أصبح من الممكن الآن تغيير سلوك الفئران عن طريق توجيه أشعة ليزر، تُفعّل خلايا عصبية محدّدة، نحو أدمغة هذه الحيوانات. استخدم علماءٌ هذه التقنية لزيادة سرعة شرب الفئران مخفوق الحليب، لكن استخداماتها لا تتوقف عند هذا الحدّ. إذ يمكن أيضا لهذه التقنية أن تساعد الباحثين على رسم خريطة لوظائف الدماغ بشكل أدق بكثير مما هو متوفّر حاليا.
أجرى علماء أعصاب من جامعة ستانفورد بولاية كاليفورنيا تجاربهم على فئران تم تعديل خلاياها العصبية -تتواجد هذه الخلايا في منطقة بالمخ تسمى القشرة الأمامية المدارية- جينيا بحيث تصبح حسّاسة للضوء. تتولى تلك المنطقة إدراك، والتفاعل مع، المكافآت. من خلال تسليط الليزر على خلايا عصبية محددة، زاد الباحثون من الوتيرة التي يستهلك بها الفئران مخفوق الحليب ذي السعرات الحرارية العالية. تُبيّن هذه النتائج -قُدّمت في الاجتماع السنوي لجمعية علم الأعصاب في سان دييغو بكاليفورنيا، والذي أقيم في 12 من نوفمبر- ولأول مرة، أن التقنية المعروفة باسم البصريات الجينية (optogenetics) (تقنية بيولوجية تتجلى في استخدام الضوء للتحكّم في خلايا أنسجة حيّة، عادة خلايا عصبية، تمّ تعديلها وراثيا لتُعبّر جينيّا عن حساسيّة القنوات الأيونية للضوء)، يُمكنها توجيه السلوك من خلال تفعيل سلسلةِ خلايا عصبية منفردة.
يُصرّح مايكل هاوسر (Michael Häusser)، عالم الأعصاب في جامعة لندن بالمملكة المتحدة، أنّ من بين أهداف هذه التقنية، خلْق نُظم آلية تؤثر على الدماغ آنيّا باستخدام الضوء فقط. يُمكن أن يتم هذا عن طريق هندسة الخلايا العصبية وراثيا لتحتوي على بروتين يجعل الخليّة تُضيء، عندما يتم تفعيلها، بواسطة ومضة من الضوء الملون، وبروتين آخر يجعل الخلية تومض بلون مختلف عندما تُضيء. سيُحدّد جهازٌ، يستشعر تغيّر اللون الثاني، بسرعة، مواقع النشاط المرتبطة ببعض السلوكيات، كما سيمكِنه، في المقابل، أن يُعدّل الخلايا التي سوف يقوم الضوء الأول بتحفيزها. قد يكون مثل هذا النظام قادرا على تغيير العمليات العصبية التي تربط بين شرب الكحول والمكافأة في ظاهرة الإدمان، أو تغيير المحفّز البصري المرتبط بالذكريات الماضية في اضطراب ما بعد الصدمة (post-traumatic stress disorder).
يقتضي هذا الأمر، كذلك، دِقّة تتجاوز القدرة الحالية لتقنيات البصريات الجينية التي تُنشّط فقط مجموعات من الخلايا، وليس كل خلية على حدة. في بعض الحالات، مجرّد تفعيل خلية عصبية واحدة يمكن أن يسبب تغيّرا في سلوك الحيوان. لذلك فَإصابة أشعّة الليزر خليّةً مجاورةً لتلك التي يراد تعيينها،عن طريق الخطأ، يمكن أن يربك الجهود الساعية لوضع خريطة دقيقة للدماغ.
تركيز الليزر
في تجربة الفئران السابقة، سلّط فريق البحث في جامعة ستانفورد، بقيادة عالمي الأعصاب جوشوا جينينغز (Joshua Jennings) و كارل ديسروث (Karl Deisseroth)، الليزر من خلال جهاز يبدّد الضوء وفق نمط معين، بحيث يُصيب خلايا عصبية محدّدة.
