البيئة الحديثة، سواء كانت البيئة الاجتماعية أو طبيعة المأكولات التي نأكلها، تختلف عن البيئة البشرية الأصلية، وهي بيئة الصيادين وجامعي الأثمار والنباتات. هذه البيئة كانت تلك التي نشأت فيها صفات الإنسان، وعاش فيها البشر لأغلب تاريخهم البيولوجي والتطوري، أي عشرات آلاف الأجيال من البشر عاشوا في ظروف الصيادين والجامعين (hunter-gatherers). الآن يعيشون في ظروف اجتماعية أخرى قد تؤدي إلى عدم توافق أو ميس ماتش، وهذا قد يؤثر على الصحة. الفصام واحد منها، واضطرابات الطعام موضوع آخر قد يكون له علاقة بعدم التوافق.
للاستماع: الطب النفسي التطوري والفصام: لقاء مع د. رياض عبد (الجزء الأول)
سأتكلم الآن قليلاً عن نظريتي فيما يخص الفصام التي سألتني عنها. نظريتي هي أن موضوع عدم التوافق، خصوصاً فيما يخص الظروف الاجتماعية الحديثة، يلعب دوراً كبيراً أو حتى حاسماً في تسبيب أو في الجذور البيولوجية لمرض السكيزوفرينيا أو الفصام. أولاً، هناك ملاحظة بأنه كان هناك رأي شائع، لكنه تبين أنه خاطئ، بأن معدلات الفصام في العالم كله وفي كافة المجتمعات هي نفس المعدل، 1% من البشر يصابون بالفصام. هذا خطأ غير صحيح، الآن أثبتت الدراسات أن معدلات الفصام تختلف من مجتمع إلى آخر، والظروف البيئية للمجتمعات لها تأثير على معدلات الإصابة بالفصام. ملاحظة أخرى، أن المهاجرين لديهم معدلات إصابة بالسكيزوفرينيا أكثر بكثير من سكان البلد الأصليين الذين لا يهاجرون.
هل يمكن أن نذكر بعض النسب عن نسبة الإصابة بين المهاجرين واللاجئين أو نسبة الإصابة التي ذكرتها 1%، ما هي النسبة الحالية؟
تتفاوت بشكل كبير جداً، الدراسات الحديثة بينت أن الاختلاف بين نسبة الإصابة بالفصام في المجتمعات قد تصل إلى 30 ضعفاً من أقلها إلى أكثرها. معنى ذلك أن الظروف البيئية في بعض المجتمعات تزيد من معدلات الإصابة بالفصام، بينما الظروف البيئية لمجتمعات أخرى تؤدي إلى معدلات أوطأ بكثير. مثلاً، أعطيك مثالاً حصلت فيه دراسات كثيرة، وهو الوست إنديانز (West Indians)، وهم سكان جزر الهند الغربية في الكاريبي بجانب أمريكا. كثير منهم هاجروا إلى بريطانيا في منتصف القرن العشرين لإيجاد فرص عمل وغيرها بعد الحرب، كان هناك حاجة لأيدٍ عاملة، فشجعوا الهجرة من الكاريبي إلى بريطانيا. الآن هناك جيل ثانٍ وثالث من هؤلاء المهاجرين، ونسبة الإصابة بالفصام في هذه المجتمعات المصغرة هي أضعاف نسبتها مقارنة بسكان لندن، لأن أكثرهم يعيشون في لندن، والحقيقة أكثرهم يعيشون في جنوب لندن.
