المحور الآخر المهم من اضطرابات الطعام وعلاقتها بظروفنا التطورية، وهل ينطبق عليها مفهوم عدم التطابق؟
الجواب على هذا السؤال نعم، فإن عدم ظاهرة التطابق ينطبق عليها، بل قد ينطبق عليها بشكل أكبر بكثير من أي حالة أخرى. عندما ندرس طب النفس التطوري، سواء للزملاء أو الطلاب أو المتدربين في الطب النفسي، أعطيهم مثالاً واضحاً جداً على عدم التوافق، وهو في رأس القائمة لأن اضطرابات الطعام هي مجموعة حالات لم تكن موجودة إطلاقاً قبل العصر الحديث. لنأخذ الأنوركسيا (فقدان الشهية العصابي) كمثال، فاضطرابات الطعام هي حالات تحدث في الغالب عند النساء أكثر من الرجال بكثير، أي عند البنات والنساء أكثر من الذكور والرجال. في المستشفيات حيث يتم علاج هذه الحالات، نجد تقريباً أن كل عشر حالات من النساء تقابلها حالة واحدة من الرجال، وبعض الوحدات العلاجية التي تختص بهذه الحالات لا تعالج الرجال أساساً لأن عددهم قليل جداً بحيث لا توجد حاجة لتخصيص مكان لعلاج الذكور أو الرجال.
للاستماع: الانوركسيا واضطرابات الطعام عامة في الطب النفسي التطوري: لقاء مع د. رياض عبد (الجزء الثاني)
فما هي اضطرابات الطعام؟ إن أغلبها يندرج تحت عنوان الأنوركسيا والبوليميا نيرفوسا (الشره المرضي العصبي)، وهي حالات يتم فيها الامتناع عن تناول الطعام بالنسبة للأنوركسيا، وهذا الامتناع قد يؤدي إلى فقدان وزن بشكل يهدد الحياة في أقصى حالاتها. أما في حالات البوليميا، أو الشره المرضي العصبي، فهي تتضمن تناول الطعام ثم التخلص منه، إما بالتقيؤ أو باستخدام المسهلات، وأحياناً تناول طعام بكميات كبيرة جداً ثم التخلص منه بالتقيؤ واستخدام المسهلات. والمصابون بهذه الحالات، سواء كانت أنوركسيا أو بوليميا، ينشأ لديهم وهم بأنهم بدينون، في حين أنهم في الحقيقة نحيفون جداً. لكن عندما ينظرون إلى أنفسهم في المرايا، يرون أنفسهم وكأنهم بدينون، وهذا يصيب النساء بشكل خاص. فهذه هي الحالات الأكثر تطرفاً، التي قد تهدد الحياة، وهي أكثر الحالات القاتلة في الطب النفسي، حيث تتميز الأنوركسيا نيرفوسا بنسبة وفاة أعلى من أي مرض نفسي آخر.
الشيء الآخر المثير للانتباه في هذه الحالات هو أن اضطرابات الطعام لا تحدث خارج الغرب أو خارج البلدان التي تبنت الثقافة الغربية ونمط الحياة الغربي بشكل كامل. ولذلك، نسبتها في البلدان غير الغربية، والبلدان الإسلامية كمثال، هي منخفضة جداً، لأن البلدان الإسلامية عموماً لم تتبنَ أسلوب الحياة الغربي، مع العلم أنها تبنت الكثير من مظاهر الحياة مثل السيارات أو البيوت أو بعض الملابس، لكن نمط الحياة الغربي لم يتم تبنيه. إذا أخذنا العراق مثلاً، أو بلدان الشرق الأوسط، فهي في عمومها بلدان محافظة على نمط حياة غير غربي، حيث حرية المرأة عموماً محددة بعادات وتقاليد غير غربية. بالنسبة لاضطرابات الطعام في العراق، لدي معلومات أكثر عنه مقارنة ببلدان عربية أخرى، لأنني أزور العراق بكثرة وأتحدث مع زملاء في الطب النفسي هناك. حالات اضطراب الطعام نادرة جداً، نادرة جداً بحيث أن هناك اختصاصيين في الطب النفسي بالعراق لم يشاهدوا ولا حالة واحدة.
