محمد الربيعي. كنت أرغب في الكتابة حول الخلايا الجذعية (stem cells) منذ زمن طويل بسبب الضجة التي أثيرت حولها في الدول العربية من قبل بعض الاطباء المشعوذين، الذين ادعوا أنهم يستطيعون إنقاذ بعض المرضى بواسطة زرع خلايا جذعية في أجسامهم، في الوقت الذي لم يكون لديهم القدرة على زراعتها وتكثيرها في الصحون المختبرية، ولا يعرفوا إن كانت هذه الخلايا ستتمايز(differentiating) (أي تتخصص) بداخل أجسام المرضى لإنتاج الخلايا المقصودة. كنت اتسائل من أين يأتون بالخلايا الجذعية وهم لا يعرفون عمليات تنقيتها وتكثيرها، وماذا يا ترى يزرعون في اجساد هؤلاء المرضى المخدوعين؟
في مقابل هذا الادعاء بعلاج المرضى بالخلايا الجذعية توجد فعلاً عمليات معترف بها لاستخدام هذه الخلايا لعلاج الامراض ومنها عمليات زرع نوع من الخلايا الجذعية، والمعروفة باسم عمليات زرع نخاع العظام الذي يحتوي على بعض الخلايا الجذعية لمكونات الدم. بعد تصفيتها يتم حقن هذه الخلايا بداخل الجسم لتحل محل الخلايا التالفة لعلاج أنواع معينة من السرطان، مثل سرطان الدم والورم النخاعي والورم الليمفاوي وأمراض الدم والجهاز المناعي الأخرى التي تؤثر على نخاع العظام، أو لتعويض التلف الحاصل في الخلايا المولدة لكريات الدم، والتي تحصل بالعادة بعد العلاج الكيميائي لمرضى السرطان. وتشمل عمليات زرع الخلايا الجذعية من دم الحبل السري أو نخاع العظام لأجل إنتاج كريات دم، ولأجل الاستفادة منها في حالات الطوارئ عند عدم توفر دم ملائم. ولقد قمنا في بدايات هذا القرن بأولى عمليات زراعة وتكثير الخلايا الجذعية من نخاع العظام لإنتاج خلايا دم حمراء ناضجة خارج الجسم، ونجحنا في ذلك نجاحاً هائلاً.
الخلايا الجذعية
الخلايا الجذعية هي خلايا غير متمايزة (غير متخصصة) تتمتع بدرجة عالية من التجديد الذاتي، ويمكن أن تتمايز إلى العديد من أنواع الخلايا المتخصصة المختلفة. كما يمكن التلاعب بالخلايا الجذعية من أجل توفير علاج لكثير من الأمراض.
تقدم أبحاث الخلايا الجذعية وعداً كبيراً لفهم الآليات الأساسية لنمو الانسان، ولتمايز خلاياه وأنسجة جسمه، فضلاً عن الأمل في إيجاد علاجات جديدة لأمراض مثل مرض السكري وإصابات الحبل الشوكي ومرض باركنسون واحتشاء عضلة القلب وأمراض الكبد والكلى والبنكرياس والعظام والغضاريف. ومع ذلك، تثير أبحاث الخلايا الجذعية البشرية أيضاً جدالات أخلاقية وسياسية حادة. إن اشتقاق سلالات الخلايا الجذعية متعددة القدرات من البويضات والأجنة محفوف بالنزاعات حول بداية الشخصية البشرية. علما أن إعادة برمجة الخلايا الجسدية من البالغين لإنتاج خلايا جذعية مستحثة متعددة القدرات تتجنب المشكلات الأخلاقية الخاصة بأبحاث الخلايا الجذعية الجنينية. ومع ذلك، في أي بحث يتضمن خلايا جذعية، تنشأ معضلات صعبة، وتعرقل الموافقة على التبرع بالخلايا للأبحاث والتجارب السريرية المبكرة للعلاجات. ويجري مناقشة هذه القضايا الأخلاقية والسياسية، جنباً إلى جنب مع التحديات العلمية لضمان استمرار أبحاث الخلايا الجذعية بطريقة مناسبة أخلاقياً.