نسبة الفصام عند مجتمعات جزر الهند الغربية، وهم من أصول أفريقية طبعاً، أخذوهم في قرون ماضية كعبيد يعملون في مزارع السكر وغيرها، وهؤلاء هم احفاد أحفادهم الذين هاجروا إلى بريطانيا، نسبة الفصام عندهم عالية جداً، تتجاوز أربعة إلى خمسة أضعاف نسبتها في سكان لندن البيض الأصليين. لكن الأهم من ذلك، نسبة الإصابة عند سكان جزر الكاريبي بالفصام في الكاريبي، حيث يشكلون الأغلبية، هي نسبة ضئيلة مقارنة بالنسبة التي يصابون بها في لندن، لا تتجاوز العُشر إلى الخُمس من المعدلات. معنى ذلك أن المهاجرين الذين جاؤوا إلى بريطانيا وأولادهم وأحفادهم، نسبة الإصابة عندهم بالفصام هي خمس إلى عشر مرات أعلى مقارنة بمن بقوا في الكاريبي.
هذا الازدياد في معدلات الإصابة بالفصام ينطبق على دراسات متعددة، والآن أصبحت حقيقة، حتى على مستوى المحلة أو الزقاق الذي يعيش فيه الفرد. إذا كنت في هذه المحلة أو الزقاق أقلية، تزداد معدلات إصابتك بالفصام، وإذا كنت فيها أكثرية، تقل معدلات إصابتك بالفصام، حتى على مستوى المجتمع هذا الشيء صحيح. هذه ظاهرة أصبحت مفهومة الآن وتُدعى بـ “الكثافة العرقية” (ethnic density effect)، التي تشير إلى الكثافة السكانية للمهاجرين في محلة ما، ولها علاقة بمعدلات الفصام عند المهاجرين في تلك المحلة.
نظريتي التي كتبتها مع زميل عراقي كان متدرباً عندي، وهو الآن استشاري في لستر واسمه محمد جمعة عباس، نشرناها سنة 2011، وتُدعى “عدم التسامح مع الجماعة الخارجية” (outgroup intolerance). هذه النظرية تقول إن خطر الإصابة بالفصام يعود بنسبة معينة، لا نقول إنه السبب الوحيد للفصام، لكن بنسبة معينة يعود إلى عدم التوافق بين بعض الصفات السيكولوجية التي تتحفز بشكل كبير أو غير طبيعي بوجود ناس يختلفون عنك، أو ما نسميهم “الغرباء”. المعيشة بين الغرباء، هي ظاهرة لم تكن موجودة في البيئة الاجتماعية الأصلية للبشر، لأن البيئة الاجتماعية الأصلية كانوا يعيشون في مجامع بشرية صغيرة يعرفون بعضهم معرفة وثيقة جداً، وربما طوال حياتهم (lifelong). الاختلاط بالغرباء كان شيئاً نادراً جداً، والمعيشة بين الغرباء كانت غير معروفة، أو حتى لو صادف أن يعيش الفرد مع غرباء، فهذا الغريب يصبح غير غريب من خلال المعايشة.
قارن بين هذا وبين المعيشة في المدن الحديثة، نحن جميعاً نعيش في بحر من الغرباء، ليس فقط أنهم غرباء اليوم، بل هم غرباء إلى الأبد. عندما تكون في مدينة كبيرة، فأنت غالباً محاط بناس ليس فقط لا تعرفهم، لكن لن تعرفهم أبداً، لأن التفاعل بينك وبينهم لا يعدو أن يكون تعاملاً سطحياً وقتياً وعابراً. هذه حالة غير توافقية غير موجودة في التاريخ البشري، وهناك من لديه حساسية أكثر من الآخرين لهذه الحالة. نشرنا، لا أعرف إن صادفتك هذه الورقة من خلال بحثك في أعمالي، ورقة مع زملاء بريطانيين في بداية 2024 بعنوان “The modified salience hypothesis”، حاولنا أن نشرح ليس فقط عملية عدم التوافق في الحالة الاجتماعية، بل دخلنا إلى العوامل التي تزيد من الإصابة بالفصام. آسف، كنت تريد أن تسأل سؤالاً؟
