بعد حدوث انقسامات عديدة في مجاميع البشر المتواجدة في وسط وجنوب آسيا قبل حوالي 50 ألف عام فقد تفرعت مجموعتان في العصر الجليدي نحو قارة لم تعد موجودة كما كانت من قبل، ساهول. انقسمت كل من المجموعة S والمجموعة M كما تعرف اليوم كقبائل للذكور التي كانت جزءاً من كتلة كانت تقطن في آسيا ونزحت نحو أقصى الشرق حاملة طفرات تجعلها مختلفة وقابلة للتمييز عن المجموعة الأم K مع آخرين يحملون تفرعات أخرى من المجموعة K وآخرين من المجموعة الفردانية C. رافقت هؤلاء نساء يحملن أيضاً خطين مختلفين للحمض النووي للميتوكوندريا من كل من المجموعة M وN للميتوكوندريا. تغطي المنطقة التي سنتكلم عنها في هذا المقال استراليا (السكان الأصليين وليس الأوروبيين القادمين لاحقاً)، بابوا غينيا الجديدة، وبعض جزر المحيط الهادئ التي تقطنها مجاميع مشابهة.

قارة ساهول وخارطة العالم في العصر الجليدي

لم تكن خارطة العالم في العصر الجليدي كما هي عليه اليوم. نعيش اليوم في فترة تعرف بالهولوسين وتمتاز الفترة التي نعيش بها بارتفاع منسوب مياه البحار إلى درجة أن كثيراً من بقاع العالم أصبحت مهددة بالغرق في ظل ازدياد الاحترار العالمي الناتج عن أنشطة البشر. كان الأرخبيل المعروف اليوم بأندونيسيا منقسماً بين كتلتين قاريتين أكبر بكثير من حجم اليابسة في الأرخبيل حالياً. الكتلة الأولى، وتعد جزءاً من آسيا، هي سوندا وتجمع اجزاءاً من الفلبين مع بورنيو وجاوة وسومطرة مع شبه اتصال متكامل نحو بالي ولموبوك وتيمور وسولاويسي مرتبطة مع الهند الصينية وماليزيا. أما الكتلة الثانية فهي ساهول وتجمع كل من أستراليا الحالية مع جزيرة بابوا وتسمانيا (شاهد الخريطة). ويعتقد أن الانفصال بين تلك الكتل وغرق أجزاء واسعة منها لم يحدث حتى منتصف فترة الهولوسين. يعني ذلك أن الهجرات البشرية كانت أسهل ولم تكن بحاجة لاجتياز عقبة تكنولوجيا القوارب والإبحار إلا على نطاق بدائي جداً.

قارة ساهول

لذلك السبب، فقد تمكنت كتل بشرية عديدة ذكرنا بعضها سابقاً في مقال المجموعة الفردانية للكروموسوم واي C ومن سنتكلم عنهم في هذا المقال من الذكور الحاملين للمجاميع S وM وفروع أخرى من K من الوصول إلى تلك الكتلة القارية في العصر الحجري. بالإضافة إلى النساء في تلك القبائل ممن ينتمين لفروع من المجموعتين M وN للميتوكوندريا والتي تفرعت لاحقاً في قارة ساهول وصارت تسمى من قبل العلماء اليوم بتسميات أخرى. حديث ذلك في حقبة لم يكن البشر قد طوروا فيها الكثير من التقنيات. استطاعت طلائع البشر الأولى من الوصول إلى قارة ساهول في فترة تتراوح بين 42 ألف إلى 48 ألف سنة بحسب بعض الباحثين.[1] وبين 50 الى 65 ألف سنة بحسب آخرين.

من مزايا الأرض التي جعلت قارة ساهول مهداً لاستيطان مبكر جداً للبشر هو المناخ الدافئ المطير طيلة أيام السنة. حتى في حقب العصر الجليدي في الفترة بين 22 ألف إلى 14 سنة قبل الآن لم يبلغ الجليد سوى المرتفعات التي تتجاوز 3500 متراً فوق مستوى سطح البحر، كما كان المناخ أكثر دفئاً في منتصف الهولوسين (بين 8 – 5 آلاف سنة قبل الآن) في تلك المناطق كما فهم العلماء من تحليل غبار الطلع التاريخي2. وبذلك لم تكن مجاميع البشر بحاجة للكثير من التعقيد في التقنيات لمواجهة البيئة وكان بالإمكان أن يعيش البشر في تلك البيئة بشكل مشابه للبيئات التي قدموا منها في جنوب آسيا وقبل ذلك في أفريقيا.

الانتشار والمجاميع في قارة ساهول

تختلف الموجات البشرية التي قدمت إلى بابوا عن الموجات التي استوطنت استراليا رغم أن مسببات واتجاه الهجرة واحد. كما أن عمر الهجرات مختلف ولا يوحد المجاميع في الجزيرتين سوى أنهما انفصلا عن الكتلة الآسيوية بشكل مبكر أكثر. كما يجتمع سكان بابوا مع سكان أستراليا في قدم ذلك الاستيطان الذي قد يصل أيضاً إلى 50 ألف سنة. لا توجد أيضاً صلات ثقافية في اللغة أو الأدوات والتقنيات بين سكان أستراليا وسكان بابوا. [2]

