لفتة درامية: في فيلم الأرض (1970)، يحتشِد رجال القرية مشحونين بالغضب والخِصام بسبب تنازعهم على قسمة الماء، ينقسمون ويتشاجرون، تعلوا الأصوات وترتفع العصي، وفي أوجِ جدلهم وتنافُرهم تسقطُ بقرةٌ في حُفرة، فتصيحُ امرأة فقيرة. يهدأ الغضب وتنخفض العصيان والسَّواعد، ويتَّحد الجميع لإنقاذ البقرة. ينتهي المشهدُ بتصالُح المتخالفين وتكاتُفهم. إن هذا المشهد ليس مجرد لقطة عاطفية في واحد من أهم الأفلام العربية، بل هو مثالٌ جيد على ضرورة التعاون لتحقيق هدف جماعي صالح… إنه بيولوجيا الأخلاق حيث تكون مفهومة وبديهية في المدينة وفي الريف على حد سواء.
عَرَضنا في جزء سابق من هذه السلسلة لمبدأي الحتمية والغيرية من منظور أكثر بيولوجيةً وأقل فلسفة. في هذا المقال سنلخِّص مفهومي التعاوُن والغِشِّ في مختلف الكائنات الحية، الاجتماعية خصوصا.
التعاون cooperation عنصر أساسي في حياة البشر والحيوانات الاجتماعية. فالأفراد المتعاوِنون ينتفعون أكثر من الأفراد المتنافسين. يشير مصطلح allogrooming إلى الرعاية المتبادلة بين كل أفراد النوع. تستطيعون أن تلاحظوا قُطعان الماشية أو أفواج الخيل، حيث يتبادل الأفراد الاهتمام والرعاية ويتعلمونها، فالفرد الذي يتلقى الرعاية والاهتمام سيمنحهما لاحقًا إلى من منحه إياهما. ويشير مصطلح mutual grooming إلى الرعاية التي يتبادلها فردان من نفس النوع. ففي كل الأنواع هناك مناطق من الجسد لا يستطيع الواحد أن يهتم بها بمفرده فيحتاج إلى زوج يرعاه ويحظى برعايته (تعريف المصطلحات الإنجليزية من ويكيبيديا).
في النقاط التالية سنذكر أهم جوانب الحياة الاجتماعية التي لا يمكن أن تتوفر بدون التعاون.
الحصول على الطعام
لكي يحصل الفرد على الطعام عليه أن ينضمَّ إلى الآخرين الذين يُرجِّح أنهم حصلوا على طعام، أو يُلاحِظَ الآخرين ليتمكن من معرفة مصادر الطعام وطريقة الحصول عليه، أو الاشتراك في الصيد لإيجاد الطعام وتوزيعه وحماية مصادر الطعام من النفاد (Broom, 1981). النسور التي تحلق على أراضي أفريقيا، وطيور الذعرة (أبو فصادة) التي تشارك في جمع الطعام بعد المبيت تكتسب معلومات قيمة عن مواقع الطعام من أعضاء نوعها ((Ward and Zahavi, 1973; Broom et al, 1976. تصطاد الذئاب بطريقة أفضل عندما تكون في جماعات، وتتشكَّلُ البجعات وتُزامِن اغترافها للأسماك، ويحمل التمساحُ الفريسة بينما يقوم تمساح آخر بنزع اللحم عنها. وكذا تتعاون الخفافيش مصاصة الدماء والغِربان وقردة الشمبانزي بسلوكٍ غيري متبادَل (Wilkinson, 1984; Heinrich, 1989; Savage-Rumbaugh and Lewin, 1994).
تتميز الأطعمة المشتركة بين أفراد الكائنات الاجتماعية بعدة مميزات (de Waal, 1996):
- أن تكون مركَّزة وذات قيمة (غذائية) عالية لكنها معرضة للفساد (إن لم تُستهلك في وقت أسرع)،
- ألا يمكن التنبؤ بوَفْرتها،
- أن يتم الحصول عليها بالاعتماد على مهارات الأفراد الآخرين،
- أن يكون التعاوُن هو الوسيلة الفُضلى للحصول عليها.
الدفاع ضد المفترسات
تظلُّ عصافير الدُّوري تغرِّدُ على الأسيِجة والغصون حتى تستطيع الدخول بأمان في جماعاتٍ إلى أماكن الطعام (Elgar, 1986). قد يعرِّض نداءُ الخطر المُناديَ للافتراس، لكنها مجازفة ضرورية للحفاظ على استقرار الجماعة. لا تستطيع طيور الخرشنة المائية أن تهاجِم المتطفِّلين إلا إذا تجمَّعت وتعاوَنت في الهبوط عليهم، وكذلك طيور الدُّج التي تهبط على المتطفِّل وتتغوط عليه دفعة واحدة. إذن، فالتعاوُن ضد المفترسين في الأنواع الاجتماعية يكون أنْجَع (أكثر فاعلية) من التفكك.
تجنُّب إيذاء الآخرين
تجنُّب إيذاء الآخرين هو أكثر مظاهر التعاوُن والغيرية وضوحًا وشيوعا في الأنواع الاجتماعية، وغالبًا يكون متبادلا بين الأفراد (Broom, 2003). فعادةً ما يكون الأفراد حذرين ليتجنَّبوا التصادمات والخطوَ على بعضهم وإيذاءهم بالقرون أو الأسنان، ودفع بعضهم من على الأشجار، أو رميهم إلى أماكن خطرة. وإذا حدث نوع من الإيذاء ولو عَرَضيًّا، سيتغير سلوك بقية الجماعة نحو المؤذي والمُصاب. فيُعاقَب الأفراد الذين لم يتجنبوا الإيذاء، أو يتوجَّب عليهم مُراضاة الأشخاص الذين تعرضوا للألم (de Waal, 1996).
احتمالية الغِش
متى ما وُجِدت الغيرية والتعاوُن، كانت احتمالية الغِش أكثر أهمية. تمارس الكائنات العديد من السلوكات التي من شأنها أن تعزز الغيرية والأخلاقية بينها. هذه السلوكات تشمل: التعاطُفُ مع أفراد محددين (الأقارب أو أعضاء المجموعة) لتقليل تعرُّضهم للإيذاء أو زيادة نفعهم، القدرة على تمييز الأفراد الذين قد يكونون نافعين أو مُحسنين، القدرة على تذكُّر جمائل الفرد نفسه مع الآخرين وجمائل الآخرين معه، القدرة على تحديد وتقييم أساليب الغش، القدرة على معاقبة أو المشاركة في معاقبة الغشاشين، القدرة على دعم البنية الاجتماعية لتعزيز التعاون وتقليل الخداع، الرغبة في التوافُق مع الأكثرية.
يُلاحَظ الفردُ كغشَّاش إذا فشل في تجنُّب الإيذاء أو لم يُحقق شرط التعاوُن مع الأفراد خصوصا ومع الجماعة عموما (ومن هنا نفهم لماذا تُعد السرقة، الخيانة، الكذب، الأنانية، العدائية… إلخ أفعالا غير أخلاقية، لأنها ضد المصلحة الأعم (مصلحة الجماعة) ولأنها توحي بالاستغلال وعدم الانتماء إلى الكُل. المُترجم).
المصدر
Broom, D. (2006). The evolution of morality. Applied Animal Behaviour Science, 20–28.