المدن بيئات للاغتراب
نعم، أسئلة عديدة، ذكرتم العوامل الدماغية والجينية، وهذه الأسئلة لم أخطط لها لكنني أراها أهم من غيرها. السؤال الثاني قد يقول قائل من جانب علم النفس وليس الطب النفسي: ما هي حدود هذا الاغتراب والغربة؟ كيف نشخص علمياً؟ قد يقول قائل إن دكتور رياض عبد جاء إلى المملكة المتحدة منذ زمن طويل، وهو الآن لديه منصب في المؤسسات الأكاديمية، ويعيش لعقود في منطقة معينة، فهل مثلاً مفهوم الاغتراب ما زال ينطبق؟ وفي الوقت نفسه، ممكن أن يأتي شخص من ويلز أو اسكتلندا إلى لندن مثلاً، هل مفهوم الاغتراب سينطبق عليه بقدر ما ينطبق على شخص قادم من الكاريبي أو شخص مثل حالتي قادم من العراق؟
أسئلة ممتازة، وسأتناولها بعجالة لأن هذه مواضيع يمكن أن نتحدث بها لساعات كثيرة. ممكن جداً، فموضوع الاغتراب ينطبق على الجميع. أعطيت مثالاً للمهاجرين من الكاريبي لأن هؤلاء حصلت عليهم دراسات كثيرة، ونعرف بالضبط ما هي المعدلات وما هو خطر الإصابة بالفصام وغيرها في هذه المجتمعات المصغرة، لكن هذا لا يعني أن الذي جاء من ويلز أو اسكتلندا لن تزيد معدلاته، لا، تزيد، لكن أود ان اذكر موضوعاً مهماً، وهو أن الدراسات الآن واضحة بأن المعيشة والنمو في المدن يزيد من احتمال الفصام مقارنة بالذي يعيش وينمو في الريف عموماً في العالم كله.
عمر: يعني ممكن أن نقول أن المدن هي بيئة للاغتراب؟
نعم، بالضبط. و يجب أن نتذكر شيئاً، أولاً ان المدن هي ظاهرة حديثة لا تتجاوز بضعة آلاف من السنين. أولى المدن في العالم ظهرت في الشرق الأوسط أو الهلال الخصيب تقريباً قبل حوالي ستة إلى سبعة آلاف سنة. الهوموسابينس (الإنسان العاقل) عمره 300 الف سنة، والجنس هومو الذي ينشأ منه الهوموسابينس عمره تقريباً 2.6 مليون سنة. إذا عدنا إلى الجنس هومو فقط، لا نعود إلى السلف المشترك مع الشمبانزي، بل إلى الجنس هومو الذي نشأ منه تقريباً أحد عشر فصيلاً بشرياً، 2.6 مليون سنة. كم سنة مرت منذ نشوء المدن؟ لا يتجاوز سبعة آلاف سنة، حتى لو قلنا عشرة آلاف سنة بالكثير، ما هي النسبة من 2.6 مليون سنة؟ نسبة ضئيلة جداً.
وطبعاً نقول إن المدن التي نشأت قبل عشرة آلاف سنة، لكن ما هو نوع هذه المدن؟ لا تتجاوز بضعة آلاف من السكان، مدن صغيرة للغاية بالمقياس الحالي. مثلاً، يقال في تاريخ المدن أن روما كانت من أولى المدن التي حصل فيها عدد سكان قارب المليون، تقريباً قبل 2100 إلى 1700 سنة في أوج ضخامتها، روما القديمة، لا نتحدث عن روما الحديثة. كانت هذه ندرة نادرة من المدن التي حصل فيها هذا الحجم، لكن المدن الأخرى كانت مدن لا تتجاوز بضعة آلاف من الناس. إذن المدن حالة شاذة في سياق التاريخ البشري، حالة غير معتادة تثير عدداً كبيراً من حالات عدم التوافق (mismatches)، ليس فقط الاجتماعي بل الصحي عموماً.
