في هذا المقال نستكشف إمكانية استخدام بكتيريا مُعدَّلة جينياً للقضاء على مشكلة الأغشية الحيوية التي تشكلها البكتيريا طبقا لدراسة حديثة نُشرِت في دورية Molecular Systems Biology

تمهيد

مما لا شك فيه أنَّ أحد التحديات الرئيسية التي تُواجِه الطب الحديث، تَتَمثَّل في حقبة ما بعد المضادات الحيوية القادمة، والتي سنواجه خلالها العديد من الجراثيم المقاومة لجميع المضادات الحيوية المتاحة. فنحن منخرطون ببساطة في حرب تطورية ضِدَّ الميكروبات المُسبِّبة للأمراض، ومن المؤسف أنَّهم يربحون بكل المقاييس. حيث باستطاعتنا أنْ نُؤخِّر ظهور مقاومة المضادات الحيوية بإتباع أفضل الممارسات، ولكن لا يسعنا أن نحول دونها تماماً. يُمكننا أيضاً أنْ نُطوِّر مضاداتٍ حيويةٍ جديدةٍ، غير أنَّ اكتشاف آلياتٍ جديدةٍ لإطلاق المضادات الحيوية لِتجنُّب المقاومة كان ولا يزال بطيئاً للغاية.

فبينما نحتاج بوضوح إلى إبطاء ظهور المقاومة وتطوير مضادات حيوية جديدة، فنحن بحاجة أيضاً، من جهة أخرى، إلى وضع طرقٍ جديدةٍ كلياً لمعالجة الالتهابات البكتيرية. وقد ناقشت سابقاً إمكانية استخدام العاثيات الفيروسية كأسلحة حية لمكافحة البكتيريا المعدية. وعلى الرغم من أنها طريقة واعدة، فلا تزال في طوْر التجربة.

بل ويبحث العلماء الآن احتمالية استخدام البكتيريا نفسها كأسلحةٍ لمقاومة الالتهابات البكتيرية. قد يبدو ذلك للوهلة الأولى غير منطقيٍّ ومخالِف لتوقعاتنا، ربما لأننا نميل للتفكير في البكتيريا على أنَّها جراثيم غير قادرة اللَّهمَّ إلَّا على التسبب بالعدوى. ومع ذلك، فتبلغ نسبة البكتيريا القادرة على التَّسبب بالعدوى في البشر أقل كثيراً من ١٪ (يتفاوت هذا التقدير إلى حد كبيرٍ نظراً لأنَّ تقدير عدد الأنواع البكتيرية الموجودة يتباين تبايناً شديداً). تعيش العديد من أنواع البكتيريا في علاقة تكافلية مفيدة مع البشر، حيث تُساعِدُنا على هضم الطعام وتعزيز جهازنا المناعي (ومن هنا جاءت فكرة المُعزِّزات الحيوية بأكملها). 

لذلك، فليس من المستبعد أنْ نكون قادرين على هندسة بعض الأنواع البكتيرية وراثياً للمساعدة في محاربة العدوى التي تُسببها تلك الأنواع المقاومة للمضادات الحيوية. ولقد أضحت هذه الطريقة ممكنة ومعقولة من خلال التَّطوُّرات السريعة والرائعة التي يتم صنعها في تكنولوجيا الهندسة الوراثية. وعلاوة على ذلك، فقد أظهرت دراسة حديثة إمكانية هذه الطريقة.

قامت مجموعة بحثية تقودها فيكتوريا جاريدو، في بحثهم المنشور بدورية Molecular Systems Biology،  بتركيز جهودهم على الأغشية الحيوية البكتيرية المتواجدة على الأجهزة الطبية المُثبَّتة داخل الجسم. تُشتهَر الأغشية الحيوية بمقاومتها للمضادات الحيوية، لأنها تُشكِّل أغطية أو أغشية من البكتيريا تمنع وصول المضادات الحيوية أو الأجسام المضادة إليها. تُكوِّن هذه الأغشية نسيجاً من عديد السَّكاريد الذي يلتصق بسطح الأجهزة الطبية، وبالتالي يحمي البكتيريا في الداخل. يُمكن للغشاء الحيوي أن يكون أكثر مُقاوِمةً للمضادات الحيوية ب ١٠٠٠ مرة من البكتريا حرة الحركة. لدينا العديد من الآليات لتفسير هذه المقاومة، بما في ذلك أنَّ الأغشية الحيوية يُمكنها استخدام مضخَّات التَّدفُّق الخارجي لإزالة المضادات الحيوية من بيئتها. وفي الغالب، بمجرد أنْ يغدو أحد الأجهزة الطبية المثبتة داخل الجسم مُستعمَراً بغشاءٍ حيويٍّ من البكتيريا، يُصبح لزاماً إزالته. تزداد الخطورة عندما نعلم أنَّ هذه الأغشية ذات المقاومة الشديدة للمضادات الحيوية شائعة للغاية، حيث تمثل حوالي ٨٠٪ من العدوى البكتيرية.

يُوجَد العديد من الطرق لعلاج ومنع الأغشية الحيوية، متضمنةً تغليف الأجهزة الطبية بأسطحٍ مقاومة للالتصاق أو مدمجةٍ بمضادات حيوية، باستخدام الكهرباء أو الموجات فوق الصوتية لتفكيك وتفتيت الأغشية الحيوية بحيث يُمكِن للمضادات الحيوية أنْ تصل إليها، أو أخيراً باستعمال الإنزيمات وغيرها من البروتينات المضادة للميكروبات التي تعمل على إذابة الأغشية الحيوية. 

