يستغرب كثير من الرجال والنساء كيف لم يعودوا يرغبون بشركائهم وشريكاتهم بعد فترة من الزمن، وكيف تتغير حتى تفضيلاتهم الجنسية مع الزمن وكأنها نظام مستقل له اجنداته. في الحب أيضاً، لماذا نحب صنفاً معيناً من الأشخاص بطباع معينة؟ هناك الكثير مما تشرحه اللدونة العصبية حول الحب والجنس وكيف يمكن أن تتغير تفضيلاتنا في الجنس الآخر جنسياً او رومانسيا وأن يعاد تشكيل الدماغ حتى اثر ذلك. هذا المقال هو قراءة في فصل “اللدونة العصبية في الحب والجنس” من كتاب نورمان دويدج – الدماغ الذي يغير ذاته (The Brain that Changes Itself)[1].
يتميز الجنس لدى البشر بمرونة مذهلة مقارنة بالمخلوقات الأخرى، حيث أن هناك تفاوت فيما يحب الناس القيام به جنسيًا، وأين يشعرون بالإثارة، والأهم من ذلك، من أو ماذا ينجذبون إليه. تُدار هذه المرونة من خلال قدرة الدماغ على إعادة التشكيل، خاصة في مناطق مثل منطقة تحت المهاد (Hypothalamus)، الذي ينظم السلوكيات الغريزية مثل الجنس، واللوزة الدماغية (Amygdala)، التي تعالج العواطف والقلق. كلا المنطقتين مرنتان للغاية، وتستجيبان للتجربة من خلال تشكيل روابط عصبية جديدة أو إضعاف القديمة. لكن كيف عرفنا ذلك وإلى أي مدى يمكن أن يحدث التغيير؟
من الرواد في مجال اللدونة العصبية مايكل ميرزنيك (Michael Merzenich)، وهو عالم أعصاب معروف بأبحاثه في المجال، وقد أظهر أن الدماغ يعمل وفق قواعد مثل “استخدمه أو افقده” و”الخلايا العصبية التي تُطلق معًا تتصل معًا”. تنطبق هذه المبادئ على السلوك الجنسي بقدر ما تنطبق على التعلم أو المهارات الحركية. على سبيل المثال، الانخراط المتكرر مع محفزات جنسية معينة يقوي المسارات العصبية المرتبطة بهذه المحفزات، مما يجعلها أكثر هيمنة في خارطة الشخص للتفضيلات الجنسية. على العكس من ذلك، فإن إهمال محفزات معينة يمكن أن يضعف تأثيرها، مما يسمح بظهور تفضيلات جديدة. هذا يفسر لماذا يطور بعض الأفراد جاذبية لأشياء غير تقليدية، مثل الميول للأشياء غير الحية (ما يعرف بالفيتش).
تسلط أعمال ميرزنيك الضوء على دور نظام الدوبامين (Dopamine System)، والدوبامين هو ناقل عصبي حاسم للمكافأة والتحفيز، ويلعب دوراً مهماً في دفع تغييرات اللدونة العصبية. عندما نشارك في أنشطة ممتعة مثل الجنس، يرتفع الدوبامين، مما يعزز الروابط العصبية التي أدت إلى المكافأة. يمكن لهذه العملية أن تعيد تشكيل ما نجده جذابًا، أحيانًا متجاوزًا معايير الجمال “الموضوعية”، كما يُرى في الحالات التي يقع فيها الأفراد في حب شركاء يتحدون فيها تفضيلاتهم السابقة. اللدونة في الحب نفسه، توضح كيف يتكيف الدماغ مع التجارب العاطفية والاجتماعية، مع إعادة تهيئة خرائط الحنان والشهوة.
لاحظ الأقدمون مثل فرويد أن الطفل الذي ينشأ على يد أم أو أب غير منخرط عاطفياً أو غاضب أو غير منتظم قد تجعل الشخص يبحث لاحقًا عن شريك بالغ بنفس السمات، حيث تصبح هذه الأنماط المبكرة مدمجة في الشبكات العصبية للدماغ الخاصة بالحنان. تتماشى هذه العملية مع قاعدة “الخلايا العصبية التي تُطلق معًا تتصل معًا” حيث أن التعرض المتكرر للطفل لديناميكيات عاطفية معينة يعزز المسارات العصبية المرتبطة بهذه الديناميكيات، مما يجعلها نموذجًا للعلاقات المستقبلية. غير أن فرويد لم يمتلك الرؤية العلمية أو العصبية لما يحدث في الدماغ.
