فحوص السلالة الوراثية التي يقوم بها الأفراد على مستوى شخصي وتقوم بها بعض المشاريع هي أمر شاع مؤخراً خلال السنوات العشر الماضية. وقد سبق ذلك مشاريع كمشروع الجينوم البشري الذي بدأ في مطلع التسعينات واستمر لمدة 13 سنة ليقوم بفحص عشرات الآلاف من الأشخاص منتجاً خارطة ضخمة لتسلسلات الجينات البشرية، أو مشروع الـ 100 الف جينوم الذي رعته الحكومة البريطانية ليرسم هو الآخر خريطة أخرى للجينات البشرية. تلك المشاريع كانت تهدف بشكل أساسي للروابط بين بعض المورثات والأمراض، لكن ما يقوم به الأفراد لا يشترط أن ينطلق من هذا المنطلق، بل يقوم به كثيرون بناءاً على رغبة في دراسة التاريخ الخاص بهم، إنها دراسة للتاريخ على المستوى الشخصي والتي يُمكن توسيعها لتثبت لنا حقائق تاريخية على نطاق أوسع عبر السجل الوراثي الذي نحمله معنا.
يعد التاريخ أكثر الحقول البحثية إثارة للجدل وللتشكيك، بسهولة يُمكن أن يقول لك أي شخص أننا لا نعلم ماذا يجري اليوم وأن الأخبار الزائفة تنهش جسد الحقيقة ونحن في عصرنا هذا، فكيف بمن عاشوا قبل مئات وآلاف السنين؟ أمور كثيرة كالعلاقات بين الشخصيات السياسية في الماضي، الهجرات البشرية، المآسي والمذابح التي حصلت، عائدية المنجزات التاريخية وغيرها، كلها لا يُمكن الجزم بها بسهولة وعلى أقل تقدير لا يُمكن تحديد مقدار المبالغة فيها. لكن عندما تكون هناك وسائل علمية للتحقق من الحقائق التاريخية فإن نظرتنا قد تتغير قليلاً.
الدراسة العلمية للتاريخ
لطالما كان العلم موجوداً لتقديم يد العون للبحث التاريخي، ففي عام 1946، قدم الكيميائي ويلارد ليبي الطريقة المعتمدة على قياس نظير الكاربون المشع 14 في تحديد تواريخ وأعمار القطع الأثرية. وقد أحدث ذلك ثورة ساهمت في كشف الكثير من الحقائق المجهولة وفي تغيير الكثير من الأفكار السائدة حول حقائق تاريخية معينة. ليس هذا فحسب، فالعلم ذاته وفي حقول عدة، يتناول دراسة تاريخية بحتة تتقاطع بشكل أو بآخر مع حقول البحث التاريخي، مثل دراسة المناخ في الماضي عبر دراسة مقاطع الأشجار أو التحليل المقطعي لصفائح الجليد، وكذلك الدراسات الجيولوجية التي تدرس عوامل التعرية وتشكل الصخور، فضلاً عن الدراسة التطورية بمجملها والتي تحلل وتدرس المستحاثات. غير أن ما يتقاطع بشكل فاعل مع التاريخ السياسي هو ما يتعلق بالإنسان وخصوصاً في الفترات الأقرب زمنياً، وهنا يتعلق الأمر بفحوص السلالة الوراثية إلى حدٍ كبير.
أسئلة عديدة حول حياة الملوك الخاصة يُمكن أن تكشفها فحوص السلالة الوراثية، كما حدث مع ما اكتشف في بريطانيا عام 2014، حيث تجاوزت الفضيحة المتعلقة بالعائلة الملكية بعدها الزمني عبر فحوص السلالة لتعود بنا إلى القرن الخامس عشر. اكتشف العلماء أن الملك ريتشارد الثالث وهو الأخير من سلالة بلانتاجنت (Plantagenet) لم يكن السليل الشرعي للعائلة [1]. أمر كهذا تم اكتشافه بالتعاون بين مختصي الجينات ومختصي التاريخ سوية.
حقيقة أخرى عرفناها في عام 2003 [2]، وهي أن رجلاً من بين 200 رجل من مجموعة واسعة من الشعوب المتواجدة حالياً يعودون في نسبهم إلى جنكيز خان، وفق ما أجرته الدراسة. وهذا يشير لنا إلى ضراوة الهجمة المغولية في وقتها ويصادق على الروايات التاريخية الكثيرة التي وصفتها. كما يسلط الضوء على وازع رئيسي للغزاة في العصور القديمة وهو التكاثر ونشر الجينات إلى أقصى حد ممكن، الأمر الذي أشار له ديفيد باس في كتابه “علم النفس التطوري”. ونذكر هنا أن الدراسة هذه قد اسيء تفسيرها كثيراً في الصحافة العلمية، حيث اعتقد كثيرون أنها تتكلم عن نسبة 1 من كل 200 حول كل البشر الموجودين حالياً غير أنها أجريت على مجموعة من الشعوب الآسيوية فقط.