ما هي أهمية الخلايا الجذعية؟
أولاً، جميع خلايا أجسامنا تأتي من الخلايا الجذعية. توفر هذه الخلايا إمكانات جديدة لعلاج أمراض مثل مرض السكري وأمراض القلب نظراً لقدراتها التجديدية الفريدة، ومع ذلك، لا يزال هناك الكثير من العمل الذي يتعين القيام به لفهم طبيعة الخلايا الجذعية، وكيف يحدث التمايز (التخصص) في خلايا الجسم الناشئة منها، وكذلك لفهم كيفية استخدام هذه الخلايا في العلاجات القائمة على الخلايا لعلاج الأمراض، والذي يشار إليه أيضاً باسم الطب التجديدي أو التعويضي. وتكمن اهمية الخلايا الجذعية في المختبر لفحص الأدوية الجديدة وتطوير أنظمة نموذجية لدراسة النمو الطبيعي وتحديد أسباب العيوب الخلقية.
ثانيًا، تجديد الأنسجة التالفة يعتمد بشكل كبير على وجود الخلايا الجذعية. بدون الخلايا الجذعية، ستكون عملية التئام الجروح والأنسجة المصابة صعبة للغاية.
ثالثاً، نأمل هذه الأيام، في القدرة على هندسة الخلايا الجذعية لإصلاح الأضرار التي تصيب الأعضاء واستعادة وظيفتها، خصوصاً في حالات مثل احتشاء عضلة القلب وإصابة الحبل الشوكي والسكتة الدماغية. هناك مجالات نشطة للغاية من البحوث الطبية الحيوية هذه الأيام، على أمل نقل هذه التكنولوجيا لما بعد التجارب على الحيوانات إلى الاختبارات السريرية والموافقة عليها من قبل الجهات الطبية الرسمية في نهاية المطاف لغرض الاستخدام السريري الروتيني. حتى الآن، لم يصبح العلاج بالخلايا الجذعية متاحاً لعلاج المرضى خارج التجارب السريرية، باستثناء حالات قليلة، مثل ترقيع الجلد، وزرع نخاع العظام كما تم توضيحه أعلاه.
التلاعب بالخلايا الجذعية (stem cell manipulation)من أجل توفير العلاجات
تمت دراسة الخلايا الجذعية بتفصيل كبير فيما يتعلق بالطب التجديدي، وفي العقود القليلة الماضية، كانت هناك إنجازات كبيرة في امكانية التلاعب بها. فلقد سمح التلاعب بأنواع معينة منها بدراسة امكانيتها في علاج بعض الأمراض.
يقوم الباحثون بزراعة الخلايا الجذعية في المختبر. يتم التلاعب بهذه الخلايا الجذعية لتتخصص إلى أنواع معينة من الخلايا، مثل خلايا عضلة القلب أو خلايا الدم أو الخلايا العصبية. يمكن بعد ذلك زرع الخلايا المتخصصة في الإنسان. على سبيل المثال، إذا كان الشخص مصاباً بمرض في القلب، فيمكن حقن الخلايا في عضلة القلب. يمكن أن تساهم خلايا عضلة القلب السليمة المزروعة بعد ذلك في إصلاح عضلة القلب التالفة. أظهر الباحثون بالفعل أن خلايا نخاع العظام البالغة الموجهة لتصبح خلايا شبيهة بالقلب يمكنها إصلاح أنسجة القلب لدى المرضى، ولا يزال المزيد من الأبحاث جارية.
يمكن إعادة برمجة الخلايا الجسدية للبالغين مثل الخلايا الليفية fibroblasts إلى خلايا جذعية محفزة iPSC من خلال استخدام التعديلات الجينية أو العلاجات الكيميائية. تم تحقيق ذلك لأول مرة بواسطة احد العلماء اليابانيين باستخدام 4 جينات تشارك في الحفاظ على تعدد قدرات الخلايا الجذعية. يمكن بعد ذلك توجيه الخلايا الجذعية المحفزة نحو نوع الخلية المطلوب.
ومن أنواع الخلايا الجذعية التي يمكن اشتقاقها من البالغين نوع يسمى بالخلايا الجذعية الوسطية human mesenchymal stem cells وهي خلايا جذعية متعددة القدرات قادرة على تجديد نفسها والتمايز في المختبر إلى أنواع مختلفة من الأنسجة. في تجارب مختبرية نجحنا في دفعها للتمايز إلى عدد من الخلايا المتخصصة باستخدام تقنيات غذائية، وأخرى بيئية. في الجسم الحي، تعد الخلايا الجذعية الوسطية مصادر للعوامل الغذائية التي تعدل جهاز المناعة، وتحفز الخلايا الجذعية الذاتية على إصلاح الأنسجة التالفة. حالياً، هناك العديد من التجارب السريرية التي تستخدم الخلايا الوسطية في عدد كبير من العمليات معظمها في مراحل التجارب الأولى والثانية، ولم تظهر وجود أحداث سلبية خطيرة. بالتأكيد ستساعد نتائج هذه التجارب في استكشاف الإمكانات العلاجية لهذه المصادر الخلوية الواعدة في الطب.
