في مطلع أزمة وباء كورونا عام 2020 نشرنا مقالاً شرحنا فيه أرقاماً كثيرة عن الوفيات وكيفية فهمها كما قارننا وباء كوفيد 19 مع الأرقام ذات السياق والصلة معه وأيضاً مع اوبئة أخرى [مكابح للخوف من فيروس كورونا – العلوم الحقيقية]. وحين كتابة ذلك المقال كنا بانتظار مرور سنوات على الوباء لكي ننظر في أثره على دول العالم المختلفة من منظور واسع ومن نظرة عامة إلى الصورة الكبيرة على مستوى الدول والسنوات.
بغض النظر عن الأوبئة، تنشر كافة دول العالم معدلاً للوفيات يتضمن رقماً يمثل الوفيات لكل ألف نسمة، ينتج الرقم من قسمة عدد الذين ماتوا في البلاد لتلك السنة على معدل تعداد السكان لتلك السنة حيث أن تعداد السكان يكون متغيراً من بداية السنة حتى نهايتها. ويعرف هذا المعدل بمعدل الوفيات (death rate). ورغم أن المعدل يفترض أن يغطي كافة الوفيات في البلاد بما في ذلك ما يتعلق بالعنف أو الحوادث، غير أن بعضاً من الدول تفتقر للأليات المناسبة أو القدرات على توفير رقم شامل مركزي ودقيق نظراً لظروف العنف أو عدم الاستقرار[1]. نجد دراسات تحاول تغطية الوفيات المتعلقة بالعنف عبر احصائيات في سوريا مثلاً التي لا تخضع فيها جميع مناطق البلاد لحكومة واحدة.[2] للحرب السورية مثلاً تقديرات عديدة للوفيات الناجمة عن الصراع لا يقل أي منها عن بضع مئات الآلاف من الوفيات، غير أن أي من تلك الوفيات لا ينعكس في معدل الوفيات الذي يظهر في الإحصائيات المختلفة لمعدلات وفيات دول العالم.
وبالإشارة إلى مقالنا السابق، فقد ذكرنا حينها مقارنة عدد الوفيات بسياق مشابه، أي عدد الوفيات للسنة السابقة أو السنوات السابقة مثلاً، أو مقارنة ذلك بوباء آخر. وهذا ما يحدث بالفعل حيث يجري الباحثون خلال الأوبئة أو الكوارث مقارنة بين عدد الوفيات لفترة معينة مع معدل الوفيات لذات الفترة في السنوات السابقة وعادة ما تؤخذ السنوات الخمس السابقة وهذا يعرف بفائض الوفيات (excess deaths). وهذا ما سنقدم نبذة عنه تحديداً عما جرى خلال فترة كوفيد 19 الممتدة بين الأعوام 2020-2021 حيث لا ينحصر الوباء تحديداً بتلك الفترة لكن عمدت معظم دول العالم إلى اتخاذ سياسات معينة خلال تلك العامين ثم توقفت معظم الدول عن تلك السياسات إن لم تقم بنقدها أو اعتبارها قرارات سياسية بحتة غير ناتجة عن أي رأي علمي وخرجت مجريات اتخاذها بقرارات تشبه الفضائح مثلما حدث في بريطانيا. وفضلاً عن السياسات فإن آخر ذروة وفيات معزوة لكوفيد 19 حدثت في بدايات 2022 ولم تعقبها ذروة أخرى بذات الحجم على مستوى العالم حتى هذه اللحظة[3].
حصلنا على بيانات معدلات الوفيات من مصادر متعددة [4] [5] [6]، وقمنا باستخراج خصائص عدة من البيانات لكل دولة والخصائص تمثل مقارنات عديدة بين الوفيات في السنوات المختلفة ثلاثة سنوات قبل كوفيد وسنتي كوفيد 2020 و2021 ثم سنتين بعدها 2022 و2023. غير أن الرقم الذي اعتمدناه في التقييم بشكل رئيسي هو حاصل طرح معدل وفيات ما قبل كوفيد من معدل وفيات كوفيد لإظهار حدة الفرق بين الوفيات بين فئتي السنوات، ولا يعكس علاقة أكبر وأصغر فحسب.
رؤية أولية للنتائج
- مبدئياً فإن ثلاثة أرباع الدول تقريباً كانت فيها احدى السنوات 2020، 2021، أو 2022 تحتل أعلى نسبة وفيات بالمقارنة مع السنوات السابقة، حتى مع أخذ الفترة ما بعد كوفيد بشكل عام فإن معدلات الوفيات تعد أعلى لمعدل تلك السنوات بالمقارنة مع معدل السنوات قبل كوفيد.
