أشترك في القائمة البريدية

اشترك في القائمة البريدية: 

 

الانتحار الجماعي بين الخرافة والعلم: من جماعة القربان في العراق إلى حوادث البيضاء في ليبيا

بواسطة | نوفمبر 25, 2025 | علم النفس | 0 تعليقات

خلال السنوات الماضية انتشرت أخبار عن طقس جماعة دينية في العراق يتضمن الانتحار بعد القرعة. كان الانتحار هو الطقس البارز لجماعة القربان العراقية. قبل أيام انتشر خبر انتحار شابين في مدينة البيضاء في ليبيا. بخلاف جماعة القربان المنتشرة في جنوب العراق، فإن حالات الانتحار في مدينة البيضاء في ليبيا حيث انتحر الشابان لا تشير الى وجود أي اتفاق بين الشابين حول الانتحار ولا إلى وجود صلة بين الحالات المتكررة في المدينة في السنوات الماضية. ما لفت الانتباه أكثر من الخبر نفسه في ليبيا هو فيديو لمجموعة من الرجال الملتحين الذين يزعمون أن الطلاسم السحرية هي السبب. لكن المشترك بين تلك الحالات هو دور الخرافة في التعامل مع الظاهرة المؤسفة للانتحار؛ الدفع إليها أحياناً، والتغطية عليها وكأنها عار أحياناً أخرى. كيف يرى العلم حالات الانتحار الجماعي؟ وكيف يمكن للخرافة أن تقود الأشخاص إلى هذا المصير المظلم أو إلى والتعتيم على المشكلة وعلى السبل العلمية لمعالجتها؟

وبعد ثلاثة أيام فقط من انتحار الشاب الذي شنق نفسه في البيضاء بليبيا، أقدم شقيقه على الانتحار أيضاً. النظر إلى الأزمة النفسية والعلاقات الإنسانية والمشاعر يمنحنا فهماً أعمق للأسباب المحتملة بدلاً من التفكير بأمر وهمي كالسحر. لكن كما يبدو فإن السحر يعتبر غطاءً جيداً بنظر بعض أفراد المجتمع؛ فهو مسبب خارجي غامض يزيل المسؤولية عن صاحب الفعل أمام مجتمع يرى في الانتحار خطيئة تودي بصاحبها إلى العذاب الأبدي بعد الموت، كما تنص معظم الآراء في الدين الإسلامي – السائد في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.

يصل الأمر أحياناً الى التصريحات الرسمية حيث حذرت وزارة الداخلية، التابعة للحكومة المؤقتة في البيضاء عام 2017، السكان المحليين من لعبة ظهرت أخيرا وعرفت بين الشباب حديثي السن اسمها “تشارلي”. أدعى بيان الوزارة أن اللعبة تستحضر ‘شيطاناً مكسيكياً’ يدفع المشاركين إلى الانتحار. وشرحت الداخلية قواعد اللعبة، بأن ممارسيها مطلوب منهم وضع قلمين فوق بعضهما على شكل صليب في ورقة يُدون عليها من جهتين متقابلتين كلمتا (Yes وNo) ويستمر اللاعبون في مناداة “تشارلي” حتى يتحرك القلم بعد التلفظ ببعض الطلاسم والألفاظ الغريبة.

إن جماعة القربان في العراق لم تكن أول جماعة دينية تقود أفرادها للانتحار، لكن الانتحار لدى أعضاء جماعة القربان كان منحصراً في إيذاء الشخص لنفسه. بين 2003 و2010 يعتقد أن ما يزيد عن 1700 تفجير انتحاري حدث في العراق. من الصعب معرفة الظروف الحقيقية لهؤلاء، وإن كانوا قد اختاروا الأمر أم أجبروا عليه أو نُفِّذ فيهم دون علمهم، لكن من المؤكد أن الجماعات المتطرفة تتقبل وتتبنى قتل الشخص لنفسه مقابل قتل آخرين من العدو. هل أصبح قتل النفس مقبولاً حين يكون غطاء للجريمة، ومرفوضاً حين يكون نتيجة معاناة نفسية؟

شهدت حادثة جونز تاون عام 1978 في غويانا انتحاراً جماعياً مروعاً لجماعة يقودها جيم جونز، حيث لقي أكثر من تسعمئة شخص حتفهم بعد تناولهم مادة سامة، في واحدة من أبشع المآسي المرتبطة بالطوائف الدينية المتطرفة في التاريخ الحديث، والتي أثارت صدمة عالمية واسعة وأصبحت تحذيراً دائماً من خطورة استبداد السلطة الدينية. لم يكن هناك مزاعم حول أثر الطلاسم في الحادثة ولكن كان هناك وجه آخر للخرافة، وهو تشابه نجده في سلوك جماعة القربان في العراق، حيث تقود الجماعة أفرادها للانتحار، وإن اختلفت الظروف والدوافع.