الإباحية واكتساب التفضيلات الجنسية
قدم ظهور الإباحية على الإنترنت دليلاً صارخًا على كيفية اكتساب التفضيلات الجنسية وتعزيزها من خلال المرونة العصبية. لاحظ العلماء أن الإباحية تلبي ثلاثة شروط رئيسية للتغيير المرن: الممارسة المكثفة، التعرض المتكرر، الانتباه المركز، وبعد تلك الشروط تأتي المكافأة المتمثلة بإطلاق الدوبامين أثناء الإثارة الجنسية. يعزز هذا المزيج الروابط العصبية الجديدة، مما يخلق ما يسميه بعض الباحثين “جنسانية جديدة”— وهي رغبة جنسية اعيد تشكيلها بعد الانخراط في محفزات معينة، غالبًا ما تكون متطرفة. كتب توماس شون (Sean Thomas)، وهو كاتب شارك تجربته مع الاباحية، كيف أنه صار يجد بعض المحفزات الإباحية مملة فصار يتوجه نحو محتوى اكثر تطرفاً مما يتضمن الضرب الشديد وغير ذلك، ومع كل مرة ينخرط فيها بهذا السلوك فإن هناك اطلاق للدوبامين يعزز بدوره الشبكات العصبية المرتبطة بالتفضيل الجديد الذي يشاهده. مع مرور الوقت يتولد لديه تسامح (tolerance) تجاه تلك المؤثرات مما يجعله يبحث عما هو أكثر تطرفاً لتحقيق ذات الاثارة. صفة البحث عن الاثارة بذات المستوى مدفوعة بنظام الدوبامين هي من مميزات هذا النظام في الدماغ والذي يخلق ما نعرفه بالإدمان.
أظهر إريك نيستلر (Eric Nestler)، عالم أعصاب في جامعة تكساس (University of Texas)، كيف تتسبب سلوكيات الإدمان، بما في ذلك الإدمان على أمور غير المخدرات مثل الإباحية، في تغييرات دائمة في الدماغ. اكتشف نيستلر أن التعرض للمحفزات الإدمانية ينتج بروتينًا يسمى فوسب ΔFosB، يتراكم في الخلايا العصبية ويغير التعبير الجيني. يقلب هذا البروتين مفتاحًا جينيًا، مما يجعل نظام الدوبامين (Dopamine System) في الدماغ أكثر حساسية للمحفز الإدماني، فيؤدي ذلك التلاعب بالتحسس والتسامح مما يعزز الادمان حيث يحتاج الشخص الى المزيد من التحفيز في كل مرة لارضاء الذات وبالتالي قد يجتاح المحفز حياته كلياً. في حالة توماس، أصبح نظام مكافأة دماغه حساسًا لموضوعات إباحية معينة، معيدًا تشكيل خارطته الجنسية ومقللاً من إثارته مع الشركاء الحقيقيين. احدى المشاكل البارزة للإدمان من هذا النوع هي ما ينعكس على الشركاء الجنسيين.
استمرار التعرض للمحتوى الاباحي يؤدي لاحقاً الى آثار على القدرة الجنسية رغم عدم إصابة الرجال بمشكلة جسدية معينة تبرر ذلك. السبب في ذلك هو اعتياد محفز آخر مرتفع قد يتضمن سيناريوهات عدوانية مثلاً لتحقيق الاثارة وهو ما لا يمكن الحصول عليه في العلاقة الاعتيادية التي فقدت وفق قاعدة “استخدمه أو افقده” حيث تضمحل وتضعف الشبكة الدماغية السابقة التي تعزز الحميمية بشكلها السابق.
الحب وإلغاء التعلم
في الحب يدخل لاعب آخر الى ساحة اللدونة العصبية بالإضافة للدوبامين. أبرز والتر ج. فريمان (Walter J. Freeman)، عالم أعصاب، دور الأوكسيتوسين (Oxytocin)، وهو معدل عصبي يُطلق أثناء ممارسة الحب والأبوة. يلعب الاوكسيتوسين دوراً مهماً في اللدونة العصبية حيث يتسبب بما يعرف بالانخماد[2] طويل الأمد لبعض الروابط القديمة ويهيئ الاوكسيتوسين الدماغ بذلك لإلغاء تعلم خرائط معينة ليقوم بتشكيل ارتباطات جديدة.
من خلال الامتناع عن الإباحية—بتطبيق قاعدة “استخدمه أو افقده” فعليًا—أضعف الشبكات العصبية المرتبطة بأذواقه المكتسبة، أبلغ أحد الأشخاص عن تطبيقه لذلك الامتناع ببساطة. لكن ما ساعد أكثر في الغاء التعلم هو أنه وبمرور الوقت استعاد جاذبيته لشريكته، مما يظهر كيف يمكن للحب إعادة تهيئة خرائط الدماغ العاطفية. تشير أعمال فريمان إلى أن الأوكسيتوسين يلعب دورًا حاسمًا هنا، مما يمكّن الدماغ من إذابة الروابط القديمة ودمج أنماط جديدة، وهو أمر ضروري للالتزام وتعميق العلاقات.