مثال آخر: الحالات الشديدة من اضطرابات الطعام، وخصوصاً الأنوركسيا لأنها أخطر نوع، فالبوليميا أقل خطراً ولا تؤدي عموماً إلى الوفاة، لأنها لا تتضمن الامتناع عن تناول الطعام، بينما الأنوركسيا تتضمن امتناعاً قد يقلل الوزن بشكل خطير جداً. في عام 2023، تم نشر دراسة في مجلة الطب النفسي للكلية الملكية البريطانية عن عدد المريضات أو المرضى الموجودين في المستشفيات البريطانية الذين يتم إطعامهم بواسطة أنبوب أنفي معدي (Nasogastric tube feeding)، لأنهم توقفوا عن الأكل تماماً، فحتى ينقذوا حياتهم يتم إطعامهم سوائل مغذية من خلال الأنبوب عبر الأنف إلى المعدة مباشرة. وجدوا حوالي 115 حالة في بريطانيا كلها، وكان 99% منهم نساء. أما في العراق، فلا توجد حالة واحدة للإطعام عن طريق الأنبوب بسبب الأنوركسيا. وأعتقد، وإن لم يكن لدي أدلة قاطعة على ذلك، أن نفس الحال ينطبق على بلدان الشرق الأوسط الأخرى، حيث لا توجد مثل هذه الحالات وأعتقد ان هذا يشير إلى عدم وجود هكذا حالات، فمثل هذه الحالات لا يمكن إهمالها لأنها تؤدي إلى الموت. و من غير المعقول أن عائلة تهمل ابنتهم وتدعها تموت ولا تأخذها إلى المستشفى، لذا فإن عدم وجود هذه الحالات في المستشفيات يعني على الأغلب أنها غير موجودة أساساً.
حتى في بريطانيا، لم تكن هذه الحالات موجودة قبل خمسين سنة، بل كانت نادرة جداً أو غير موجودة. لذا، فإن موضوع عدم التوافق يلعب دوراً كبيراً جداً، لأن هناك اختلافاً في معدلات الامتناع عن الطعام أو اضطرابات الطعام بين المجتمعات والبلدان، كما أن النسبة العالية للإصابة تكون بين النساء وليس الرجال. هناك أسباب تجعلنا نعتقد أن عدم التوافق له دور، ونظريتي في هذا هي أن اضطرابات الطعام ليست اضطرابات طعام بالمعنى الحرفي، بل هي مجموعة من الحالات التي تنشأ بسبب ما أسميته “التنافس الجنسي عند النساء”. ما هو سبب هذا التنافس؟ إنه الحالة الاجتماعية في الغرب التي تعتمد على الفردانية وحرية الاختيار، حيث لا يوجد دور كبير للعائلة في صياغة العلاقات بين الجنسين، فأصبح الفرد مسؤولاً عن علاقاته بشكل شبه كامل. هذه المسؤولية تأتي بثمن، وهو وجود ما يمكن وصفه بـ”سوق العلاقات”، حيث توجد صفات تزيد من قيمة الفرد في هذا السوق أو تقللها. بالنسبة للنساء اللواتي يرغبن في إنشاء علاقات، فإن الشبابية والصحة الجيدة (Youth and good health) تصبحان عاملين حاسمين.
كتبت كثيراً عن هذا الموضوع باللغة الإنجليزية، ولأن الموضوع بعيد عن بيئتنا العراقية أو العربية، فإنني عندما أتحدث عنه إلى زملاء عراقيين أو غيرهم، يجدون بعض الاستغراب، خصوصاً من لم يعيشوا في الغرب أو مارسوا طرقه. هناك عدد من الظروف الاجتماعية، مثل الفردانية وعدم تدخل العائلة في العلاقات، تؤدي إلى تنافس فردي بين النساء. في المجتمعات التي ترتفع فيها الفردانية، يصبح الشخص في مواجهة الآخرين أو المجتمع، بينما في مجتمع آخر تكون الفردانية فيه أقل، يفكر الشخص بأنه جزء من جماعة، عائلة، أو عشيرة. على سبيل المثال، امرأة تبحث عن قرين لها، سواء للزواج أو غيره، في المجتمعات الفردانية، هذا عمل فردي لا يخص إلا بشكل هامشي الآخرين، حتى العائلة المقربة. لكن في البلدان غير الفردانية، الزواج قرار عائلي، بل حتى العائلة الموسعة تدخل على الخط، فالبحث عن القرين يصبح مسألة جماعية وليس فردية. هناك عوامل تنافسية تتجاوز الجمالية والشبابية—وإن كانت هذه مهمة—مثل السمعة، التي قد تكون الأولى في مجتمعاتنا، حيث يقال إن سمعة هذه العائلة عالية أو منخفضة، ومفاهيم السمعة والعار قريبة من بعضها، بينما هذا المفهوم شبه معدوم في المجتمعات الفردانية.
