تُنشر يومياً العشرات من البحوث العلمية في المجالات الطبية، ولا يخلو بحث فيها من اكتشاف مميز، يبدأ الناس بتداول البحث وهذه اللحظة هي أكثر اللحظات المحببة الى الباحث العلمي، أن يرى أن الخيبات المتكررة التي لاحقته خلال سنوات البحث العلمي قد أدت إلى القبول في المجتمع العلمي، إضافة إلى التجارب الفاشلة الخائبة التي لا نراها في البحث، فإن هناك ابطال لا نسمع عنهم كثيراً عند مناقشة البحوث العلمية خارج دوائر الاختصاص، أبطال لولاهم لما كان بالإمكان فهم الطفرات الوراثية، ولا كان بالإمكان دراسة الموت الخلوي .. فمن هم يا ترى ؟!
شاهد الكثير منا افلام الرسوم المتحركة بينكي وبرين التي تحكي قصة فأرين للتجارب يحاولان السيطرة على العالم، ربما هذه هي الصورة التي تتبادر للذهن عند الحديث عن الكائنات التي يتم استعمالها في المختبر لأغراض التجارب، ويعود السبب الأول لهذا هو أنه ومنذ عقود قد سادت البحوث التي تستخدم القوارض بشكل رئيسي لفهم اليات الأمراض ودراسة تأثيرات الأدوية، وبالفعل ما قدمته القوارض من خدمة للبشرية عن طريق البحوث له أهمية كبرى، ولكن يبدو أن خطة بينكي وبرين قد نجحت أخيرا، فقليل ما نجد الحديث عن خدمات أبطال البحث العلمي من الكائنات الأخرى، فهل تخيلت أن تكون الذبابة المزعجة التي تحاول التطفل على فواكهنا هي سبب لفوز احدهم بجائزة نوبل ؟ أم هل بدر الى ذهنك أن الخميرة التي نستخدمها في صنع خبز العباس بالعراق او العيش البلدي في مصر من الممكن أن تكون بوابة لفهم آليات السرطان ؟
منذ عقود تنوعت أدوات البحث العلمي، لسبب رئيسي هو عدم أخلاقية إجراء البحوث على البشر بصورة مباشرة دون ضمان أن الطريقة العلاجية لن تكون نتائجها كارثية، ومع التطور العلمي صار استخدام كائنات أخرى غير القوارض والحيوانات شائعاً فبدأ العلماء بتطويع البكتريا او استخدام أسماك شبيهة بأسماك الزينة المعروفة بأسماك الزيبرا او ذباب الفاكهة او الديدان الاسطوانية وتعديلها جينيا لصنع ادوات لفهم الامراض.
ما يجعل هذه الكائنات مفضلة كأدوات للبحث العلمي، هو البساطة والسهولة لدراستها وهذه هي القاعدة الأهم في البحث العلمي الناجح، فحتى تنتج بحثاً علمياً ناجحاً ليس المطلوب تعقيد الامور بل تبسيطها، وبالتالي استخدام ابسط الطرق واقلها تكلفة وأكثرها كفاءة للوصول الى النتيجة.
وهذا ما توفره هذه الكائنات، فقصر دورة حياتها، وسهولة التحكم بها والمساحة القليلة التي تشغلها في المختبرات يجعلها ادوات مهمة في البحث العلمي، اضافة الى ذلك هو بساطة تكوينها الخلوي ومعرفتنا بتركيباتها الجينية المشابهة الى حد كبير تركيبة الخلايا البشرية.
أسماك الزيبرا مثلا، وهي اسماك صغيرة لا يتجاوز طولها 4 سنتيمترات ويمكن ان تتطور اجنتها خلال يوم واحد فقط بما يعادل جنين انسان عمره شهر، اضافة الى قلة تكلفتها بالمقارنة مع الفئران فأن اجنتها تكون شفافة بشكل يُمكن الباحثون من دراسة تطور الاعضاء مباشرة خلال النمو دون الحاجة للتشريح.
من الكائنات الاخرى غير المعروفة ولكنها قدمت خدمات جليلة للبشرية في البحث العلمي هو فصيلة من الديدان الاسطوانية يطلق عليها اسم الربداء الرشيقة ( بالانجليزية C. elegans) هذه الدودة التي لا تتجاوز 1 مم تحتوي على ما يقارب 1000 خلية فقط، وبالتالي بإمكان العلماء تحديد خلية وتتبع مصير هذه الخلية خلال دورة الحياة.