في الصورة: رسم بياني يوضح إمكانيات التمايز للخلايا الجذعية الوسطية
التطورات الحديثة في علاج مرض الزهايمر باستخدام الخلايا الجذعية
مرض الزهايمر هو مرض تنكسي عصبي تدريجي يتميز بفقدان الذاكرة والضعف الإدراكي. وهو ناتج عن فشل متشابك وتراكم مفرط للبروتينات المشوهة. حتى الآن، فشلت جميع التجارب السريرية المتقدمة المرتبطة بمرض الزهايمر بسبب فقدان عدد كبير من الخلايا العصبية في دماغ المرضى المصابين بالمرض. ويبدو أن الخلايا الجذعية يمكنها من تحسين خصائص التجديد الذاتي والتكاثر والتمايز وإعادة التركيب لخلايا الدماغ في النماذج الحيوانية لمرض الزهايمر. وأثبتت الدراسات قبل السريرية الحديثة حول العلاج بالخلايا الجذعية لمرض الزهايمر أنها واعدة. وقد يكون العلاج بالخلايا الجذعية لمرض الزهايمر قادراً على: تحسين الذاكرة الوظيفية وتجديد الخلايا العصبية وتحسين الانتعاش الوظيفي العام واستبدال الخلايا التالفة بالخلايا الصحية. ومع ذلك، لا يزال يتعين اتخاذ العديد من الخطوات قبل أن يصبح العلاج بالخلايا الجذعية علاجاً مجدياً لمرض الزهايمر البشري والأمراض ذات الصلة.
الخلايا الجذعية لأمراض العين والسكتة الدماغية والذبحة الصدرية
مرض العين التنكسي degenerative eye disease هو فقدان الخلايا العصبية الشبكية ووصلاتها و الخلايا الدبقيةcells glia الداعمة. ولا تتجدد المستقبلات الضوئية وخلايا العقدة الشبكية retinal ganglion cells، وبالتالي يمكن أن يؤدي ذلك إلى العمى.
خلصت العديد من الدراسات الحديثة إلى أن الخلايا الجذعية الجنينية والمحفزة لديها القدرة على استبدال خلايا الشبكية المفقودة. لكن الخلايا الجذعية العصبية والوسيطة لم يكن لديها القدرة على استبدال خلايا الشبكية المفقودة وتحفيز تجديد خلايا الشبكية التالفة.
في دراسة حديثة تم زراعة الخلايا الجذعية العصبية في مرضى السكتة الدماغية، دون أي آثار سلبية. ثبت أن هذه الخلايا الجذعية العصبية لا تستعمر أنسجة المخ ولكنها خلايا تعمل بصورة عابرة لها تأثير ايجابي على وظائف المخ.
في التجارب السريرية الحديثة تمت زراعة الخلايا الجذعية العصبية في المرضى الذين يعانون من إصابات الحبل الشوكي حيث تم حقنها في موقع الإصابة. لم تكن هناك آثار صحية ضارة في هؤلاء المرضى، وظهر تحسن في الاستجابات الحسية والكهربائية بمرور الوقت.
علاوة على ذلك، تم استخدام الخلايا الجذعية / السلفية البطانية endothelial stem/progenitor cells في التجارب السريرية لتقييم فعاليتها في علاج الذبحة الصدرية. حيث استخدمت الخلايا الجذعية في محاولات لتشجيع تكوين أوعية دموية جديدة. كان هناك انخفاض في عدد نوبات الذبحة الصدرية شهرياً عند المرضى الذين تلقوا العلاج، ولم تظهر آثار سلبية مرتبطة بالخلايا.
امال العلاج بالخلايا الجذعية
في الختام، يمكن أن نؤكد على أن زيادة أبحاث الخلايا الجذعية توعد بعلاجات جديدة للعديد من الأمراض. حاليا يقبل معظم العلماء أن الخلايا الجذعية الجنينية والبالغة لها وعود هائلة في علاج عدد كبير من الأمراض فنادراً ما يمر شهر دون نشر بحث مهم حول الخلايا الجذعية في مجلة علمية. كل اكتشاف يجلب نظرة ثاقبة جديدة في نمو الخلايا والأنسجة ويثير اهتمام المجتمع الطبي والعلمي بإمكانية إصلاح ويلات العمر والصدمات ومجموعة من الأمراض من أمراض القلب إلى أمراض باركنسون والسكري.
المستقبل سيحمل لنا حلولاً دائمة للأمراض بعلاجها عن طريق الخلايا الجذعية.