للتأكد من أن الخلايا التي استهدفت كانت خلايا خاصة بمكافأة الغذاء، قام الباحثون بإجراء مسح على الخلايا المعنيّة بالمكافأة الاجتماعية، التي تتواجد في نفس الوقت مع الخلايا المسؤولة عن مكافأة السعرات الحرارية، لكنها تُحفّز سلوكيات مختلفة. سمحوا لفأر حديث الولادة بالجري في أنبوب موضوع داخل مجهر وملامسة أنف الفأر الذي كان يجري تصوير دماغه، وقاموا بعدها بتعيين أيّ الخلايا العصبية استجابت عندما حدث تفاعل بين الفأرين.
عندما كرّر الباحثون التجربة الأولى مع الشراب ذي السعرات الحرارية العالية، لكن هذه المرة مع تحفيز الخلايا العصبية المسؤولة عن المكافأة الاجتماعية عوضا عن الخلايا المسؤولة عن مكافأة الغذاء، واصل الفأر الشُّرب بنفس السرعة. ما يحاول الفريق فعله حاليا هو تحديد ما إذا كان تفعيل الخلايا العصبية المرتبطة بالمكافأة الاجتماعية سيجعل الفأر يستجيب كما لو أنه يستشعر وجود فيرمونات، عن طريق تحريك شعيرات شنبها على سبيل المثال، حتّى عند عدم تواجد الفأر حديث الولادة.
“تعديل السلوك هو خطوة هامة في استكشاف إمكانات التحفيز المنفرد للخلايا” كما يشير إلى ذلك ويجيان يانغ (Weijian Yang)، مهندس في مجال الخلايا العصبية neuro-engineer بجامعة كولومبيا في مدينة نيويورك. خلال الاجتماع السنوي لجمعية علم الأعصاب، قدّم هو وعالم الأعصاب لويس كاريّو ريد (Luis Carrillo Reid) مقاربة مختلفة لمسألة تعديل السلوك، تتمثّل في ربط، بشكل مصطنع، خلايا عصبيّة تُشارك عادة في سلوكيات مختلفة. قاما بتدريب الفئران على شرب المخفوق كمكافأة فقط بعد أن تُشاهد نمطا معّينا من الرسوم ظاهرا على شاشة موضوعة أمامهم. بعدها قاما بمسحٍ للخلايا العصبية التي تستجيب للصورة وتلك التي تستجيب للمكافأة.
يقول كاريّو ريد أن تحفيز هذه الخلايا العصبية، التي لا ارتباط بينها، مرارا، باستخدام تقنية البصريات الجينية، سوف يتسبب، في نهاية المطاف، بإضاءة هذه الخلايا بشكل متزامن. حيث أن تحفيز خلية واحدة فقط من بينها سوف يدفع الفأر إلى رؤية النمط المتواجد على الشاشة وشُرب مخفوق الحليب، حتى وإن كان الرسم غير موجود أمامه.
يُبدي هاوسر إعجابه بهذا العمل، ويقول إن الخطوة التالية هي إيجاد المسار العصبي الكامل الذي يتعرّض للتغيير. يشير كذلك إلى أنّه سيكون من المهم تحديد ما الذي يدركه الفأر عندما يتم تحفيز دماغه، وذلك لكي تبدو أية تغييرات يتم إحداثها على سلوكياته طبيعية قدر الإمكان. ويصرّح قائلا: “الإمكانيات الحقيقيّة للتحكّم الكلّي بالسلوك بواسطة استخدام الضوء (الليزر) لم يتم إطلاقها بعد.”
المصدر
Sara Reardon, “Laser Used to Control Mouse’s Brain–and Speed Up Milk Shake Consumption”, scientificamerican.com, November 18, 2016