً للحياة. فيه تحركات تكتونية وإلى آخره، وفيه أمور تحدث كما تحدث على الأرض في حركة الألواح التكتونية. هذه الحركة الداخلية فيزيائياً تعني أن الكوكب الأرضي يحاول أن يبرد نفسه، لأنه يحاول أن يطلق الحرارة التي في داخله للخارج. هذا هو سبب حياتنا. عندما ينتهي هذا، نحن انتهينا؛ لا توجد حياة أخرى.

فالحياة شيء عابر. هذا العبور بمفهوم أنها تأخذ لها مليار سنة أو ملياري سنة، وانتهينا. ولكن المليارات هي سنوات طويلة وليست فترة قصيرة. لهذا، أهمية حياتنا هي كيف نعيشها.

(في المجموعة الشمسية: الشمس، نحن نعرف أنها تحول الهيدروجين إلى هيليوم مع الوقت). الآن أعطيك هذه النقطة: مع الوقت، نواة الشمس تصبح أثقل وأثقل. لماذا أثقل؟ لأنه يتحول الهيدروجين إلى هيليوم، والهيليوم كثيف أكثر. لهذا السبب، نتوقع أن تزداد درجة الحرارة في الوقت. نواة الشمس بعد مليار سنة، المنطقة القابلة للسكنة (الصالحة للحياة) الآن والأرض في مركزها، سوف تنتقل إلى الخارج. لأن الشمس ستصبح أحمى. فالمنطقة القابلة للسكنة ستصبح عند المريخ. الأرض ستصبح مستحيلة.

هذا الحديث يستغرق مليار سنة، ليس الآن. الحياة ظاهرة عابرة. وهذا يجب أن نذكره ليس على مستوى الشخص فقط (فحياتنا عابرة كأفراد)، ولكن كمجموعات وكحياة بكل. نحن نعرف مثلاً أن كل مليون سنة الأنواع المختلفة على الأرض دائماً تندثر وتنشأ أنواع أخرى. هذا ينطبق علينا نحن. ولكن ما أقوله هنا هو أكبر: الحياة كظاهرة إجمالاً هي شغلة عابرة على الكرة الأرضية بكل أنواعها. وهذا يجب أن نفهمه ونقبله. ونعيش لأجل الحياة التي نعيشها، وليس لأجل الحياة التي يمكن أن نعيشها لمليارات السنين. هذا يعطيك شعوراً بالخوف من ناحية، ولكن من ناحية أخرى يعطيك أن تتمسك بالحياة وترتبط فيها وتعطيها معنى أعمق من معناها الذي يعيشه الأغلب.