أثناء القرن العشرين استخدم علماء الوراثة على الأقل خمسة تعريفات متداخلة للجين، كان الاول هو تعريف مندل: الجين هو وحدة الوراثة وهو أرشيف لتخزين المعلومات الارتقائية، واكتشاف تركيبة الDNA عام 1953 جعل استعارة مندل استعارة حرفية من خلال اقتراحه لكيفية صنع الجينات لجينات آخرى، وكما اعلن جيمس واطسون وفرانسيس كريك في كتاب الطبع (Nature) “أننا لم يفتنا أن نلاحظ أن التزاوج النوعي الذي افترضناه يطرح على الفور إمكانية وجود آلية للنسخ للمادة الوراثية”، وبمجرد اتباع قاعدة التزاوج الاساسية وهي أن A لا بد أن يتزاوج مع T (وليس مع C أو G أو A) وأن C لا بد ان يتزاوج مع G (وليس مع C او T أو A) فإن كل جزئ من الDNA ينتج في مرحلتين بشكل ذاتي نسخة رقمية طبق الاصل من التسلسل المتفرد الخاص به، وإنها تحتاج إلى ماكينة للقيام بالنسخ تدعى بلمرة الDNA: ولان النظام رقمي فإنه لا يفتقد لأي دقة ولأن النظام معرض للخطأ فإنه يسمح بالتغير التطوري، وهكذا يعد جين المندلي (نسبة الى مندل) أرشيفا.

هنالك تعريف آخر للجين تم إحياؤه مؤخرا وهو الجز التبادلي لدى “دي فريس”، فالمفاجأة المذهلة في قراءة الجينوم في التسعينات من القرن العشرين هي أن الانسان لديه جينات متشابهة جدا مع الذبابة والدودة أكثر مما توقع أي أحد، فالجينات الخاصة بخطة وضع جسم الذبابة قد اتضح ان لها نظائر متطابقة لدى الفأر والإنسان، حيث يتم وراثتها جميعا من السلف المشترك والذي هو الدودوة المسطحة الدائرية والتي عاشت منذ 600 مليون سنة، وهي متشابهة جدا لدرجة أن النسخة البشرية من أحد تلك الجينات يمكنها ان تعوض نظيرتها من الذبابة في تطور ذبابة الفاكهة، بل كان الاكثر اثارة للدهشة هو اكتشاف أن الجينات التي يستخدمها الذباب للتعلم والذاكرة متطابقة ايضا مع ما لدى البشر، ويفترض كذلك أنها موروثة من الديدان المسطحة الدائرية. إنها مجرد مبالغة طفيفة إذا قلنا: إن الجينات لدى الحيوانات والنباتات تشبه إلى حد ما الذرات، حيث انها أجزاء معيارية تستخدم في تجميعات مختلفة لإنتاج مركبات مختلفة، إن الجين الديفانزي (نسبة إلى دي فريس) هو جزء تبادلي.

هنالك تعريف ثالث للجين بدأ عام 1902 مع معاصر دي فريس وهو الطبيب الإنجليزي “أركيبالد جارود” والذي حدد بشكل عبقري أول مرض أحادي الجين وهو مرض غامض يسمى “الكابتونيوريا” ومنه تنحدر جميع التعريفات الشائعة جدا للجينات من خلال الأمراض التي تسببها عندما تتلف، هذا التعريف هو (OGOD) أي الجين أوحد ومرض أوحد وهي الحروف الاولى من “one gene one disease” وهذا مضلل في اتجاهين حيث يفشل في تحديد أن جينا تبادليا واحدا من الممكن أن يرتبط مع الكثير من الأمراض وأن هنالك مرضا واحدا لديه جينات تبادلية كثيرة، ويتضمن أيضا أن وظيفة الجين هي الوقاية من ذلك المرض كأننا نقول بأن وظيفة القلب هي الوقاية من الأزمات القلبية، ومع ذلك فإن غالبية البحوث الجينية تدفعها الضرورة الطبية، وبالتالي فإن تعريف ال(OGOD) ربما لا يمكن تجنبها فالجين الجارودي (نسبة الى جارود) هو جين مجنب للمرض ومانح للصحة.

