إحدى المجاميع الأقدم من البشر التي استوطنت أوروبا والتي ما زالت تشكل نسبة معتبرة من السكان في بعض الدول الأوروبية يستدل عليها بأولئك الرجال الذين يحملون المجموعة الفردانية I في كروموسوم واي للحمض النووي لهم. استوطنت أوروبا في العصر الحجري موجات عديدة من البشر إحداها تمثلت بأوائل الخارجين من أفريقيا، فرع المجموعة الفردانية C، ومن ثم المجموعة الفردانية G والمجموعة الفردانية H، غير أن من الصعب العثور على أي نسب مرتفعة لحاملي هذه المجاميع بين الأوروبيين اليوم بخلاف المجموعة آي الصبغي I المعروف بالطفرة M170 والمسمى بالانجليزية (Haplogroup I-M170) الذي ما زالت سلالاته تنتشر في أوروبا مثلما كانت في العصر الحجري قبل أكثر من 30 ألف سنة.
المجموعة الفردانية الأم IJ-M429
تتفرع المجموعة الفردانية I مع أختها المجموعة الفردانية J في حقبة سحيقة من المجموعة الأم ij والمتفرعة بدورها من المجموعة IJK. وفيما إتجهت المجاميع التي يحمل ذكورها المجموعة J جنوباً لتظهر بكثافة لاحقاً في ذكور العديد من الشعوب في الشرق الأوسط وجنوب أوروبا والقوقاز فإن المجموعة I تظهر بشكل مبكر في فحوصات الرفات في أوروبا. يحدد عمر انفصال I عن المجموعة J في فترة قبل أكثر من 40 ألف سنة بعد أن كانت المجموعة الأم تتواجد في أوروبا وإلى الشرق من أوروبا[1] أو من الشرق الأوسط[2] أو ربما في كل من المنطقتين حيث وجدت عينات يعتقد أنها من المجموعة IJ في إيران[3].
شخصت أيضاً عينات من IJK وهي المجموعة الأم للمجموعة IJ في ألمانيا بإحدى الدراسات وكانت تتواجد في حقبة قريبة نسبياً قبل حوالي 3000 سنة في ألمانيا. [4] والمجموعة IJK ليس لها وجود اليوم وفيما عدا تلك الدراسة ودراسات قليلة، يمكن اعتبار هذه المجموعة افتراضية.
يتم تمييز المجموعتين والقرابة بينهما من خلال الطفرة الموجودة في المجموعة IJ والمسماة M429 والتي يمتلكها كل من I وJ، في حين أن J يتميز بطفرة تعرف باسم M304 وI يعرف بأخرى M170. وبطبيعة الحال فإن هذه الطفرات هي المحدد الأساسي لعمر هذه المجاميع وتوزيعها وهي التي تمثل أساس التسمية وليس العكس. يمكن الاستدلال على أن هناك مجموعة أم أقدم من خلال إيجاد الطفرة الأم دون إيجاد الطفرات الفرعية وهكذا. فضلاً عن ذلك فإن هناك سبعة طفرات أخرى تجمع كل من هذه المجاميع الثلاث.
من الجدير بالذكر أن المجموعة الفردانية IJ ليست منقرضة، حيث تظهر دراسة أجريت على عينة من وسط الهند وجود بضعة عينات من IJ، كما يظهر ذلك، لو كان له صلة بالتواجد التاريخي أن انتشار المجموعة IJ لم يكن يمتد من ايران والشرق الأوسط حتى أوروبا بل يصل إلى الهند أيضاً، بالطبع مع بقاء الاحتمالية الأخرى أن هؤلاء الأفراد قادمين من هجرة حديثة نسبياً[5].
التوزيع التاريخي للمجموعة الفردانية I للكروموسوم واي
وجدت المجموعة I في رفات ذكور من حقب مبكرة من تواجد البشر في أوروبا. مثلاً، وجدت إحدى الدراسات عينتين ترجعان إلى حوالي 30 ألف سنة قبل الآن بموقع يعرف باسم كريمس واتشتبيرغ (Krems-Wachtberg) في النمسا. ينتمي ذلك الموقع لإحدى الثقافات القديمة من فترات ما قبل التاريخ والتي تعرف بالثقافة الغرافيتية (Gravettian). والثقافات هي تسمية لتصنيف أقدم من الدول والشعوب واللغات والأديان حيث يتم تصنيف مجاميع من البشر القاطنين في إقليم واسع والمتميزين بنمط فني أو حرفي معين لفترة ما من فترات ما قبل التاريخ على أنهم ثقافة معينة بناءاً على الدليل المتوفر مما تركوه فقط. كان الأشخاص الذين تم العثور عليهم في الموقع ينتمون تحديداً إلى الفرع I2 من المجموعة الفردانية I.
وبالإضافة للمجموعة IJK الواردة في الدراسة المذكورة آنفاً4، فقد شمل الخليط من العينات العديد من الذكور الحاملين للمجموعة الفردانية I2 من حقبة تتراوح بين 2000 إلى 5000 سنة قبل الآن في أسبانيا وألمانيا، فضلاً عن عينات غير مشخصة الفرع لكنها مشخصة بأنها من المجموعة I، بالإضافة إلى عدد من الحاملين للمجموعة الفردانية G وواحد من H واثنان من R1b مع ثالث من R غير مشخص الفرع. تشير تلك العينات إلى طبيعة السكان في أوروبا قبل هجرة الشعوب الهندوأوروبية، وتدل على الطبقات الأقدم من السكان في أوروبا كما أوضحنا في مقالات سابقة حول المجموعة G والمجموعة H، حيث تضاف المجموعة I وأسلافها أيضاً إلى تلك التركيبة من الأوروبيين الأوائل.
