لا شك أن اعتبار الانسان احد انواع الكائنات الحية التي تطورت على الأرض يتعارض مع رؤيتنا السابقة التي كانت تعطي للإنسان قيمة مركزية. هذا الامر يشبه بالضبط تجربة البشر عندما أدركوا أن الأرض ليست مركز الكون.
لم يحدث التقدم حول علم النفس التطوري في زمن دارون بالرغم من البراهين التي قدمها بل وحتى ادلة التطور التي أكدتها الوراثة الجزيئية فيما بعد بصورة لا تقبل الشك الا انها واجهت مسائل معقدة لمن ينظر للتطور بصورة سطحية: كيف يمكن ان يظهر سلوك الطيبة واللطف في عالم الصراع من اجل البقاء؟ بل كيف يمكن ان تنتقل جينات هذا السلوك من جيل لآخر وهي مضرة لحاملها من وجهة نظر من ينظر بصورة سطحية لصراع الطبيعة؟
لذا حتى بعد اثبات نظرية التطور نلاحظ استمرار الكنيسة وباقي المؤسسات الدينية في الترويج لفكرة أن كل خير أصله إلهي وكل شر أصله شيطاني. كان علم النفس منبراً لكل من هب ودب. فمن جهة تنسبه الفلسفة للمثاليات ومن جهة أخرى تنسبه الأنثروبولوجيا إلى ثقافات الشعوب الى ان بزغ فجر علم النفس التطوري ليضع حداً لهذه المزاعم والعلوم الزائفة.
لفترة طويلة جدا كانت الأنثروبولوجيا تعمل تحت افتراض ان كل مجتمع مختلف عن الاخر. فهذه الاختلافات الثقافية يجب ان تكون مدروسة لكل مجتمع على نحو مستقل عن باقي المجتمعات. كما أنها افترضت ان مجتمعات البشر تختلف عن مجتمعات الحيوانات لان تداخلاتها وتعقيداتها تحدد، إلى حد كبير، بثقافاتها المحلية بدلا عن البيولوجيا.
كان علماء السلوك حذرين من إسناد الأفكار البشرية والمشاعر إلى باقي الحيوانات، ويطلقون على هذه الخطيئة العلمية اسم التجسيم (anthropomorphism). بقيت المدارس في أوربا وأمريكا تمنع تدريس هذا الموضوع لقرن كامل بعد ان وضع دارون نظريته. إلا أن داروين نفسه كان يشعر بأن هنالك تواصل تطوري للأخلاق بين الحيوانات والإنسان. إذ وضّح كتاب داروين “التعبير عن العواطف في الإنسان والحيوان” (1872) الطرق التي تتواصل بها الحيوانات مع بعضها من خلال المشاعر مثل الغضب والخوف. فالكلب الذي يجثم مرتعدا من الخوف، يجعل نفسه يبدو صغيراً وغير مؤذٍ قدر الإمكان. لكن عندما يكون غاضبا، فهو يشعث فرائه للخارج، ويزمجر أسنانه ويظهرها، مؤكدا قدرته ورغبته في إلحاق الضرر. كان داروين مهتما في المقام الأول بفائدة هذه النزعات لمساعدة الأفراد على البقاء على قيد الحياة والتناسل. فمن الواضح أن الخوف مفيد للكلب الذي يواجه منافس يمكن أن يتفوق عليه، إذ يمكنه تجنب القتال والموت المحتمل بهذه الميزة، من خلال اظهار نفسه بموقف ضعيف لا يشكل أي تهديداً للخصم. وبالمثل، فإن إظهار الغضب يساعد أقوى الخصمين في الحصول على الموارد المتنازع عليها دون تعريض نفسه لخطر كبير إذا حدثت المعركة الفعلية.
يعبر الناس عن مشاعرهم بطريقة مختلفة أكثر. فبدلا من ان نجعل الشعر يبدو واقفا مثل سلوك الكلاب، فنحن ننفخ صدورنا الى الخارج. وبدلا من إظهار أسناننا للخصم، فنحن نقوم بشد قبضاتنا. وعلى الرغم من هذه الاختلافات السطحية، ليس هناك شك في أن الناس يمكن أن يظهروا غضبهم عن طريق وضع أجسادهم كما لو كانوا على وشك مهاجمة شخص ما، مثل الكلاب. وبالمثل، عندما يكون الشخص خائفا، يعبر عن خوفه من خلال جعل نفسه يبدو صغيراً وغير مؤذٍ. اذ يحدق للأسفل ويحني الكتفين ويلصق اليدين مع الجسم.
من السهل جدا بالنسبة لنا فهم حقيقة أن الحيوانات لديها مشاعر عاطفية مماثلة للبشر. فداروين كان يصر على هذا التشابه في السلوك. نحن نتشارك تاريخاً تطورياً طويلاً مع الثدييات الأخرى، ونملك ادمغة لها تصميم مشابه الى حد كبير مع تصميم أدمغة الثدييات، حتى لو كانت قشرة الدماغ (cortex) لدينا أكبر بالنسبة لبقية اجزائه.
ولا شك أن الفكرة القائلة بأن هناك استمرارية في الحياة العقلية للإنسان والحيوان أحدثت انقلاباً في التاريخ. وكانت مخيفة لعلماء النفس، إذ يمكن تلخيص ردة فعلهم في عبارة “احذر، لا تدخل في هذا المضمار!” ومع ذلك، فإن علماء النفس المقارن دخلوا في هذا المضمار على الأقل لكشف أذهان أقرب أقربائنا الرئيسيات – الشمبانزي وانسان الغاب والغوريلا وغيرها. الدافع الحقيقي وراء الجهود الشاقة لتعليم الشمبانزي لغة الإشارة، كان محاولةً منا للتواصل مع عقل الحيوان.