سأشرح لك حقائق قد يجدها المستمعون مثيرة للاهتمام، وهي أن المدن كانت الحياة فيها سيئة جداً لغاية القرن التاسع عشر. لماذا؟ للظروف الصحية السيئة، لأنه لحين اكتشاف أسباب الأوبئة، التي لم تكن معروفة، كانت المدن تنتشر فيها الاوبئة بشكل فجائي، من طاعون أو كوليرا أو جدري، ويقتل عشرات الآلاف. في حقب كثيرة من التاريخ البشري، كان سكان المدن يُجبرون على مغادرة المدينة والسكن في الريف فترة للتخلص من خطر الموت من جراء الأوبئة. فالمدن كانت أماكن غير صحية. إذا قرأت تاريخ بغداد، فإن تاريخ بغداد هو تاريخ الأوبئة، وأشير هنا إلى كتب علي الوردي الذي كتب فيها عن الطاعون والكوليرا في القرن التاسع عشر بشكل تفصيلي، ذكر بقاء ألفي نسمة فقط على قيد الحياة بعد انتشار احد الاوبئة. كان الناس يتركون بغداد ويذهبون إلى الصحراء، يعيشون فيها لحين انتهاء الطاعون أو الكوليرا، لأنهم لم يكونوا يعرفون أسباب هذه الأمراض.
بعد أن اكتشفت أسباب الأمراض في أوروبا في القرن التاسع عشر وتم بناء بنى تحتية في المدن تحد من انتشار الاوبئة، لكن في بقية العالم لم يحصل هذا إلا في القرن العشرين، لأن الكثير من المدن لم يكن فيها مجاري ولا تصريف صحي ولا غيرها. نرجع إلى موضوع البيئة وعدم التوافق، الشخص الذي ينمو، بغض النظر عن أصله العرقي أو الإثني، في المدن الحديثة اليوم في أي مكان من العالم، معدلات إصابته بالفصام أكثر مما لو يعيش في الريف أو القرى، أي في الأماكن التي فيها كثافة سكانية واطئة. الكثافة السكانية العالية تزيد من خطر الإصابة بالفصام. أرجو أن أكون قد جاوبت على سؤالك بشكل ما، وهو حديث ذو شجون يمكن أن يسترسل فيه المرء كثيراً، لكن أود أن أغطي مواضيع أخرى.
موضوع رائع بصراحة، لم أكن أتوقع هذه الأبعاد، بعضها ربما أبعاد فلسفية، وربما بعضها قد يدعو البعض للتفكير بقرارات الحياة. إذا كان شخص يتخيل أن انتقاله إلى مدينة أخرى أو بيئة أخرى قد يساهم في مزيد من الحزن والوحدة، ربما حتى الفصام، فقد يتراجع عن قرار مثل هذا. لكن أريد أن أسأل على عجالة، بحسب اطلاعكم على هذا النطاق من الدراسات وعلى تأثير الاغتراب هذا، هل له أثر على حالات أخرى مثل الاكتئاب أو أي حالات أخرى للصحة النفسية؟ وقبل أن أنتقل إلى مجال آخر، لاحظت تركيزكم أو تركيز جانب من أبحاثكم على اضطرابات الطعام والأنوركسيا أيضاً وعلى علاقة علم النفس التطوري بها. فسؤالي الأول، هل كان هناك أمراض أخرى، وإن أجبتم على ذلك، فلننتقل إلى حالات اضطرابات الطعام.
أوكي، شكراً على هذا السؤال، الجواب هو نعم، مفهوم عدم التوافق له علاقة بعدد كبير جداً من الاضطرابات النفسية أو الأمراض النفسية، من ضمنها الاكتئاب، الأدمان، اضطرابات الطعام، وغيرها. حتى موضوع الخرف (Dementia) له علاقة بعدم التوافق، لكن بشكل آخر. الظروف البيئية قد يكون لها تأثيرات حتى على نسب الخرف التي تحصل. عدم التوافق، وهو مفهوم تطوري بامتياز ومهمل للأسف، هذا المفهوم مهمل بشكل غير مفهوم من قبل الطب الحديث، لأن الطب الحديث عموماً يهمل أو لا يكترث بالمفاهيم الداروينية أو التطورية.