موجز: يقعُ القلبُ، هذا العضو المُدهش، تحت القفص الصدري وبين الرئتين، مائلا قليلا إلى اليسار. إنه ليس أكثر من عضلة مخططة، تنقسم إلى أربع حُجرات وأربعة صمامات وحواجز. هذا العضو بحجم قبضة اليد ينبض 100000 مرة في اليوم ويضخ ما يقارب 2000 غالون من الدم الغني بالمُغذِّيات كل يوم. تذكرُ أبحاث علم الأحياء التطورية والأحافير أن القلب لم يظهر بهذه الكفاءة وبهذا التعقيد فجأة. بل تدرَّج من أبسط أشكال توفير الطاقة في أوائل الكائنات، إلى بعض البروتينات التي تنظم تدفق المُذابات إلى الأنسجة، إلى قلبٍ أسطواني نابض بلا حجرات ولا صمامات… وهكذا وصولا إلى أشكاله ووظائفه الحالية.

من النيازك إلى الأيض

كانت البداية صعبةً ومشوِّقةً جدا. في فترةٍ حارَّة جدا تسودُها التقلُّبات والانفجارات والثورات البركانية، ظهرت الأرض قبل 4.5 مليار سنة. ثم ظهرت الحياة فجأة قبل 3.8 مليار سنة على شكل كائنات بسيطة أُحاديَّة الخلية تُسمَّى بروكاريوت Prokaryotes. عاشت أسلافنا وحيدات الخليَّة في الفترة الجهنَّمية مُحاطَةً من الخارج بغشاء من البروتين والدُّهن. أما من الداخل فلم تتميَّز فيها الأجزاء الخاصة بالأيض والتكاثر حتى الآن. لكنها احتملت الحرارة العالية بكفاءة، وكانت قادرة على توفير الطاقة والكربون من المواد العضويَّة.

من وحيدات الخليَّة تفرَّعت الإيوباكتيريا Eubacteria والبكتيريا القديمة Archaea التي تملك جينات لمعالجة (معامَلة) الأحماض النووية RNA وَ DNA. وفي غياب الأوكسجين، كان ظهور الإنزيمات (أو البروتينات المحفِّزة) حاسمًا لتطور الكائنات الجميلة التي تنتظر دورها. فقد استطاعت أشكال الحياة البدائية استعمال الإنزيمات في تسريع العمليات الكيميائية لإنتاج الطاقة عن طريق هضم الكاربوهيدرات.

ظهر الأوكسجين في الجوِّ لأول مرة قبل 2.8 مليار سنة بعد ظهور البكتيريا الزرقاء المصنِّعة للضوء Cyanobacteria (قبل حوالي 3.5 مليار سنة)، فتمكَّنت البكتيريا من استهلاك الأوكسجين لإنتاج كميات أعلى من الطاقة، ومن ثم بدأت الحياة تنتشر على الأرض.
%d8%ac%d9%88%d8%af%d8%a9-%d8%b9%d8%a7%d9%84%d9%8a%d8%a9

حقيقيَّاتُ النّوى: التحوُّل الفُجائي

ظهرت الميتوكوندريا (مصانع الطاقة) لأول مرة بسيناريو عجيب. ما الذي حدث؟ لقد تعايَشَت وحيدات الخليَّة بطريقة تكافُلية، حيث تبتلعُ إحداها الأخرى لكنها لا تهضمها بل تبقيها حيَّة بداخلها وقادرةً على عملية الأيض (كل التفاعلات الكيميائية اللازمة لبقاء الكائن الحي). وبنفس الطريقة (التعايُش الجُوَّاني) ظهرت البلاستيدات الخضراء التي تحوي الكلوروفيل وفتحت بوَّابة الحياة للنباتات.

النبات والحيوان: منشأ واحد للكائنات متعددة الخلايا؟ 

لم يظهر القلبُ بعد. هذا العضو النابض في منتصف قفصك الصدري كان مجرَّد احتمال. فيما بعدُ تفرَّعت حقيقيَّاتُ النوى إلى أكثر من 60 فرعًا. ثم ظهرت مملكة خَلفيَّات السَّوط Opisthokonts التي تضمُّ الفِطريات والميتازوانات (الأسلاف المباشرة لنا). هذه الأسلاف المبكِّرة كانت قادرة على الحركة الموجَّهة وإنتاج الطاقة بكفاءة، وأيضا كانت تتميَّزُ بهيكل خلويّ.

يُفرزُ قلبُك الآن بروتينًا مُهِمًّا يُسمَّى الببتيد الأُذيني المُدِرُّ للصوديوم ANP ليوسِّع أوعيتك الدموية وينظم الماء والصوديوم والبوتاسيوم والأنسجة الدهنية في جسمك. هذا البروتين كان يعمل عملَ القلب في أسلافنا البدائيين من الميتازوانات (والنباتات أيضا) فيقوم بتنظيم تدفُّق المواد المُذابة عبر الأنسجة.

الميتازوانات

تتكاثرُ الإسفنجيات (من عائلة الميتازوانات) عن طريق تشكيل بلاستيولات (كرات خلوية) متحركة ذاتِ أسواطٍ تُهاجر ثم تلتصق في النهاية برَكيزة (الجُزيء الذي يعمل عليه الإنزيم) لتُشكِّل كائنات متعددة الخلايا جديدة. تعدُّدُ الخلايا هو العلامة الفارِقة في الميتازوانات.

تتميز الإسفنجيات بأنها ثُنائية الطبقة، أي أنها تتكون من طبقتين جنينيَّتين فقط: داخلية (إندوديرم) وخارجية (إكتوديرم). ولها تجويفٌ بين الطبقتين تتم فيه عمليات الأكل وتبادل الغازات والتكاثُر. ليس للإسفنجيات رأس أو ذيل، ومحورها غير مُتماثل.