- 27 دولة فقط كانت فيها الوفيات في 2019 أكبر من 2020 منها اليابان مثلاً. فيما عانت حوالي نصف الدول من وفيات أكبر في 2022 من 2021 أو 2020 منها عدد من دول أوروبا الشرقية التي تعد الأعلى من حيث عدد الوفيات كإقليم، بلغاريا مثلاً وهي الدولة الأكبر من حيث معدل الوفيات لسنوات عديدة بشكل عام مع أو بدون الوباء كانت قد عانت من معدل وفيات أعلى في 2022 من السنتين السابقتين. وفي تقرير لمنظمة الصحة العالمية فإن فائض الوفيات قد استمر بالارتفاع بعد ذلك.[7]
- وبالمقارنة بين المعدل من 2015-2020 مع سنوات كوفيد، يبدو أن كوفيد لم يكن مؤثراً على الدول الأفريقية وطائفة أخرى من الدول التي يغلب أن تكون من العالم الثالث، على الأقل بحسب ما تم الإبلاغ عنه من أرقام لكوفيد أو لمعدلات الوفيات، إذ تعكس الأرقام أن دولاً عديدة مثل أفريقيا الوسطى، السيراليون، ساحل العاج و93 دولة أخرى منها أيضاً السعودية والأردن، ومن دول العالم الأول في تلك القائمة فقط أستراليا ونيوزلندا حيث انخفض معدل الوفيات لكل من سنتي كوفيد 19 عن معدل الوفيات في السنوات التي سبقت الوباء من 2015-2020.
فئات متعددة من معدلات الوفيات
التغير في معدلات الوفيات بين فترة ما قبل كوفيد 19 وما بعده
وبالعودة إلى الفارق بين معدل الوفيات لفترة كوفيد وما قبلها، فالفئة الأولى هي أعلى 25 دولة في فارق وفيات كوفيد هي التي زاد الفارق فيها عن 2 لكل ألف مواطن في سنوات كوفيد كمعدل عن سنوات ما قبل كوفيد، فإن 16 من تلك الدول هي من دول أوروبا الشرقية أو لنوسع الدائرة أكثر فتشمل دول الاتحاد السوفيتي السابق، مع دول من أمريكا اللاتينية. تلك الدول يغلب أن يكون لديها معدلات وفيات مرتفعة من الأساس.
أما الفئة الثانية فهي الدول التي زادت فيها الوفيات بمعدل 1 بالألف سنوياً أثناء سنوات كوفيد، وتشمل 42 دولة أبرزها الهند والولايات المتحدة وإيطاليا وإيران وتركيا والبرازيل وإندونيسيا وجنوب أفريقيا وألمانيا ومعظم تلك الدول احتلت مساحة في أخبار الوباء لفترة ما [أو على الأقل حسب ملاحظة الكاتب]. ثم تأتي الفئة الثالثة حوالي 100 دولة مما كان الفرق أقل من 1 بالألف سنوياً، وأخيراً الفئة الرابعة التي ذكرناها أعلاه والتي كانت الوفيات في فترة كوفيد أقل من السنوات التي سبقتها. للفئتين الثالثة والرابعة هناك 48 دولة كان فيها الفارق في وفيات كوفيد أقل من الانحراف المعياري (مقياس للتباين في البيانات) لمعدل الوفيات في السنوات ما قبل كوفيد، أي أن الوفيات كانت ضمن النطاق السائد للوفيات في تلك الدول وقد ذكرنا أستراليا ونيوزلندا كأمثلة.
في عمل مشابه قام به مايكل سيمونس من مجلة سبكتيتر لكنه يقارن بين ما قبل الوباء وما بعده لكن بالمنهجية الأكثر شيوعاً والتي تشمل معدلات الوفيات لخمس سنوات قبل الوباء فيما شملت طريقتنا ثلاث سنوات. يصل سيمونس إلى نتيجة مفادها أن السويد كانت البلد الأقل من حيث فائض الوفيات، كما تظهر أستراليا ونيوزلندا أيضاً في أدنى الهرم.[8] يشرح سيمونس أن فائض الوفيات لا يرتبط فقط بوفيات الوباء بل بمسببات عديدة لا يمكن كشفها إلا عن طريق هذا الحساب بعيد الأمد كمثل الذي نقدمه هنا في العلوم الحقيقية ومن تلك المسببات مثلاً أولئك الذين ماتوا نتيجة أزمات قلبية في بيوتهم أثناء فترة الوباء نظراً لطبيعة السياسات الطبية المتبعة أثناء الوباء. ويقدم سيمونس في مقال آخر في ذات المجلة تحليلاً يظهر فيه أن فائض الوفيات في المملكة المتحدة في العام 2023 يتجاوز ما كان عليه في سنتي الوباء. [9] ويظهر أن ذات المشكلة تعم دول عديدة في أوروبا حيث أن فائض الوفيات استمر بالزيادة بعد وباء كوفيد رغم تنوع أسباب الوفاة وعدم وجود علاقة بها بالوباء[10].