 قرر الباحثون استخدام طريقة الإنزيم، وذلك لفعاليتها وقِلة سُميَّتَها للأنسجة المضيفة. وقد تَمثَّلت فكرتهم في هندسة نوعاً بكتيرياً لإنتاج وإطلاق الإنزيمات مباشرة على الغشاء الحيوي. وَقَعَ اختيارهم على المَفْطورَةُ الرِّئَوِيَّة كنقطة بداية، حيث تمتلك شفرةً جينيةً فريدةً تَحِدُّ من الانتقال الأفقي للجينات إلى الأنواع البكتيرية الأخرى. بادئٍ ذي بدء، قام العلماء بإزالة الجينات التي تُعطي المَفْطورَةُ الرِّئَوِيَّة القدرة على التَّسبب بالعدوى، مما جعلها عديمة الضرر. ثم أضافوا بعضاً من الجينات لتعزيز قدرتها على إفراز الإنزيمات. وأخيراً، أعطوها القدرة على إنتاج نوعيْن محدديْن من الإنزيمات، أحدهما قادر على إذابة الأغشية الحيوية، بينما يمتلك الآخر خصائصَ قاتلةً للمكورات العنقودية الذهبية.

قاموا باختبار البكتيريا المُعدَّلة في المختبر، ثم بداخل جسم الفئران وخارجها (على القَساطِر التي طوَّرت أغشية حيوية للمكورات العنقودية الذهبية). وقد وجدوا أنَّ بكتيريا المَفْطورَةُ الرِّئَوِيَّة المُوهَّنة التي قاموا بتطويرها كانت آمنةً ولم تَتَسبَّب بالعدوى في حد ذاتها. بالإضافة إلى ذلك، وللمفاجأة، فقد كانت قادرةً على تفكيك وتمزيق الأغشية الحيوية بنسبة ٨٢٪،  وقتل المكورات العنقودية الذهبية.

من الواضح أنَّ هذه تجربة ما قبل السريرية، ولكنَّها تُقدِّم دليلاً قاطعاً على صحة هذه الفكرة. وما يحتاج إليه الباحثون الآن هو اكتشاف طريقة لإنتاج البكتيريا المعدلة خاصتهم بكميات كبيرة لإجراء المزيد من الدراسات. ولحسن الحظ، فهم يخططون لبدء تجربة سريرية في عام ٢٠٢٣. وحتى في أفضل الأحوال، فلن نرى مثل هذه العلاجات في المستشفيات حتى نهاية العقد. غالباً ما تستغرق مثل هذه التقنيات الجديدة من ١٠-٢٠ عاماً لتشق طريقها إلى الاستخدام السَّريري، وذلك إذا سار كل شيءٍ على ما يرام.

لقد بدأنا نرى أبحاثاً تَتَعلَّق باستخدام العوامل البيولوجية الحيَّة (لا تُعدُّ الفيروسات كائناتٍ حيةٍ بالمعنى الحرفي للكلمة، بل نوعاً ما) لمعالجة المشكلة المتزايدة والمتمثلة في مقاومة المضادات الحيوية والالتهابات البكتيرية الناشئة. وهذا هو ما نحتاجه بالضبط، طرقاً جديدةً كلياً لمكافحة الجراثيم. قد يبدو أنَّ العلاج الدوائي استهلك كافة قواه بسبب ظهور مقاومة المضادات الحيوية، ومن هنا فإنَّ استخدام العاثيات الفيروسية والبكتيريا المعدلة تُعدُّ من التقنيات الواعدة، التي أصبحت ممكنة بفضل التَّقدُّم المذهل في الهندسة الوراثية.

تتجاوز هذه التقنيات الأساسية مُجرَّد علاج العدوى والالتهابات البكتيرية. حيث تُمثِّل التقنية المستخدمة في هذا البحث، والتي استعرضناها معاً، في الأساس نظام توصيل بكتيري، بمعنى استخدام بكتيريا مُعدَّلة غير قادرة سواءً على التَّسبُّب بالعدوى أو نقل جيناتها إلى البكتيريا الأخرى، والتي يُمكِن استخدامها لإنتاج وتوصيل حمولات البروتين. وبمجرد أنْ تكتمل لدينا الأرضية الأساسية بخصوص هذه التقنية وإثبات سلامتها، فسوف يُصبِح بمقدورنا تعديلها للحصول على قائمة طويلة من التَّدخلات العلاجية الممكنة.

يَكمُن الخطر الوحيد لكل ذلك في حقيقة أنَّ هذه العوامل العلاجية تَتَضاعَف ذاتياً. وبالتالي، فإنَّ معيار السَّلامة لها عالٍ للغاية. حيث تعلمنا من محاولاتنا المبكرة لاستخدام ناقلات فيروسية للعلاج الجيني أنَّ مثل هذه العوامل قد تكون محفوفة بالمخاطر. وقد استغرق الأمر حوالي عشرين عاماً أكثر مما ظننا في البداية، لكننا استطعنا في النهاية تطوير ناقلات فيروسية آمنة. ولذلك، فلن يُفاجئني إذا استغرق هذا البحث أيضاً وقتاً أطول مما نعتقد حالياً أو نأمل. ومع ذلك، فلسنا في نفس الوضع الذي كنا عليه في التسعينيات. حيث تقدمت التكنولوجيا الحيوية كثيراً، ومعها قل الأفق الزمني اللازم لتطوير عوامل علاجية جديدة معدلة وراثياً.

على أمل، أنْ نُطلِق العنان لهذه الجيوش الميكروبية الجديدة ضِدَّ العدوى البشرية عاجلاً وليس آجلاً.

المصدر:

Steven Novella, “Using Bacteria To Fight Bacteria“, from: sciencebasedmedicine.org/using-bacteria-to-fight-bacteria/,  October 6, 2021