مصائد الدماغ وإعادة التمايز
يمكن أن تؤدي المرونة العصبية أيضًا إلى إشكاليات في تكوين الخرائط العصبية الجديدة، هناك مفهوم يُعرف بمصائد الدماغ (Brain Traps)، كما وصفها مايكل ميرزنيك. تحدث هذه العملية عندما تندمج خارطتان دماغيتان منفصلتان، يُفترض أن تظلا منفصلتين، لكنهما ترتبطان بسبب التنشيط المتكرر معًا، وفقًا للقاعدة “الخلايا العصبية التي تُطلق معًا تتصل معًا”. على سبيل المثال، تحدث لدى الموسيقيين حالة تعرف بخلل التوتر العضلي البؤري (Focal Dystonia)، تؤدي الحركات المتكررة للأصابع في وقت واحد إلى دمج خرائط الدماغ الحسية لهذه الأصابع، مما يضعف التحكم الفردي بالأصابع. وبالمثل، في مجال الجنس، يمكن للتجارب الصادمة المبكرة أن تدمج خرائط الجنس والعدوان، مما يؤدي إلى تفضيل لمشاهدة سيناريوهات العدوان أو القيام بذلك.
توضح حالة المريض أ هذا بشكل واضح. بسبب الصدمات في الطفولة، اندمجت خرائط الجنس والعدوان في دماغه، مما دفعه إلى البحث عن شركاء يعكسون هذه الديناميكيات. من خلال العلاج المكثف مع نانسي بيل (Nancy Byl)، عالمة أعصاب ومعالجة، تعلم الشخص إعادة تحديد التمايز بين هذه الخرائط. تضمن العلاج إضعاف الخريطة المندمجة عن طريق تجنب المحفزات المثيرة وإعادة تدريب دماغه لفصل الحنان عن القسوة والحزم. أدت هذه العملية إلى إنشاء خارطتين مختلفتين: واحدة للحنان الجسدي وأخرى للحزم تجاه الذات بشكل صحي. بمرور الوقت، تحولت تفضيلاته الجنسية، مما مكنه من إقامة علاقات أكثر صحة. تؤكد هذه الحالة قوة المرونة العصبية ليس فقط في تشكيل الأذواق ولكن أيضًا في إلغائها.
حتى التفضيلات التي تم اكتسابها خلال الفترات الحرجة (Critical Periods)وهي أول ثلاثة سنوات من العمر والتي يصعب تغييرها عادة، يمكن إعادة تشكيلها بالعلاج المكثف. تعتمد بيل على المبدأ “استخدمه أو افقده”، يظهر أنه من خلال تقليل التعرض للمحفزات التي قد تسبب إشكالية لبعض الأشخاص وتعزيز الأنماط الأكثر صحة، يمكن للدماغ إعادة تهيئة نفسه. هذا يقدم أملًا للأفراد الذين يرغبون بتغيير تفضيلاتهم الجنسية بعد أن اكتسبوا تغييرات سواء من الإباحية أو تجارب الطفولة المبكرة.
إن الاطلاع على هذا الجانب من العلم وعلى تلك القصص لا يعني على الاطلاق أن الميول الجنسية غير المألوفة هي حالات غير صحية أو حالات ذات إشكالية (ما لم تكن بالفعل ذات إشكاليات مثل النزعات لإرغام الآخرين أو للقيام بالعنف). تمثل رؤية الشخص للميول والتفضيلات العامل الأول المحدد فقد يختار الأشخاص تفضيلاً معيناً رغم أنه يعد غير مألوف. المهم في الأمر أن نعلم أن لدينا دوراً في تشكيل ميولنا في بعض الحالات، وليس بالضرورة بشكل مطلق. ومما تجدر الإشارة له أن الكتاب لم يتطرق بإسهاب للمثلية الجنسية لكنه يذكر كيف يتحول بعض الأشخاص الى الثنائية الجنسية (bisexuality) والعكس نحو تفضيل آخر مثلي أو مغاير، أو كيف أن بعض الأشخاص يصفون تغيرهم من ميل مثلي الى مغاير وبالعكس اثناء حياتهم.
[1] Doidge, Norman. The brain that changes itself: Stories of personal triumph from the frontiers of brain science. Penguin, 2007.
[2] قمت بترجمته بالانخماد رغم أن الكلمة الأصلية هي الاكتئاب depression لكن المقصود بالمصطلح ليس ما نعرفه عن الاكتئاب بل الذبول والاندثار لشبكة دماغية معينة.
كتب هذا المقال بمساعدة أكثر من نموذج للذكاء الاصطناعي وبعد قراءة الكتاب من قبل الكاتب.