نصير الدين محمد بن محمد بن الحسن الطوسي عالم فارسي من علماء الحضارة الإسلامية ولد في طوس بخراسان (قرب مشهد اليوم) في مطلع القرن الثالث عشر وتوفي في عام 1278 ميلادية (بعد عشرين عاماً من دخول المغول إلى بغداد) وعرف بأنه فيلسوف وعالم رياضيات رائد ومشهور في عصره، متنقلاً بين قلاع الإسماعيلية في إيران وبين سلطة المغول الايلخانية التي اجتاحت الشرق الأوسط في القرن الثالث عشر[1].

لسنا في هذا المقال بصدد مناقشة حياة نصير الدين الطوسي التي تحفل بها كثير من الأبحاث والمقالات باللغة العربية والإنجليزية، ولكننا بصدد مناقشة بحث طرحه الباحث الايراني هادي جوراتي في جامعة ولاية أوهايو (Ohio state university) في عام 2015، والذي يناقش في جزء منه تغير طبيعة عمل نصير الدين الطوسي تبعاً للجهة الراعية له والسعي الدؤوب للباحث وهو يبحث عن الحماية وعن البيئة المستقرة ليعمل. الأمر الذي يلفت الإنتباه لطيف واسع من علماء الحضارة الإسلامية ولا يقتصر على نصير الدين الطوسي لوحده.

لو قرأنا سيرة أي عالم من الحضارة الإسلامية لفوجئنا بالتشتت الكبير في التخصصات التي يُركز عليها هؤلاء العلماء، فمثلاً لابد أن نجد الفقه الإسلامي حاضراً لدى الكثيرين، تليه الفلسفة ومن ثم مجالات بحثية عدة فضلاً عن الأدب والتأريخ والجغرافيا. الجاحظ مثلاً يُعرف بأنه أديب، ورجل دين معتزلي له اهتمام بالسياسة، كما يُعرف بأنه أحد القلائل المهتمين بسلوك الحيوان من أعلام الحضارة الإسلامية[2]. يرى كثيرون أن ذلك الأمر يُعد من مميزات الباحث والبحث العلمي في الحضارة الإسلامية، حيث يشيرون إلى موسوعية هؤلاء العلماء والباحثين ويكاد تعريف (العالم الموسوعي) يطغى على شخوص الحضارة الإسلامية بشكل واضح، لكن في الواقع فإن الأمر قد يحمل من الإشكاليات ما يفوق المميزات في واقع البحث العلمي.

لفت جوراتي التغير في طبيعة نتاج نصير الدين الطوسي بحسب الجهة الراعية بين الإسماعيلية والتتار، حيث ركز على النتاج الفلسفي بينما كان في حماية الإسماعيلية بينما توجه إلى التنجيم وعلم الفلك بينما كان في بلاط المغول. لا يُعد هذا الأمر في حياة الباحث أمراً محموداً أو مفضلاً أو مشجعاً على التخصص، ففي فترات الاضطرابات السياسية والكوارث البشرية يفقد العلماء في تلك العهود التي لا يفهم الحكام فيها العلم كوسيلة لتحقيق غايات بعيدة بل فقط كوسيلة لتحقيق غايات آنية مثل الطروحات الفلسفية ذات الأثر في الصياغة الأيديولوجية المطلوبة للحاكم، أو التنجيم كوسيلة لمعرفة الأحداث المستقبلية (وفق الاعتقاد السائد في وقتها)، وهذا بدوره قد يُعد أحد أبرز أسباب تشتت التخصصات العلمية في الحضارة الإسلامية وبالأخص تشتت التخصصات لدى العالم الواحد نفسه.

وبدوره لم يكن الطوسي سعيداً بذلك الأمر إذ يصف نفسه كأسير لا كباحث متطوع في إحدى المرات وقتما كان لاجئاً للإسماعيليين في غضون الاجتياح المغولي لإيران.