ارتفع معدل الانتحار في العراق منذ 2003 الى 2013 من بضعة عشرات الى 439 في السنة بحسب تقرير صادر من مجلس المفوضية العليا لحقوق الانسان في العراق[1]. غير أن معدل الانتحار وصل الى أكثر من ألف حالة في عام 2021 مع معدل يفوق 500 حالة في سنوات عديدة. [2]هذه الزيادة في معدلات الانتحار في العراق تتزامن مع أوضاع مشابهة في ليبيا وأجزاء أخرى من العالم العربي.[3]

إن تغطية الأزمات الحقيقية بالحديث عن السحر والطلاسم بسبب العار من الأزمات النفسية أو مسبباتها الحقيقية هو أمر يشجع عليه المشاهير في العالم العربي أيضاً. فقد قالت الفنانة المصرية مي فخري إن السحر كاد أن يودي بحياتها حيث كانت تفكر بالانتحار.[4]

عدوى الانتحار والانتحار بالتقليد

في العام 2019 تناولت صحف مصرية حالات الانتحار في مصر والتي بلغت ثلاث حالات في أقل من 48 ساعة، إذ قام شاب بإلقاء نفسه من برج القاهرة، ورمى آخر بنفسه تحت عجلات مترو الأنفاق، بينما ألقى ثالث بنفسه في ترعة الإبراهيمية في أسيوط. مثل دول عربية أخرى يزداد الواقع سوءاً مع السنوات حتى بلغ رقماً قياسياً في عام 2016 حين تم تسجيل 3799 حالة انتحار.[5] لا تنشر مصر أرقاماً كهذه في العادة ولا يظهر ذلك ضمن المعدل السائد الذي تنشره السلطات في البلاد، لكن وقوفاً عند تلك الحالة في عام 2019، هل يحتمل أن يكون هناك ما يشبه العدوى لتنفيذ الانتحار؟

في الحقيقة، فإن فكرة “العدوى” – ليس بالمعنى الحرفي البيولوجي، بل بمعنى التقليد – هي فكرة مطروحة في سياق الانتحار.  الأشخاص المعرضون لخطر الانتحار بسبب الاكتئاب الشديد يشكلون فئة معينة قد تندفع نحو الانتحار حالما يأتي محفز يصيبها جميعاً، مثل وجود أحداث سلبية شديدة بما في ذلك انتحار احد افراد تلك الفئة.[6] ربما هذا ما حدث للشباب المصريين الثلاثة لكن عبر تأثير الأخبار، رغم عدم كونهم ضمن “فئة” أو “تجمع” فعلي، إلا أن الإعلام قد يساعد في تحقيق ذلك الترابط بينهم.

تُظهر دراسات عديدة الآثار السلبية لوسائل التواصل الاجتماعي على الصحة العقلية[7]. قد يبدو أننا أكثر ارتباطاً عبر وسائل التواصل الاجتماعي، لكن هذا الارتباط سطحي ولا يوفر الدعم النفسي. كما لا يوفر أكثر من أخبار قد تكون بعضها سلبية عن الفئات التي ننتمي اليها في المجتمع. وسائل التواصل الاجتماعي لا توفر لنا ما يوفره لقاء الأشخاص في الواقع، من تواصل بالعينين أو اللمس أو القيام بأفعال مشتركة، والذي يساهم في زيادة هرمونات مثل الأوكسيتوسين والسيروتونين، التي تلعب دوراً مهماً في تحسين المزاج والشعور بالإيجابية. بالمقابل فهي تعطينا معلومات وأخبار عن العالم.

وبالمقابل أيضاً، فإن الترابط الاجتماعي بين أشخاص معرضين للانتحار قد يزيد من خطورة الحالة فيما لو قام أحدهم بالانتحار. أثبت باحثون بواسطة بيانات لمحاولات الانتحار[8] أن كل محاولة قد تشعل أفكاراً انتحارية جديدة لدى الذين يمرون بالحالة نفسها من الأقارب والأصدقاء. ويُرجَّح أن هذا ما حدث في ليبيا، حيث انتحر الشقيقان بفارق ثلاثة أيام فقط. ليست الطلاسم بالضبط هي ما قاد الشابين للانتحار، ولا الخجل من الاعتراف بتدهور الصحة النفسية، بل الخجل من ضعف المؤسسات التي تقدم خدمات الصحة النفسية في بلد غني نسبياً مثل ليبيا.