من الاكتشافات المهمة التي بُنيت على الدراسات في هذه الديدان هو عملية الموت الخلوي المبرمج التي وضعت الاساس للكثير من فهمنا اليوم حول موت الخلايا وكيفية استخدامها في تطوير ادوية السرطان، وكذلك عمليات اعادة برمجة وتداخل الحامض الريبي .
هذان الاكتشافان اضافة الى ما قدماه من إثراء للبحث العلمي فإنهما قادا أصحابهما الى جائزة نوبل في اعوام 2002 و 2006.
من الابطال المنسيين الذين ساعدوا من قضى في دراستهم سنوات الى منصات نوبل هي ذبابة الفاكهة، التي تزعجنا كثيرا في بيوتنا، إستخدامها في المختبر كان سببا في فهم الكروموسومات وكيفية تكون الطفرات ( جائزة نوبل 1933) وكذلك فهم الأساس الجزيئي لعمل جهازنا المناعي ( جائزة نوبل 2011)، وفي العام الماضي فازت الية الالتهام الذاتي للخلايا جائزة نوبل وكانت نتيجة لبحوث على الخميرة.
أختيار الاداة للبحث يكون إعتمادا على السؤال المطروح من قبل الباحث، فمثلا اذا اراد الباحث دراسة الاساسيات الجزيئية على مستوى كيفية استنساخ الحامض النووي DNA او كيف تعمل الخلية الواحدة ودراسة الوظائف المختلفة فمن الممكن إختيار البكتريا او خلايا الخميرة لهذا الغرض، على جانب أخر لو اراد الباحث دراسة كيفية تكون الاجنة فأن استخدام البكتريا او الخميرة فكرة سيئة جدا لبساطة هذه الكائنات، لذا يكون الخيار هو استخدام اسماك الزيبرا.
فهم نوعية ومقدار تعقيد الكائن المستخدم للوصول الى النتيجة هو أمر ضروري في تقييم الدليل العلمي، وبيان مدى قوة الدراسة فكما إن كائنات دقيقة توفر لنا فهم للاليات الجزيئية او اليات اكثر تعقيداً بقليل، لا يمكن الاعتماد على نتائج الدراسات على هذه الكائنات والترويج للمركب المستخدم او المادة او الطريقة على إنها العلاج السحري، فما ينفع في قتل خلايا ذبابة الفاكهة او ما ينفع بتحجيم نمو الخميرة لا يعني بالضرورة انه سينجح كعلاج للسرطان مثلا في الانسان.
من الممكن أن تضع دراسات كهذه لبنة اولى في الطريق نحو العلاج او فهم لألية مهمة وهنا تكمن أهميتها ولكن علينا تذكر أن الطريق نحو العلاج يحتاج دراسات اكثر تعقيداً ولا يمكن لبكتريا لوحدها او خميرة او سمكة ولا حتى فأر او قرد أن يجعلنا متأكدين من النتيجة ما لم تكن النتائج سلسلة متواصلة من الادلة التي تكمل بعضها بأدوات مختلفة يتخصص مركز الفارابي – مركز الفارابي الطبي لعلاج الاورام – سرطان الكلي الجديد في علاج سرطان البروستاتا هو أخذ عينة من البروستات وفحص شامل للأورام وعلاجها. يعتمد علاج سرطان الكلى على حجم السرطان وما إذا كان قد انتشر إلى أجزاء أخرى من الجسم .
ربما زمن بينكي وبراين سيبدأ بالاضمحلال مع بروز هذه الكائنات اكثر فأكثر وسهولة استخدامها، وربما ستأتي افلام رسوم متحركة تحكي لأطفالنا عن سمكة او دودة، وحتى ذلك الحين، ما نحتاجه كمتابعين للعلم أن نبقى متفتحي الذهن ونبحث عن البطل المخفي في البحث لنشكره اولا، ولنضع الدراسة تحت منظار النقد العلمي، فإستخدام البطل المناسب للدراسة هو ما يجعل الدليل خطوة نحو الحقيقة.
للمزيد :
Kaletta, T. and M. O. Hengartner (2006). “Finding function in novel targets: C. elegans as model
organism.” Nat Rev Drug Discov 5(5): 387-398.
Botstein, D. and G. R. Fink (2011). “Yeast: An Experimental Organism for 21st Century Biology.” Genetics 189(3): 695-704.
Hales, K. G., et al. (2015). “Genetics on the Fly: A Primer on the Drosophila Model System.” Genetics 201(3): 815-842.
Veldman, M. B. and S. Lin (2008). “Zebrafish as a developmental model organism for pediatric research.” Pediatr Res 64(5): 470-476.