المعضلة الثانية التي تؤدي إلى ذلك التشتت، تتمثل في عدم الاستقرار والكوارث البشرية التي تؤدي إلى تنقل العلماء بشكل مستمر، حيث ومع تقدم المغول مضى الطوسي غرباً نحو الري، ثم أصفهان ومن ثم إلى الموصل. لنتخيل تخصصاً يحتاج إلى بعض المعدات، أو على أقل تقدير الأوراق والكتب التي يحتاجها الباحث والتي تتطلب بدورها إلى نقل قد يتعذر أحياناً في السفر الذي كان يُرمز إليه على أنه “قطعة من سقر” في وقتها، حيث لم يكن الأمر كما في آينشتاين عندما سافر بيسر الى الولايات المتحدة ليكمل أبحاثه التي أرفد بها البشرية ونقلها نحو نظرة جديدة إلى العالم.

أما المصادر الإسلامية التقليدية فما زالت حتى يومنا هذا تضع الباحثين في حسابات السياسة مثل ابن خلدون أو الطوسي، حيث غالباً ما تُشير للطوسي على أنه كان خائناً وكان وزيراً للمغول، وفي واقع الأمر لم يكن الطوسي سوى مستشاراً موجهاً للعمل في المرصد الذي أقامه في مراغة، الأمر الذي يُشدد عليه جوراتي ويُلفت النظر إليه. بإختصار يوضح لنا جوراتي أن البحث عن الحماية هو الطابع الأبرز الذي كان يخيم على عمل الطوسي الذي مات وهو في طريقه لبغداد مغادراً مراغة بعد مكاتباته مع رجل الدين الشيعي الجويني، القائم في بغداد. ويلفت جوراتي نظرنا إلى العديد من الباحثين والعلماء في الحضارة الإسلامية ممن عصفت بهم إضطرابات السياسية لتقيد نشاطهم أو توجهه بحسبما تقتضي السياسة الراعية ومن الأمثلة أيضاً الحسن بن الهيثم الذي تظاهر بالجنون لينجو من بطش الحاكم بأمر الله الفاطمي بعدما رأى عدم إمكانية تنفيذ مشروعه على النيل وخشي من غضب الحاكم.

الأمر الذي أنقذ هذا الواقع وغيره بشكل تام هو نشوء الجامعات كجهات مستقلة تمول نفسها بنفسها، والأمر الذي صنع ذلك هو تراكم الخبرات والمعارف البشرية بالشكل الذي يجعلها مغرية إلى حدٍ ما للطلبة لكي يستثمروا فيها أموالهم أو أموال عوائلهم أو أموال الجهات الداعمة فضلاً عن سنوات العمل لكي تؤهلهم فيما بعد لينالوا مكانة إجتماعية ووضعاً مالياً يليق بالإستثمار المبذول من أجلها. لا يحسم هذا النقاش بشكل قطعي حول كيفية إنشاء مراكز لمجتمع علمي مستقر في مكانٍ ما، أو العامل الرئيسي الأبرز لإنشاء تلك النواة، هل ينتهي الأمر بالسياسة أيضاً ودعم الحكومة ونظرتها إلى المعرفة؟ أم يتعلق بكم المعارف والخبرات الموجودة؟ أم أننا نحتاج إلى الإستقرار فقط في المجتمع لكي ننال النهضة العلمية؟ لكننا نحتاج إلى الكثير من التمهل والبحث في نظرتنا إلى واقع العلم في الحضارة الإسلامية والأسباب التي قيدت الإنتاج العلمي وحددت آفاقه في تلك الفترة.

المقال المنشور حول ورقة هادي جوراتي:

Sara Nur Yıldız, “Science and Society in Medieval Islam“, dissertationreviews.org, September 29, 2015

 

[1] Naṣīr al-Dīn al-Ṭūsī “, britannica.com, 11 Octoer 2017.

[2] Abu Uthman al-Jahiz.World Eras. . Encyclopedia.com. 11 Oct.