شخصياً، فإنني -كاتب المقال- كعراقي كنت أشكك لفترة طويلة بتواجد السكان الأقدم للعراق أو بنسبتهم الفعلية التي لا تتعدى نسبة السكان الكلدوآشوريين (الآراميين) المتواجدين، متأثراً بالواقع اللغوي الحالي للعراق والمتمثل بالعربية والكردية والتركمانية وكلها لا تمثل هؤلاء السكان، فضلاً عن الواقع العشائري حيث يحمل معظم الناس في العراق اسماءاً عائلية تشير للانتماء إلى إحدى القبائل العربية، فضلاً عن المرويات التاريخية الحديثة التي تشير الى هجرات عربية واسعة ومستمرة طيلة القرون الأخيرة. لكن وبعد الاطلاع على بيانات مشروع العراق الجيني [3] وبإيضاح من القائمين على المشروع، وجدت أن السكان الأقدم للعراق الذين يعودون إلى الآراميين وما قبلهم موجودون وبشكل ملحوظ الى جانب عرب الشام وشبه جزيرة العرب والشعوب الإيرانية، غير أن واقع هؤلاء وتسميات عوائلهم وعشائرهم تصطبغ بصبغات أخرى اليوم فضلاً عن لغاتهم وأديانهم. وضع مشروع العراق الجيني بذلك حقيقة صلبة حول الواقع السكاني للعراق للقرون الأخيرة وما قبلها وغطى كثيراً من الحقائق التي كانت تبدو مجهولة بالاعتماد على البيانات التاريخية فقط.
التاريخ على المستوى الشخصي
ما يُمكن ان نتنبأ به في حال زيادة نسبة الأشخاص الذين يقومون بالفحوص الوراثية، أو في حال حدوث ثورة علمية أخرى تسهل عملية الفحص الوراثي وتجعلها متاحة لكل شخص هو وجود خارطة هائلة الحجم تغطي مليارات من البشر وترسم خارطة بالغة الدقة للتواجد البشري لعدد دقيق وكبير من الحقب التاريخية.
فحوص الحمض النووي اليوم مكلفة وتستغرق وقتاً طويلاً في مختبرات خاصة لكي يتم اجراؤها، كما أنها مشوبة بالكثير من المخاوف حول الخصوصية، مما يجعل مشاركة قواعد البيانات بشكل كامل بينها أمراً تنتابه العراقيل. لو فكرنا بتجاوز مشكلة خصوصية البيانات والنظر إلى الموضوع من الناحية العلمية والتاريخية فقط. سيكون لدى كل شخص خارطة أوسع من أقاربه المحتملين وعبر تجميع هؤلاء سيمكن معرفة تواريخ افتراقهم وتوزعهم في العالم، ومن ذلك، يمكن أيضاً معرفة الحقبة التي افترقوا فيها. سيؤدي ذلك إلى رسم خارطة دقيقة جداً للحركة التجمعات البشرية، شبيهة بالخرائط التي تصف بشكل تقديري هجرة البشر خلال الـ 100 الف سنة الماضية.
كما يمكن لذلك أن يكشف بشكل ثانوي عن كثير من الكوارث البشرية الغائبة والتي أدت إلى تفرق البشر أو هجرتهم أو حدوث وفيات كبيرة بينهم، فضلاً عن دراسة الحمض النووي للمايتوكوندريا الذي يشير إلى سلالة الأمهات، والتي قد تكشف بدورها عن حوادث التصاهر والتصالح بين الأقوام أو السبي والحروب بينهم.
العواقب المترتبة على ذلك كثيرة، فنحن اليوم نعيش ضمن تقسيمات معينة خاضعة للغة والدين والثقافة والبلاد التي نسكنها ونمتلك جنسيتها. لكن مع اقترابنا أكثر من تقنيات الويب والمواقع الاجتماعية فنحن نتبعد أحياناً عن بعض التقسيمات الاجتماعية التي تضمنا ونعيش في عوالم افتراضية تضم أشخاصاً من ثقافات ولغات وبلدان أخرى ربما نرتبط بهم أكثر من ارتباطنا بأفراد من عوائلنا. ماذا لو عرفنا عن طريق موقع معين للتواصل الاجتماعي أننا ننتمي لفئة ذات عمق تاريخي وأنها موجودة في عدة بلدان، قد نشعر بالانتماء لهذه الفئة التي ترتبط بسلالة واحدة أكثر من ارتباطنا بفئات عالمنا الواقعي، وبخلاف تجمعات الشباب الموجودة حالياً والتي يتم تكوينهامن خلال لعبة فيديو معينة أو هواية معينة، فإن التجمعات القائمة على الروابط الوراثية قد تكون ذات معنى أكبر بالنسبة لنا.
في الختام، لا يُمكن التنبؤ بظهور معرفة من هذا النوع في القريب العاجل لتساعد التاريخ وترسم صورته بهذه الدقة، ولا يشترط أيضاً أن تظهر يوماً ما بهذا الشكل الشامل، لكنها قد تتوفر مستقبلاً كنوع من المعرفة التراكمية بناءاً على ما يقوم به أشخاص معدودون من فحوصات والذي يؤدي إلى توفير معلومات كافية عن سلالات عوائلهم الأكبر. كما لا يمكن حصر النتائج التي يمكن ان نجنيها من ظهور معرفة جديدة أو تقنية جديدة، لكنها بالتأكيد ستحمل كثيراً من الفوائد ولن تخلو من عواقب.
المصادر
[1] I. Sample, “Richard III DNA tests uncover evidence of further royal scandal,” The Guardian, 25 3 2015. [Online]. Available: https://www.theguardian.com/uk-news/2015/mar/25/richard-iii-dna-tests-uncover-evidence-of-further-royal-scandal. [Accessed 29 4 2019].
[2] R. Khan, “1 in 200 men direct descendants of Genghis Khan,” Discover Magazine, 5 8 2010. [Online]. Available: http://blogs.discovermagazine.com/gnxp/2010/08/1-in-200-men-direct-descendants-of-genghis-khan/. [Accessed 29 3 2019].
[3] “Iraq DNA Project,” familytreedna.com, [Online]. Available: https://www.familytreedna.com/public/Iraq?iframe=yresults.