كيف أثر كوفيد 19 إذن على معدلات الوفيات السنوية؟
من الواضح أنه لا يوجد إجابة واحدة على أثر كوفيد 19 على العالم. بل هناك تأثير متباين جداً حسب الأقاليم. لمعظم الدول الأفريقية كان التباين الحاصل في معدلات الوفيات أقل بكثير من التباين السنوي في معدلات الوفيات، كما كان كوفيد 19 السبب السابع للوفيات في أقصى درجاته في عام 2021 في أفريقيا فيما كان السبب رقم 22 للوفيات في عام 2020.[11] في حين أنه كان السبب الثالث للوفيات في أوروبا والولايات المتحدة وبعض دول العالم ذات الخدمات الصحية الأفضل. كوفيد لم يصبح يوماً مشكلة أفريقيا بقدر ما هي الملاريا مثلاً.[12] يقودنا هذا إلى أمر بديهي يغفل عنه الكثيرون، نحن لا نعيش في عالم واحد، بل في عدة عوالم متباينة في مشاكلها.
من جهة أخرى فإن الجواب على السؤال تنتابه بعض الضبابية القادمة من العوامل التي ذكرناها حول عدم وجود البيانات، أو رداءة البيانات وعدم دقتها، أو حتى تزييف البيانات، القضايا التي تزداد في العالم الثالث بحيث أن المقارنة تغدو غير موضوعية لو نظرنا إلى تباين سبل جمع البيانات أو توافر البيانات من الأساس بين أقاليم العالم المختلفة. رغم ذلك، فإن معدل الوفيات هو رقم متاح في دول كثيرة وإن لم تكن ارقام كوفيد 19 متوفرة بذات الشكل، لذا فإن الفوارق في فائض الوفيات لم تزل صائبة حيث يتوفر هذا الرقم بشكل أكثر دقة من وفيات كوفيد ولهذا السبب يعتمد فائض الوفيات في تقييم آثار الأوبئة كما أسلفنا.
وجدنا في البيانات أن الدول التي لها معدل نمو سكاني سالب، أي أنها تمر بتناقص سكاني، كانت مقترنة احصائياً مع حدوث وفيات أكثر خلال فترة كوفيد (معامل الاقتران -52%) في علاقة عكسية حيث كلما انخفض معدل النمو السكاني كلما زاد الفارق في معدل الوفيات بين ما قبل كوفيد وفترة كوفيد 19. كما وجدنا اقتراناً احصائياً (55%) بين الفارق في المعدل هذا مع الوفيات ما قبل كوفيد، أي أن الدول ذات معدلات الوفيات المرتفعة مثل أوروبا الشرقية عانت بشكل أكبر خلال فترة كوفيد.
المصادر
[1] Estimating Mortality Rates, National Research Council (US) Roundtable on the Demography of Forced Migration.Washington (DC): National Academies Press (US); 2002, Demographic Assessment Techniques in Complex Humanitarian Emergencies: Summary of a Workshop
[2] Vernier, Larissa, et al. “High levels of mortality, exposure to violence and psychological distress experienced by the internally displaced population of Ein Issa camp prior to and during their displacement in Northeast Syria, November 2017.” Conflict and health 13 (2019): 1-9.
[4] List of countries by death rate, UN (World Population Prospects 2019)
[5] Death rate, CIA world factbook
[6] Death rate, crude (per 1,000 people), The World Bank
[7] Ylli, Alban, et al. “COVID-19 excess deaths in Eastern European countries associated with weaker regulation implementation and lower vaccination coverage.” Eastern Mediterranean Health Journal 28.10 (2022): 776-780.
[8] Michael Simmons, Sweden, Covid and ‘excess deaths’: a look at the data, 10 March 2023, The Spectator
[9] Michael Simmons, Why are excess deaths higher now than during Covid?, 5 November 2022, The Spectator
[10] Mario Bowden, Post-COVID excess mortality rates: What do they tell us about the state of public health in Europe?, Euro News, 11/03/2023
[11] COVID-19 deaths in African region to fall by nearly 94% in 2022: WHO analysis
, WHO Africa
[12] Causes of death statistics, Europa.eu
تم نشر هذا المقال ضمن العدد 55 من مجلة العلوم الحقيقية وراجعته لغوياً ريام عيسى