ترجمة: مصطفى علي. تشكل البكتيريا المقاومة للمضادات الحيوية تحدياً جسيماً وهائلاً للطب والعلوم الحديثة. وهي تتطلب البحث المركز لتقليل خطر مقاومتها للمضادات، لكننا حالياً خاسرون لهذه المعركة. وبما أن المقاومة البكتيرية هي في الأساس عملية تطورية، فقد يمكن استغلال المبادئ التطورية لتقليلها. автокредит без взноса
لقد مثلت الفترة المحصورة بين الثلاثينات وحتى الستينات من القرن الماضي “العصر الذهبي” للمضادات الحيوية، ومنذ ذلك الحين فقد كانت خطى البكتريا في تطوير المقاومة أسرع من معدل تطوير المضادات الحيوية. لذا فقد كنا نُقِبل ببطئ على بكتريا أكثر مقاومة في الأعوام الستين الماضية. تنشأ المقاومة عند البكتريا حينما تقوم إحدى أنواع البكتريا المعدية بتطوير صفة تمكنها من تجاوز الآليات يعمل بها نوع أو عدة أنواع من المضادات الحيوية. ويحصل ذلك بمعدل سريع سبب كون تكاثر البكتريا شديد السرعة حتى مع الفرد الواحد، لذا فإن فرص التحولات (الطفرات) يكون عالٍ إيضاً. إضافة لذلك؛ فإن وجود المضادات الحيوية يقدم دافعاً إنتقائياً (selective pressure) مفضلاً ذوي الجينات المقاومة.
مما يصعب التحدي مع البكتريا هو إمكانياتها لمشاركة الجينات في حزم تسمى البلازميدات (plasmids)، حتى مع الفصائل المختلفة. ما يعنيه ذلك أنه بمجرد تمكن أحد الجينات من تطوير مقاومة للمضادات، فإن بإمكانه الإنتشار عرضياً ومنح صفة المقاومة لبقية البكتريا.
كما يمكن للبلازميدات حمل العديد من الجينات المقاومة في الوقت ذاته، وتسمى جموع هذه الجينات المحمولة في البكتريا والناقلة للمقاومة بـ “المُقاوِم” (resistome) ويوجد منها حوالي 20,000 جين مقاوم. كما يوجد حوالي 1400 فصيل ميكروبي معدٍ للبشر (من ضمنها البكتريا والفيروسات والفطريات، الأوليات (protozoa) والديدان الطفيلية (helminths)).
وفقاً لمراكز مكافحة الأوبئة الأمريكية (CDC) فإن عدد الإصابات بالبكتريا المقاومة في الولايات المتحدة يبلغ حوالي 2.8 مليون إصابة سنوياً موديةً بحياة 35000 شخصاً.
إن هذه مشكلة عالمية (علينا أن نعيَّ ذلك جيداً خصوصاً وأنّا نمر في فترة وباء). فظهور جين مقاوم في طرف بعيد من العالم سيجد طريقه لينتشر في جميع أرجاء الكوكب. ذلك يعني أن العالم أجمع عليه الإلتزام بالممارسات الطبية الصائبة (best practices). وهذا بالطبع ليس حاصلأً، ففي بعض البلدان يمكن للناس شراء المضادات الحيوية بكل بسهولة دون وصفة طبية، كما أن كثيراً من المضادات الموصوفة طبياً قد لايكون لها داعٍ.
وبينما لا تزال معاناتنا في إرساء أسس الممارسات الصائبة لتقليل مقاومة البكتريا، فإن الباحثين منكبون على ما يمكن عمله بشأن هذه الممارسات. ففي الحد الأدنى، يتوجب على الأطباء ألّا يصفوا المضادات الحيوية بحيطة فقط، بل أن يلزموا الدقة كذلك.
وبما أن المضادات الحيوية هي مشكلة تطورية، فقد يمكن إستغلال المبادئ التطورية لمحاولة تقليل المشكلة (لاحظ كيف أنّا لم نقل إنهاء المقاومة، فهذا ليس خياراً ممكناً بالتقنيات المتاحة).
أحد المبادئ التطورية التي برزت في السنين الأخيرة هي الإستخدام المتسلسل لمضادات حيوية متغايرة (heterogenous) بدل إستخدام مضادات متجانسة (homogenous). يتضمن ذلك إستخدام عدة مضادات حيوية إما معاً، أو بشكل متسلسل، وكل منها يعمل بآليات مختلفة تماماً. يقلل ذلك احتمالية نجاة ميكروب واحد ومقاومته، كما أن احتمالية تطوير عدة أشكال من المقاومة في الوقت ذاته أقل بكثير من احتمال تطوير شكل واحد.
إلا أن دراسة نشرت مؤخراً أشارت إحتمال وجود تعقيدات كثيرة لهذا المبدأ التطوري، كما بينت الدراسة ان الاستخدام المتسلسل للمضادات المتجانسة من الصنف ذاته يمكن أن يكون مؤثراً.