هنالك تعريف رابع للجين هو ما يحدث بالفعل مباشرة مع البداية، فقد أدرك رواد الDNA أن الجينات لها وظيفتان: نسخ نفسها والافصاح عن نفسها من خلال بناء البروتينات، يفترض “جاورد” أن الجينات تصنع الانزيمات وهي المحفزات الكيميائية، قام “لينوس باولينج” بالتوسع في هذا الاتجاه فقال: الجينات تصنع جميع انواع البروتينات، ثم قبل اربعة أشهر من أكتشاف الحلزون المزدوج افترض “جيمس واطسون” أن الDNA تصنع الRNA والتي بدورها تصنع البروتين وهو مفهوم أطلق عليه “فرانسيس كريك” فيما بعد اسم “دوجما المركزي” المأخوذ من علم أحياء الجزيء. والمعلومات تتدفق من الجين وليس إليه مرة أخرى، تماما مثلما تتدفق المعلومات من الطباخ الى الكعكة وليس العكس على الرغم من وجود العديد من التفاصيل مثل الربط التبادلي، ونفاية الDNA وعوامل النسخ، وأحدث شيء هو عدد كبير من الجينات الجديدة التي تصنع الRNA وليس البروتين حيث يبدو أن الكثير منها يشارك بشكل وثيق في تنظيم عملية الإفصاح عن التشفير البروتيني للجينات، حيث إن كل تلك التفاصيل عملت على تعقيد الصورة المعيارية للجين الأيضي (الخاص بعملية الأيض) فإن الدوجما المركزية (العقيدة المركزية) ما زالت تهيمن. ومع الكثير من الاستثناءات فإن البروتين يقوم بالعمل والDNA يخزن المعلومات والRNA هو الرابط بينهما وذلك كما خمن واطسون، إذن فإن جين واطسون – كريك يعتبر وصفة.

هنالك تعريف خامس للجين والذي يرجع الفضل فيه إلى اثنين من الفرنسيين وهما “فرانسوا جاكوب” و”جاكس مونو” وهو أن الجين يعتبر مفتاحا وبالتالي يعتبر وحدة النمو أو اتطور، وما صنعه جاكوب و مونو في الخمسينات من القرن 20 هو اكتشاف كيف أن جرثوما داخل محلول من اللاكتوز يبدأ مباشرة بتصنيع إنزيم يمكنه من هضم اللاكتوز ثم يتوقف عن هذا التصنيع بعدما يكون هنالك إنتاج كاف منه، والجين يتوقف عن العمل من خلال بروتين قامع يتعطل باللاكتوز، وبذلك افترض كل من جاكوب ومونو أن شيئا كهذا لا بد أن يحدث وهو السير وراء تلك الفكرة المذهلة بأن الجينات تعمل وتتوقف من خلال ترابط البروتينات بتسلسل خاص قريب من تلك الجينات، بمعنى آخر أن الجينات جاءت مع مفاتيح  الDNA وما يعرف الآن بالمطورات والمحسنات  وهذه التباديل هي المفتاح لتطوير الجيد بعد ما كان جنينا، والكثير من الجينات تحتاج إلى العديد من المنشطات لتلتحم بمطوراتها، وتلك المنشطات يمكنها أن تعمل من داخل تجميعات مختلفة وبعض الجينات من الممكن تبديلها على مجموعات مختلفة من المنشطات (المفعلات)، والنتيجة هي أن الجين نفسه من الممكن استخدامه في أنواع مختلفة أو في أجواء مختلفة من الجسم لإحداث تأثيرات مختلفة تماما وذلك بناء على أي الجينات الأخرى تعتبر فعالة أيضا، هنالك على سبيل المثال جين أسمه ا”لقتفذ الصوتي” والذي يقوم من خلال أحد السياقات بتحويل الخلايا المجاورة إلى خلايا عصبية ومن خلال سياق آخر تستحث الخلايا المجاورة على أن تنمو لتكوين أطرافا، هذا هو أحد الأسباب الذي يكون فيه من المحذور التحدث عن وجود جين معين لشيء معين؛ فكثير من الجينات لها وظائف متعددة.

ونفاجأ هنا بأسلوب مختلف في رؤيتنا للجينات باعتبارها مجموعة من التباديل النمائية (أو التطورية) فجميع الأنسجة تحمل المجموعة المتكاملة من الجينات ولكن الجينات تتبادل على تجميعات مختلفة في أنسجة مختلفة، والآن فلننس سلاسل الجينات ولنضع في حسابنا أين وكيف يتم الافصاح عن الجين، هذا هو الاسلوب الذي يفكر به كثير من علماء الأحياء فيما يتعلق بالجينات فبناء جسم الانسان يعني القذف بسلاسل من التباديل في الترتيب الصحيح، تلك التباديل التي تكون سبب نمو وتمايز الجسم، ولجعل الموضوع أكثر تشويقا فلنعلم أن الماكينات التي تقذف بتلك التباديل –عوامل النسخ- هي نفسها نواتج لجينات اخرى، إذن فالجين الجاكوبي المونوى (نسبة الى جاكوب ومونو) يعتبر تبديلاً.

 

المصدر: كتاب (الطبع عبر التطبع – مات ريدلي)