تركيبة الأوروبيين الأوائل كانت على الأرجح تتغير مع الزمن لتضم المزيد من الذكور الحاملين للمجموعة I. تظهر إحدى الدراسات التي تراوحت أعمار الرفات فيها من 3000 إلى 5000 سنة أن جميع الذكور المشمولين والبالغ عددهم 16 في الدراسة يحملون تلك المجموعة في الكروموسوم واي كما كان معظمهم ينتمون للفرع I2 تحديداً.[6] الدراسة قام بها سانشيز كوينتو وزملاءه غطت قبور قديمة في بريطانيا وفرنسا واأسبانيا والدنمارك وسردينيا وكورسيكا وشمالي ألمانيا. كما أن بعض العينات من فرنسا كانت تعود إلى حوالي 6000 سنة قبل الآن.
تفرعات المجموعة الفردانية I وتوزيعها الحديث
تنقسم المجموعة الفردانية I إلى مجموعتين رئيسيتين: I1, I2. ولسبب ما فإن المجموعة I2 هي المجموعة الأقدم والأوسع نطاقاً كما نرى في الدراسات المذكورة آنفاً.
المجموعة I1 فقد نشأت الطفرات المميزة لها قبل أقل من 10 آلاف سنة. أشهر الطفرات التي تعرف المجموعة I1 هي الطفرة (M253) والتي تسمى المجموعة باسمها I-M253، لكن عدا ذلك فهناك طفرات أخرى تميز هذه المجموعة. ونشأت المجموعة واحد (I1) في اسكندنافيا بشكل عام. وتتفرع كل من المجموعتين من المجموعة العامة I التي تتضمن الطفرة M170 فقط دون الطفرات المميزة لهذه الفروع. غير أن المجموعة I1 لا تقتصر اليوم على التواجد في اسكندنافيا، إذ وكنتيجة طبيعية للهجرة والغزو، وتحديداً غزوات الفايكنج، فقد انتشرت المجموعة في أنحاء كثيرة من أوروبا. يمكن ملاحظة مقال ويكيبيديا الخاص بالمجموعة I1 والذي يشير للدراسات التي وجدت هذه المجموعة في أنحاء مختلفة من أوروبا، نذكر منها على سبيل المثال 3% في ألبانيا، 15% في إنجلترا، 40% في غرب فنلندا، 12% في روسيا، 1% في تركيا (وهذا قد يعني أن نسب نادرة قد تتواجد حتى إلى أبعد من ذلك).
ونظراً لإقتران المجموعة واحد بالمناطق الاسكندنافية، فإن الدراسات الجينية تستفيد منها في تحديد آثار غزوات الفايكنج والانجلوساكسون. على سبيل المثال، اعتمدت إحدى الدراسات على هذه المجموعة الفردانية وأدلة أخرى في إظهار أثر التخالط السكاني الذي جاء بعد غزو الانجلوساكسون لانجلترا ووضوح الفرق بين إنجلترا وويلز في غياب صفات معينة في ويلز التي يعرف تاريخياً أنها لم تخضع لحكم الفايكنج ولم يطلها غزو الانجلوساكسون أيضاً[7].
أما المجموعة اثنان فتعرف بالطفرة M438 وهي أقدم من المجموعة الأولى وتصل إلى قرابة ثلاثين ألف سنة قبل الآن. وتقسم المجموعة I2 إلى فروع عدة كلها تنتشر بأكبر نسب في أوروبا ومناطق مختلفة ضمن القارة. الخارطة أدناه توزيع المجموعة I2 اليوم وتظهر الكثافة والتباين. يعرض موقع yfull تفرعات هذه المجموعة وتوزيعها الحديث بحسب أشخاص أجروا فحص الحمض النووي ويتضح أنهم منتشرون في كافة انحاء أوروبا ومن الممكن أيضاً أن توجد عينات في الأناضول أو واليونان مما يعزز إمكانية انتشار هذه السلالات حديثاً وقديماً إلى الشرق الأدنى وشمال أفريقيا مثلما نرى أن هناك شخصان من سلالة I-L460 من العراق وآخر من سوريا، وكذلك هناك أربعة أشخاص من السعودية وواحد من مصر وهكذا فإن هذه الأرقام تشمل ما تمت تغطيته في الموقع من فحوص لكنه يدل على إمكانية الانتشار وندرته في ذات الوقت.
المصادر
[1] Muro, Tomonori, et al. “Simultaneous determination of seven informative Y chromosome SNPs to differentiate East Asian, European, and African populations.” Legal Medicine 13.3 (2011): 134-141.
[2] Broich, Guido, Matteo Fabbri, and Francesco Maria Avato. “Specific European Y-Chromosome Haplotype I and its subclasses: migrations and modern prevalence.”
[3] Grugni, Viola, et al. “Ancient migratory events in the Middle East: new clues from the Y-chromosome variation of modern Iranians.” PloS one 7.7 (2012): e41252.
[4] Lipson, Mark, et al. “Parallel palaeogenomic transects reveal complex genetic history of early European farmers.” Nature 551.7680 (2017): 368-372.
[5] Dash, Hirak Ranjan, et al. “Forensic characterization of 124 SNPs in the central Indian population using precision ID Identity Panel through next-generation sequencing.” International Journal of Legal Medicine (2021): 1-9.
[6] Sánchez-Quinto, Federico, et al. “Megalithic tombs in western and northern Neolithic Europe were linked to a kindred society.” Proceedings of the National Academy of Sciences 116.19 (2019): 9469-9474.
[7] Weale, Michael E., et al. “Y chromosome evidence for Anglo-Saxon mass migratio
n.” Molecular biology and evolution 19.7 (2002): 1008-1021.
تم نشر هذا المقال في العدد 57 من مجلة العلوم الحقيقية وراجعته لغوياً ريام عيسى