قدم التخالط مع القادمين الجدد إلى شمالي ساهول، الجزر المعروفة اليوم بأندونيسيا، بعض التقنيات الزراعية والمنتجات التي يرى بعض الباحثين أنها بدأت بالوفود إلى المنطقة في بابوا وشرقي إندونيسيا الحالية في منتصف فترة الهولوسين. في نفس الوقت لم يكن هناك اتصال حضاري مشابه بين سكان استراليا مع شعب آخر.[3]

تحفظ استراليا وبابوا غينيا الجديدة اليوم، بالإضافة لاحتفاظها بتلك التفرعات القديمة من الحمض النووي، انماطاً ثقافية فريدة تتمثل بالعديد من العوائل اللغوية التي تجعل تلك المنطقة إحدى أكثف المناطق من حيث عدد العوائل اللغوية الموجودة وكذلك الحال في استراليا وتحديداً الجزء الشمالي الاستوائي منها. ولتقريب مفهوم العائلة اللغوية فإن معظم المناطق الممتدة من الهند حتى بريطانيا تغطيها عائلة لغوية واحدة وهي الهندوأوروبية. وكذلك فإن المناطق الممتدة من غرب منغوليا حتى أوكرانيا تغطيها العائلة التركية. بمثل هذا المفهوم فإن بابوا وأستراليا تحتوي على عدد كبير جداً من العوائل اللغوية.

خارطة العوائل اللغوية في استراليا (ويكيبيديا)

خارطة العوائل اللغوية في استراليا (ويكيبيديا)

لا يوجد الكثير للحديث عنه من مسار تلك المجاميع البشرية باستثناء كون رحلتها الأطول بعد الخروج من أفريقيا خلال أول 20 ألف سنة. لم يكن هناك انتشار لذكور تلك المجاميع بعد تغير خارطة البحار وغرق المناطق التي توصل تلك المناطق باليابسة. لكن في بابوا واندونيسيا الحالية تشير الأدلة الجينية إلى حدوث تخالط مع القادمين الجدد من المتحدثين باللغات الاسترواسيوية (معظم ذكورهم من المجموعة الفردانية O).[4] كما تتناول دراسات عديدة المسار المحتمل الذي سلكته المجاميع المهاجرة سواء كان جنوبياً عبر تيمور أم شمالياً عبر وسولاويسي.

تفتتح إحدى الدراسات عن المجموعات الفردانية للميتوكوندريا خلاصتها بجملة: “إن سكان بابوا نيو غينيا يُعتبرون إحدى أقدم المجاميع المستمرة في موقعها خارج أفريقيا”، وتلفت النظر إلى حقيقة التنوع الجيني الكبير في الكوكب بمنطقة ما بالإضافة إلى التنوع اللغوي. وتقترح الدراسة مجيء موجتين من البشر في فترات متقاربة بين 50 إلى 65 ألف سنة قبل الآن يحمل كل منهما تركيبة جينية مختلفة من الحمض النووي للميتوكوندريا مشيرة إلى المجموعة التي قطنت استراليا الحالية (جنوبي ساهول) والأخرى التي قطنت شمالي ساهول (غينيا الجديدة).

ومن مميزات تلك المجاميع أنها تمتلك أعلى نسبة من جينات انسان دينوسوفان (قريب للنياندرتال) بالمقارنة مع بقية البشر حيث تصل نسبة انسان دينوسوفان فيهم إلى 4% سواء في سكان أستراليا الأصليين وسكان بابوا.3

مجاميع الحمض النووي للميتوكوندريا

تجد الدراسة المشار لها3 أن مجاميع الحمض النووي للميتوكوندريا (النساء) والتي تتألف من خطين أساسيين للهجرة تتوزع ببعض مجاميعها الحالية بين أستراليا وبابوا مما يشير إلى بقاء التخالط بين المجموعين لفترة ما قبل انقطاع الصلة كلياً بين شمالي وجنوبي ساهول وتكون استراليا وجزيرة بابوا.

تعرف المجاميع الناتجة للحمض النووي والمتفرعة عبر طفرات لاحقة من المجاميع الأساسية بأحرف جديدة وتنحصر في سكان بابوا وأستراليا وبعض جزء المحيط الهادئ. إحدى تلك المجاميع هي O، S المتواجدين في استراليا حصراً وQ المتواجد في بابوا وفي ميلانيزيا في المحيط الهادئ. وكذلك المجموعة المعروفة بـ P والمتواجدة في الحمض النووي للميتوكوندريا لدى كل جميع سكان قارة ساهول الأصليين أي أستراليا وبابوا وميلانيزيا بمفهوم اليوم. وتتواجد أيضاً تفرعات من المجاميع الأم الكبرى M وN وهي المجموعتين الرئيسيتين للحمض النووي للميتوكوندريا خارج أفريقيا.

المصادر

[1] Gillespie, Richard. “Dating the first Australians.” Radiocarbon 44.2 (2002): 455-472.

[2] Bulmer, Susan. “Settlement and economy in prehistoric Papua New Guinea: A review of the archeological evidence.” Journal de la Société des Océanistes 31.46 (1975): 7-75.

[3] Pedro, Nicole, et al. “Papuan mitochondrial genomes and the settlement of Sahul.” Journal of human genetics 65.10 (2020): 875-887.

[4] Yu, Hui-Xin, et al. “The formation of proto-austronesians: insights from a revised phylogeography of the paternal founder lineage.” Molecular Genetics and Genomics 298.6 (2023): 1301-1308.