من بين الأمور المذهلة الكثيرة التي علمتنا إياها تجربة الثعالب الفضية هيما قدمته من أسس رصينة لوراثة السلوك والصفات النفسية بمعزل تام عن دور التربية ودور الأم الحامل، أي حصولنا على صفات كاملة بشكل وراثي بغض النظر عن التربية التينتلقاها. ننقل هذا الجزء من كتاب “كيف تروض ثعلبا وتصنع كلباً” والذيستصدر ترجمته في مطلع عام 2019 أو نهاية عام 2018 ترجمة (المجتبى الوائلي). فيمايلي نص التجربة:
لم يكن هناك سوى طريقة واحدة للتأكد من أن الاختلافات السلوكية التي كانت تراها بين الثعالب المدجنة وتلك العدوانية كانت بسبب الاختلافات الوراثية. سيتعين على ديمتري بيلييف وليودميلا مساعدته أن يجربوا ما يعرف بـ “التربية المتقاطعة”. عليهم أن يأخذوا الأجنة النامية من أمهات مدجنات وأن يزرعوها في أرحام الإناث العدوانية. ثم يسمحون للأمهات الحاضنات بالولادة وتربية تلك الجراء. إذا تحولت الجراء إلى مدجنة بنفسها، على الرغم من وجود أمهات حاضنات عدوانيات، فإن ليودميلا وديمتري سيعرفان أن التدجين هو وراثي في الأساس وليس تعلمي. ومن أجل كمال التجربة، فإنهم سيجرون نفس التجربة أيضًا بأخذ أجنة من الأمهات العدوانيات وسيقومون بزراعتها بأرحام الأمهات المدجنة لمعرفة ما إذا كانت لديهم نتائج متوازية.
من حيث المبدأ، كانت التربية المتقابلة واضحة. استخدم الباحثون هذا الإجراء لفحص دور الطبيعة مقابل التنشئة لسنوات عديدة. ولكن من الناحية العملية، كان قول ذلك أسهل بكثير من القيام به، كان من الصعب تقنياً إجراءها، وكانت تعمل بشكل أفضل مع بعض الأنواع مقارنة بأنواع أخرى.
ستتم زراعة أجنة صغيرة دقيقة – بعمر ثمانية أيام – من رحم أنثى إلى رحم أنثى أخرى حامل. ما سيقومون به هو زراعة الأجنة من أمهات مدجنة في أرحام أمهات عدوانية، وسيتم زرع أجنة الأمهات العدوانيات في أرحام الأمهات المدجنة. عندما ولدت الجراء بعد سبعة أسابيع، كانت تراقب عن كثب سلوكها لمعرفة ما إذا كانت الجراء من الأمهات المروضة قد أصبحت عدوانية أو إذا أصبحت الجراء من الأمهات العدوانية مروضة. لكن كيف كانت ستعرف أي الجراء في المجموعة المولودة هي النسل الوراثي للأم وأيها كانت الجراء التي زرعتها؟ بدون هذه المعلومات، كانت التجربة غير مجدية. أدركت أن الثعالب لديها نظام ترميز ألوان خاص بها. لون الفرو هو سمة وراثية، لذلك إذا اختارت الذكور والإناث بعناية بحيث يكون تلوين فراء ذريتهم قابلاً للتنبؤ به، فستكون لجراء الأمهات العدوانيات ألوان مختلفة عن تلك التي لجراء الأمهات المدجنة، وبهذا ستكون قادرة على معرفة أي الجراء كانت ذرية وراثية للإناث، وتلك التي تمت زراعتها.
تضمنت عملية الزرع عمليتين جراحيتين لاثنتين من الإناث، واحدة مدجنة وأخرى عدوانية، بعد أسبوع تقريباً من فترة حملهما. وبعد التخدير الطفيف للثعالب، قامت ليودميلا بشق جراحي صغير في بطن كل أنثى وحددت الرحم، مع “قرنه” الأيمن والأيسر. ثم قامت بإزالة الأجنة من رحم وتركت أجنة في الآخر. ثم كررت الإجراء مع الأنثى الثانية. وزرعت الأجنة التي أزيلت من أم إلى أخرى في قطرة من السائل الغذائي الذي وضع في طرف ماصة. الأجنة بقيت خارج الرحم [في درجة حرارة الغرفة من 64 إلى 68 درجة فهرنهايت] لمدة لا تزيد عن 5 إلى 6 دقائق”. ثم انتقلت الإناث بعدها الى غرفة ما بعد الجراحة لتسترد عافيتها.
مع بدأ الولادات بدأت ليودميلا ومساعدتها تمارا بتسجيل سلوك الجراء بمجرد تركها مضاجعها وبدأ تفاعلها مع البشر. في أحد الأيام راقبت ليودميلا أنثى عدوانية كانت تتجول مع صغارها الوراثيين. كانت الأم العدوانية تمتلك جراءاً مدجنة وعدوانية على حد سواء. وكان جراءها الرضع بالكاد يستطيعون المشي ولكنهم كانوا يندفعون إلى أبواب القفص، إذا كان هناك حضور إنساني، وهم يهزّون ذيولهم. “ولم تكن ليودميلا الوحيدة الذي فتنت بهم، كانت الثعلبة الأم كذلك. وتتذكر ليودميلا قائلة: “كانت الأمهات العدوانيات يعاقبن الجراء المدجنة لمثل هذا السلوك غير السليم. كانوا يزمجرون فيهم ويمسكونهم من رقابهم ويرمونهم في مضجعهم”. لم يظهر النسل الوراثي للأمهات العدوانيات الفضول حول الناس. فهم، مثل أمهاتهم، كانوا يكرهون البشر. وتتذكر ليودميلا: “احتفظت الجراء العدوانية من ناحية أخرى بكرامتها، لقد زمجروا بقوة، مثل أمهاتهم، وركضوا إلى مضاجعهم”. وقد تكرر هذا النمط مرارًا وتكرارًا. حيث تصرفت الجراء مثل أمهاتها الجينية، وليس أمهاتها الحاضنة. لم يعد هناك أي شك في أن أساس السلوكيات والعدوانية تجاه البشر كانت، في جزء منها، سمات وراثية.
وقد أظهرت تجربة المنزل مع بوشينكا أن الثعالب المدجنة تعلمت أيضاً بعضاً من سلوكياتها. التعايش مع البشر قد أضاف للثعالب طرقًا إضافية في سلوكها، بعضها تشاركه مع أبناء عمومتها المدجنين. من المؤكد أن الجينات قد لعبت دورًا مهمًا، لكن الثعالب المهجنة لم تكن عبارة عن روبوت جيني بسيط. فقد تعلموا التعرف على الأفراد وأصبحوا مرتبطين بهم بشكل خاص، بل ودافعوا عنهم، بسبب العيش معهم. إن هذه السلوكيات المكتسبة كانت شبيهة بما حدث للكلاب شريطة أن يكون الاقتراح المحير بأن الذئاب في عملية التحول إلى الكلاب قد تعلمت هذه السلوكيات من خلال العيش مع البشر. وقد أنتج دميتري وليودميلا بعض أفضل الأدلة على أن النسب الوراثي للحيوان وظروف حياته مجتمعة في تشكيل سلوكه، وقاما بذلك بطريقة مبتكرة للغاية.