مدينة البيضاء في ليبيا قد تعطي مثالاً آخر لذلك الترابط الاجتماعي وسلوك الانتحار بالتقليد الذي يصيب من يعانون من أزمات نفسية حادة. في أبريل 2017 تم تسجيل ما يزيد عن 10 من حالات الانتحار في المدينة.[9] بما في ذلك عدد من الأطفال. كيف استجابت السلطات في حينها؟ وعزت الأمر إلى ‘الشيطان المكسيكي’ كما ذُكر سابقاً[10]!

لا يمانع كثيرون في المجتمعات العربية من تغطية الأزمة النفسية بخرافات السحر والطلاسم وكأنها السبب حين يصل الشخص الى ذروة المعاناة وينتحر. بل وكأن المعاناة النفسية عار. هل العار بالنسبة لهم في الأزمة النفسية أم في الانتحار أم في كلاهما؟ خصوصا حين نرى في نفس الوقت أن المجتمع لا يمانع من تغطية الكثير من الجرائم بالانتحار فيما يعرف بالانتحار الوهمي الذي لفتت لجنة الامن والدفاع البرلمانية العراقية مؤخراً الى تراجعه.[11] كثير من الجرائم بما في ذلك جرائم الشرف، والبعيدة كل البعد عن الشرف، تسجل على أنها حالات انتحار.[12]

إن تغير نمط حياة الأفراد والمجتمعات بفعل العولمة والتكنولوجيا والاضطرابات الاقتصادية والتعرض المستمر للأخبار المحلية والعالمية، يخلق واقعاً نفسياً معقداً يزيد من عوامل الخطر النفسية. ينبغي أن نلجأ في الإعلام والسياسات إلى البحث عن حلول حقيقية لتقليل آثار الانتحار على الآخرين على الأقل. خدمات الصحة النفسية في البلاد العربية متدهورة من الأساس، وأقل ما يمكن للفرد القيام به هو التثقيف بما هو موجود على المواقع الموثوقة على الإنترنت، وتقليل وصمة الاكتئاب والأزمات النفسية بدلاً من البحث عن الجن والطلاسم كمسببات. أسباب الاكتئاب والأزمة النفسية قد تكون بديهية ورد فعل طبيعي لمن يتفاعل بضميره مع مآسي العالم والمآسي الشخصية، ولا حاجة لردّها إلى الخرافات، كالشياطين أو الطلاسم، والتي لا تملك أي دليل علمي يربطها بالاضطرابات النفسية أو الانتحار.

المصادر

[1] أوضاع حقوق الإنسان في العراق التقرير السنوي الشامل 1 كانون ثاني 2013 – 31 كانون أوّل 2013

[2]  العربية، الانتحار في العراق ظاهرة لا تهم السلطة

[3]  مستوى قياسي لحالات الانتحار في ليبيا… هذه أرقامها وأسبابها، النهار، 26-07-2024

[4]  معتز عباس، مي فخري تكشف أسرار إصابتها بالسحر، مصراوي، 28/09/2025

[5]  بعد تكرار حالات الانتحار في مصر صحف تتساءل: لماذا ننتحر؟ 3 ديسمبر/ كانون الأول 2019، بي بي سي

[6] Joiner Jr, Thomas E. “The clustering and contagion of suicide.” Current directions in psychological science 8.3 (1999): 89-92.

[7] Skogen, Jens Christoffer, et al. “Commonly reported negative experiences on social media are associated with poor mental health and well-being among adolescents: results from the “LifeOnSoMe”-study.” Frontiers in Public Health 11 (2023): 1192788.

[8] Abrutyn, Seth, and Anna S. Mueller. “Are suicidal behaviors contagious in adolescence? Using longitudinal data to examine suicide suggestion.” American sociological review 79.2 (2014): 211-227.

[9]  البيضاء الليبية تشهد 15 حالة انتحار خلال شهر، ارم نيوز

[10] ليبيا..حالات انتحار غامضة ووزارة تتهم شيطانا مكسيكيا، العربية

[11] “الانتحار الوهمي” يتراجع في العراق.. الأمن النيابية تؤكد كشف القتلة بالتقنيات الحديثة، بغداد اليوم

[12] المفوضية العليا لحقوق الانسان في العراق، الكثير من جرائم القتل وقضايا الشرف تسجل على أنها انتحار، صحيفة المدى