قبل مائة عام، قام عالم روسي شاب اسمه ديمتري إيفانوفسكي (1864 – 1920) بتقديم ورقة علمية الى أكاديمية العلوم في سانت بطرسبرغ ذكر فيها ” أن نُسْغ الأوراق المصابة بمرض “فسيفساء التبغ” يحتفظ بخصائصه المعدية حتى بعد عملية الترشيح من خلال مصفاة شمبرلند (وهي مصفاة قام باختراعها عالم الاحياء الدقيقة شارل شمبرلند، وتحتوي المصفاة على مسام دقيقة لا تسمح بمرور البكتريا من خلالها)”.
هذه الملاحظة اقترحت وجود عامل يسبب المرض وهو أصغر بكثير مما هو معهود سابقاً، كانت هذه الملاحظة ايضاً بداية لسلسلة طويلة من الملاحظات والتجارب والتي انتهت باكتشاف الفايروسات. لا يوجد تاريخ محدد بالضبط لاكتشاف الفايروسات، لكن ديمتري له الفضل في هذا اكتشاف هذا الكائن دون المجهري والقابل للترشيح ليسبب الامراض في النهاية. في الواقع، كان مصطلح “الرواشح” هو الاسم الشائع لهذا
الكائن قبل ان يطلق عليها تسمية الفايروسات، لان عملية الترشيح أصبحت التعريف التجريبي للفيروسات. إيفانوفسكي كان له الاسهام الأول في هذا الاكتشاف المصرح به من قبل مارتينوس بايرينك، الذي لم يكن على دراية بأكتشاف إيفانوفسكي، عندما قام بنشر نتائج مماثلة بعد 6 سنوات في عام 1898. وبعد خمسين عاماً، في عام 1944 صرّح ويندل ستانلي في كتابه العلم “أن هناك مبرراً كبيراً لاعتبار إيفانوفسكي والدًا لعلم الفيروسات الجديد”.
شهد القرن التاسع عشر الهزيمة الأخيرة لدعم نظرية “التولد الذاتي” للكائنات الحية وقبول نظرية جرثومية المرض. وبعد ذلك تم توارث التعريف الجديد لسببية المرض حسب فرضيات روبرت كوخ الذي كان له تأثير قوي على علماء القرن التاسع عشر بعدما اثبت ان الجمرة الخبيثة في الماشية سببها بكتيريا الجمرة الخبيثة.
على الرغم من أن البعض، مثل عالم التشريح الكبير جاكوب هينلي (مدرس روبرت كوخ) كان لديه الخيال لتصور العوامل المعدية بخصائص الفيروسات في وقت مبكر من عام 1840، لكن هذه الأفكار فشلت في الحصول على مقبولية لعدم وجود أدلة تجريبية. لكن هذا المسار بدأ الذي يقود لهذه الأدلة مع ثلاثة علماء يعملون بشكل مستقل على مرض فسيفساء التبغ، أدولف ماير، ديمتري إيفانوفسكي ومارتنوس بيجرينك.
كان ديميتري إيفانوفسكي ابناً لأحد مالكي الأراضي في قرية بالقرب من سان بطرسبرغ في روسيا. وقد ولد في 28 أكتوبر 1864. بعد وفاة والده عندما كان إيفانوفسكي وإخوته لا يزالون يافعين، انتقلت العائلة إلى قسم فقير في سانت بطرسبرغ. هناك التحق إيفانوفسكي بالمدرسة الثانوية وعمل مدرسًا لمساعدة أسرته. تلقى إيفانوفسكي في غدوف في سانت بطرسبرغ، بعدها تخرج كصاحب ميدالية ذهبية في ربيع عام 1883. بعد الدفاع عن أطروحته ” مرضان يصيبان نباتات التبغ”، ثم حصل إيفانوفسكي على درجة العلوم في عام 1888 من قبل جامعة سان بطرسبرغ.
كذلك حصل على درجة الماجستير في عام 1895 عن أطروحته “التحقيق في تخمير الكحول”، وحصل على الدكتوراه في عام 1903 عن عمله في فيروس فسيفساء التبغ. عندما كان لا يزال طالبًا في جامعة سان بطرسبرغ. وقد تم تكليف إيفانوفسكي في عام 1887 ومرة أخرى في عام 1890 من قبل وزارة الزراعة الروسية للتحقيق في أسباب المرض الذي أصاب مزارع التبغ في بيسارابيا، أوكرانيا ، وشبه جزيرة القرم.
بدأ إيفانوفسكي دراساته حول أمراض التبغ، بناءً على العمل السابق لأدولف ماير، الكيميائي الألماني الذي كان أول عالم يقوم بإجراء أبحاث مكروبيولوجية حول مرض فسيفساء التبغ. بدأ ماير بحثه حول أمراض التبغ في هولندا في عام 1879. على الرغم من أن ماير لم يكتشف مرض فسيفساء التبغ، فقد كان أول من أطلق عليه اسمًا دائمًا (البقع الداكنة والفاتحة على أوراق التبغ المصابة) وله الفضل عموما في إثبات الطبيعة المعدية لهذا المرض.
كانت تجربة ماير لتطعيم النباتات الغير مصابة مع العصير المستخرج عن طريق طحن أوراق النباتات المصابة أول انتقال تجريبي لمرض فيروسي في النباتات. دون أن يعرف العامل المسبب، الذي لم يكن قادرًا على رؤيته أو استنباته.
قال “… فجأة اكتشفت أن العصير من النباتات المريضة التي تم الحصول عليها عن طريق الطحن كان مادة معدية معينة للنباتات الصحية … في تسع حالات من ضمن عشرة (من النباتات الملقحة) واحد سيكون ناجحاً في جعل النبات الصحي مريض بشدة. أثبتت هذه الدراسات الطبيعة المعدية لهذا المرض، ولكن لا يمكن استنبات أو اكتشاف عوامل بكتيرية أو فطرية، وبالتالي لا يمكن استخدام افتراضات كوخ.
وهكذا نرى كيف أن مسيرة إيفانوفسكي انتهت بهذا الشكل الذي أفاد البشرية وطرح أمامها الأسباب لطيف واسع من الأمراض الخطرة التي تهدد حياة الانسان وتصيبه بأضرار مستديمة، وهذا كان فاتحة لمعالجة تلك الأسباب عبر اللقاحات والمضادات الفيروسية.
المصدر:
Lustig, Alice, and Arnold J. Levine. “One hundred years of virology.” Journal of virology 66.8 (1992): 4629.