إن النقطة الأهم التي يجب الخروج بها مما سبق هي أن نماذج الوصفات الطبية التي تكون غايتها تقليل المقاومة يمكن أن تكون بالغة الصعوبة، والأفضل أن لا يترك اختيار الأدوية للأفراد.
الجولة الأخيرة
لم تمضِ سوى بضع عقود من ظهور المضادات الحيوية حتى لحقها ظهور فصائل بكتيرية مقاومة، وهي تشكل الآن خطراً صحياً حقيقياً، فإلى أين يقودنا كل ذلك؟
يتخوف بعض المختصين من دخولنا عصر ما بعد المضادات الحيوية، حيث تكون معظم الإصابات المرضية من ميكروبات مقاومة للمضادات، والحقيقة أن هذا الفرض متحقق مستقبلاً على الأغلب. والسؤال الحقيقي هو: كم من الوقت سيتطلب لحدوث ذلك؟ لا في احتمال حدوث ذلك من أساسه!
إن المنظور الأكثر تفاؤلاً هو أننا سنتمكن من تطوير مضادات حيوية جديدة بمعدل أسرع من تطوير البكتريا للمقاومة متجنبين بذلك الجائحة المحتومة. وبكل وضوح وصراحة، هذا ليس الحاصل حالياً، بل ان تكون المقاومة في تسارع بينما تطوير المضادات هو في تباطؤ.
إن الهدف في المدى الأقرب هو تعجيل البحث عن مضادات جديدة، مع الدفع لتقليل ظهور المقاومة، ويتطلب ذلك تضافر الجهود العالمية، لسوء الحظ؛ فإن مثل هذا التوجه يستبعد أن يكون كافياً، (وهي حقيقة تنطبق على معظم المشاكل العالمية الحالية الملحة). وبالإضافة للإلتزام بقائمة منظمة الصحة العالمية للممارسات الصائبة، فإننا بحاجة لإعادة نظر شاملة بخصوص إستخدام المضادات الحيوية.
فعلى سبيل المثال، تخضع الوصفات للمراجعة المختصة قبل تقديمها في بعض المستشفيات، إلا أن هذه الأفضل لو عممت هذه الممارسة، ربما حتى خارج المستشفيات. سيشكل هذا الاقتراح تحدياً لوجستياً كبيراً لفرضه مع طبيعة المؤسسات الصحية الموجودة حالياً، وربما يتطلب ذلك استحداث آليات العلاجية بالكامل. فمثلاً يمكننا -نظرياً- تطوير خوارزميات الذكاء الصناعي للخروج بأفضل الوصفات العلاجية، ورفع كاهل ذلك بالكامل عن أفراد يستحيل عليهم تتبع التاريخ الصحي بالكامل والوصول للخيار العلاجي الأمثل. كما يمكننا تعميم أنظمة بديهية، كحظر بيع الأدوية تجارياً دون وصفة طبيب مختص. وقد يتوجب كذلك حظر تداول بعض أنواع المضادات الحيوية لحين زوال المقاومة، واللقاحات يمكنها بالطبع أن تلعب دوراً مهماً في منع انتشار العدوى من الأساس.
في الواقع، إن أي إجراء ضروري يستبعد جداً حصوله (لكن يمكننا دوماً أن نأمل العكس). ان المقاومة البكتيرية للمضادات تتطلب استجابة عالمية موحدة، مع سيطرة مركزية على كل استخدام للمضادات الحيوية، إن النظر للمضادات الحيوية يجب أن يكون كالنظر إلى مورد محدود ونفيس، فكل إستخدام للمضادات يشكل خطوة أخرى تقربنا من عالم ما بعد المضادات والمقاومة الميكروبية الشديدة. ورغم أن مفهوم “سيطرة عالمية مركزية” شديد الاستفزاز والاستنفار لمعظم الناس كما هو معلوم، إلا ان حقيقة عدم وجود بدائل عملية لهذا المفهوم لتقليل المقاومة البكتيرية يجب أن تكون معلوماً كذلك، إننا في العموم متجاهلين في الغالب لهذه المشكلة بينما هي في تفشٍ مستمر.
لايزال هنالك أمل بأن تحل هذه المشكلة مع التكنولوجيا الحديثة، ولكن من العبث الركون إلى ثورات علمية مفاجئة لم تحدث بعد. قد يمكننا تطوير آليات لعلاج الإصابات البكتيرية بعيدة كلياً عن المضادات الحيوية، وربما قد يكون الحل بتطوير فيروسات طفيلية معادية للبكتريا، أو قد نجابه البكتريا مع تقنيات النانو الحديثة، إلا أن الأجيال اللاحقة قد لا يسعها الوقت لتطوير حلول مشابهة قبل أن تحل الأزمة. حتى مع تفاؤلنا بالتقنيات الحديثة، لابد لنا من كسب الوقت و الإبطاء من تكوين البكتيريا المقاومة قدر الإمكان لحين بزوغ حلول جديدة.
المقال الأصلي:
Steven Novella, “Using Evolutionary Principles to Reduce Antibiotic Resistance“, Science-based medicine, September 1, 2021
جميل جدااا