ظهر الشكل المحوري (أو الإشعاعي radial) لأول مرة في سلف مشترك بين شُعبة اللواسِع Cnidaria (مثل المرجان وقنديل البحر) ومُتناظِرة الجانبين Bilateria من عائلة الميتازوانات التي هي أسلافُنا وأسلاف جميع الثدييات.

لا تتكوَّن عضلة القلب المخطَّطة في المرحلة الجنينية من الطبقة الداخلية ولا من الخارجية، بل من طبقة ثالثة بينهما تُسمَّى الطبقة المتوسِّطة (الميزوديرم)، ويُظَنُّ أن هذه الطبقة كانت في شكلها البِدائي في مُتناظرة الجانبين.

القلبُ الأوَّل

من شجرة مُتناظرة الجانبين تفرعت لاحقا الانسلاخيات Ecdysoa (أسلاف الحشرات)، والعجلانيات العرفية Lophotrochozoa (أسلاف العلقيات والرخويات) وثانويَّات الفم Deuterostomes. عاشَ سلفنا مُتناظِرُ الجانبين بين هذه الكائنات وكان على الأرجح أشبه بدودة ذات وجهٍ وظَهْرٍ واضحين ومَعِيٍّ -مفرد أمعاء- وفتحةِ شرج. لكن الرأس والعينين ما زالا غير متميزين. وفي أحد الأسلاف متناظري الجانبين قبل 700-600 مليون سنة ظهر أول قلب! وكان عبارة عن نسيج أسطواني نابض بلا نظام وعائي مُغلق ولا حُجُرات ولا حواجز ولا صمامات.

تضم ثانويات الفم كلًّا من شوكيات الجلد Echinodermata (مثل نجم البحر)، وأشباه الحبْليَّات Hemichordates (مثل دودة البلُّوط)، والحَبْليَّات Chordates. ظهور الفم في ثانويَّات الفم كان بداية لانفصال الجهاز الهضمي والوعائي (الدموي) فيها، وهذه صفة تميزها عن فروع مُتناظرة الجانبين الأخرى.

في الحبليات ظهر لأول مرة جهازٌ وعائي مغلق مستقل عن الجهاز الهضمي. وأثناء الانفجار الكامبري حدث أكبر انتشار للبروتينات المسؤولة عن تكوين وانقباض العضلات المخطَّطة (عضلة القلب) مثل: الأكتين، الميوسين، التروبونين سي.

التحوُّلات والتعقيدات

وقبل 350-300 مليون سنة حدث التحوُّل النهائي من القلب الأسطواني إلى قلب أكثر تعقيدا بدورتين دمويتين (كُبرى وصُغرى).

من الحبليات تفرَّعت الفقاريات Vertebrates (لديها عمود فقري). فبدأ القلب يتخذ أشكالا تشريحية أكثر تعقيدا. ففي سمك الجريث hagfish ومصَّاصات الحجر lampreys انقسم القلب إلى جزء وريدي وآخر نظامي. وظهرت الدورة الدموية الرئوية في البرمائيات Amphibians. وظهرت الحُجُرات الأربع (الأذينان والبُطينان) في الزواحف والطيور. وفي الثدييات أصبح للقلب نظام توصيل كهربي وتحكُّم عصبي.

القلب: مملكة الحُب؟ 

في البشر، لم يعد عضوٌ وحيد هو المسؤول عن الهضم والتكاثر والتنفس كما في الإسفنجيات. بل تميز هذا العضو إلى جهاز هضمي وجهاز تناسلي وجهاز تنفُّسي. ومن العجيب أن الجهاز المركزي العصبي تطوَّر بالتدريج ليشمل القلب ويضيف إليه وظائف أساسية. في سمك الجريث يرسل العصب الحائر فروعا إلى الأحشاء، لكن لا يتصل مباشرة بالقلب. ثم في الفقاريات السُّفلى يتصل العصب الحائر بالقلب ويضيف إليه وظيفة إدراك الخطر عن طريق الجُمُود (يمثل الحيوان دور الميِّت ليتجنب خطر الافتراس). أما في الفقاريات العُليا (مثل البشر) فتحدث استجابة الفِرار-المُواجهة fight-flight التي تزيد سرعة القلب بإطلاق هرمونات معينة إلى الدم. وفي الثدييات، تطوَّر حديثًا العصبُ الحائرُ ذو طبقة المايلين myelinated. التغيرات في نشاط العصب الحائر ذي طبقة المايلين مسؤولة عن تسريع أو إبطاء سرعة القلب. كما أنها تتأثر بالإحساس بالأمان والرغبة في القرب الاجتماعي. العصب الحائر مهم في تمكين السلوكات المطلوبة للمُغازلة والجِماع والارتباط العاطفي. وهذا ربما هو الأساس العلمي لميلنا إلى الاعتقاد بأن قلوبنا هي محل العاطفة والعشق والوفاء. فما أكبر المسافة بين قلوبنا الآن وبين أشكالها الأولى قبل مئات ملايين السنين.

 

المراجع والملاحظات: 

* لم يكن انفجارا حقيقيا، بل ظهورا مفاجئا للكثير من أحافير أسلافنا في تلك الفترة بين 570-540 مليون سنة.

Bishopric, N. H. (2005). Evolution of the heart from bacteria to man. Annals of the New York Academy of Sciences, 1047, 13–29. http://doi.org/10.1196/annals.1341.002

www.webmd.com/heart-disease/guide/how-heart-works