لست هنا في صدد مدح أو ذم أي نمط مجتمعي، فكل ترتيب مجتمعي له سلبياته وإيجابياته. ما أقوله هو أن اضطرابات الطعام قد تكون مرتبطة بترتيب المجتمع الغربي الفرداني، ولكن هناك أيضاً مضار للمجتمعات الجمعية (Collectivist) التي لها مشاكلها الخاصة، لكننا لسنا هنا لمناقشتها الآن. أنا فقط أبين أثر هذه الترتيبات المجتمعية على مخاطر الإصابة باضطرابات نفسية معينة، من ضمنها اضطرابات الطعام. قد يسأل أحدهم: “دكتور، التنافس الجنسي والحياة الحديثة قد يقودان إلى أمور كثيرة، فلماذا يحدث هذا الأمر تحديداً لدى بعض الأشخاص؟” ركزنا على التنافس والحياة الحديثة والفردانية، لكن لو حاولنا فهم ما تفعله اضطرابات الطعام في الدماغ، هل هناك عوامل بيولوجية أو جينية؟ من حيث المبدأ، نعم، لكن هذا لا يزال غير معروف. هناك دراسات تشير إلى أن التنافس بين النساء يسبب شداً نفسياً يؤدي إلى اضطرابات نفسية، منها اضطرابات الطعام، الكآبة، والقلق، لكن هذا الجواب قد لا يكون كافياً، لأن المختصين باضطرابات الطعام غير مهتمين بهذه النظرية التطورية، ولم يدعوني أحد لإلقاء محاضرة في مؤتمراتهم، وهذا إهمال عجيب للمنظور التطوري في الطب النفسي خصوصاً وان النظريات الحالية لاضطرابات الطعام هي نظريات ضعيفة وغير فعالة.
عندما نتحدث عن الطب النفسي التطوري، غالباً ما يقارن بالعلاج النفسي التقليدي بالكلام أو الأدوية. في العراق وبعض الدول العربية، يقدم الأطباء النفسيون العلاج الكلامي بأنفسهم بدلاً من معالجين متخصصين. فماذا يقدم الطب النفسي التطوري؟ هل هناك آفاق لابتكار أدوية أو أساليب جراحية أو علاجية جديدة؟
الجواب قد يخيب آمال البعض: لا توجد علاجات دوائية أو جراحية تستند إلى الطب النفسي التطوري. العلاجات الجراحية في الطب النفسي أثبتت فشلها وتوقفت تقريباً، لكن الطب النفسي التطوري هو مجال بحثي يوفر إطاراً لفهم أعمق للاضطرابات، قد لا يؤدي مباشرة إلى علاجات، لكنه مهم مثل علم الجينات الذي لم ينتج علاجاً نفسياً رغم الاستثمارات الضخمة. شرح الحالات للمرضى من منظور تطوري قد يكون علاجياً بحد ذاته، وهناك نوعان من العلاج الكلامي المستند إلى التطور: العلاج القائم على التعاطف (Compassion-Focused Therapy) لـ بول جيلبرت، والعلاج السلوكي المعرفي المستنير تطورياً لـ مايك أبرامز. للمهتمين، نشرت كتاباً مع الكلية الملكية وجامعة كامبريج، متاح على Kindle وعلى قناة EPSEG UK على يوتيوب، وأتمنى أن يشجع هذا على مناقشة العلوم الحقيقية باللغة العربية.