في حالة الشمبانزي كان بعض “التجسيم” مبرر علمياً كما يخبرنا الواقع، بالنظر إلى أن الشمبانزي لا يختلف بأكثر من 1% عن التركيب الجيني للبشر. وعلاوة على ذلك فإن هذه الكائنات تمتلك نسبة عالية من الذكاء مقارنةً ببقية الحيوانات اذ تمكنت من تمييز نفسها وباقي أفراد نوعها في المرايا، كما بينت عدة تجارب علمية دقيقة. وهو أمر غير ممكن للقردة أو الغوريلا ذات العقل الصغير نسبيا (انسان الغاب Orangutans أيضا اجتاز اختبار المرآة).
تأثر داروين أيضا بقصص تحكي عن قدرة الحيوانات على إظهار الشعور بمعاناة الأعضاء الآخرين من جنسهم. على سبيل المثال، احدى القصص كانت عن غراب أعمى اجتمع أفراد نوعه حوله ليطعموه. مثل هذه الأدلة مدهشة أكثر من حالات التعاطف بين الأنواع التي ترتبط ارتباطا وثيقا بالبشر من خلال تاريخ تطوري المشترك. وفي أحد الأمثلة دهش دارون بسلوك التعاطف لدى الشمبانزي، فاذا جُرح أحد أفراد الشمبانزي أو اضطرب سيقوم بقية الافراد بعناقه لأجل تخفيف معاناته. في عصرنا هذا هناك ايضا كثير من الأدلة، إذ توصل الباحثون المعاصرون لإستنتاجات مماثلة حول قدرة الشمبانزي على التعاطف مع معاناة الآخرين.
هذه المشاعر الأخلاقية قد تكون ضرورية لسلوك الإيثار في الرئيسيات والثدييات الأخرى، بما فيها البشر. كما يمكن بيان ذلك، فإن رعاية الاطفال من قبل الأمهات على الأرجح مبني على أساس عاطفة شديدة. اذ تكون لأمهات الأغنام رابطة عاطفية قوية مع الحملان في غضون ساعات قليلة بعد الولادة. تصبح النعجة مفجوعة وحزينة وإذا انفصلت عن ابنها لأي سبب، وتبدأ بالبحث باهتياج عن الضأن المفقود. يشير ذلك إلى أن سلوكها هذا تحدده العواطف بدلا من رد الفعل المنعكس للمؤثرات الموجودة. بصورة واضحة يمكن ملاحظة أن الإيثار الموجه إلى الأقارب له أساس عاطفي، على الرغم من أنه سيكون من الخطأ أن تعزى العاطفة لعاملات نحل العسل التي تترك التزاوج لتعتني بالملكة وابنائها، فالنظام العصبي للنحل أبسط بكثير من هذه المستويات. هذه البساطة العصبية تقيد افعالهم لاستجابات نمطية لمحفزات محددة.
لكن كل ما ذكره دارون هي مشاهدات من الواقع لا تقدم حل مقنع يفسر إمكانية تطور وتوارث سلوك الطيبة والايثار. بقيت هذه المسألة تسمى معضلة داروين حتى عام 1960، عام الوصول الى ذروة علم النفس التطوري على يد هاملتون .
سأذكر في هذا المقال آليتين فقط لتطور سلوك الإيثار والطيبة من رحم نفس صراع الطبيعة:-
أولا: آلية الحفاظ على الأهلية الشاملة (inclusive fitness) معززة بنظرية انتخاب الأقارب (kin selection)
[تُسمى في بعض كُتب علم النفس التطوري باللياقة المتضمنة]
يبين علم الاحياء ان كل الحيوانات تكافح من اجل امرين: البقاء والتكاثر. لذا يكون الفعل الايثاري للشخص هو تقديم وتفضيل بقاء وتكاثر الفرد الآخر على نفس الشخص الذي يقوم بعملية الايثار. على سبيل المثال، عاملات نحل العسل لا تتكاثر لكنها تعمل على تربية أبناء أمهن ملكة خلية نحل العسل.
كيف سمحت قوانين الطبيعة لوجود مجتمعات تحتوي افراد ذات سلوك إيثاري؟ الإجابة التطورية لهذا السؤال بسيطة لكنها عميقة جداً. فكر بالتكاثر على انه عملية نسخ جينات للأجيال القادمة. فعاملات نحل العسل لا تتكاثر لكنها تكرس نفسها لخدمة ملكة النحل التي تمتلك جينوم مطابق لهن. ضمن شبكة الافراد القريبة جينيا لا يهم فيما لو كانت نسخ الجينات ستورّث مباشرةً من نفس الفرد أو بصورة غير مباشرة من خلال تكاثر ملكة النحل، والتي هي ام كل العاملات.
يطلق مصطلح ” إِيثارِيّ” على عاملات النحل في دراسة البيولوجيا، كونهن يقدمن تكاثر ملكة نحل ويفضلنه على تكاثرهن الشخصي. وبذلت جهود كبيرة لمعرفة ما إذا كان هذا النوع من الإيثار يمكن ان يفسر ايثار التضحية بالنفس عند الانسان.لكن بلا شك هنالك اختلافات كبيرة بين هذين النوعين فتصرف الانسان يعكس سلوكه الشخصي باتخاذ القرار بينما تصرف النحل بشكل أساسي هو استجابة لمحفزات. مع ذلك فهنالك روابط قوية بين الحالتين توفر ما يكفي من البراهين لتتبع مسار تطور الإيثار الذي يُعد ركناً أساسياً في الموضوع الأكبر وهو تطور الأخلاق.
كفاح الكائنات الحية وتنافسها من اجل البقاء والتناسل هو المحور الأساسي لنظرية دارون، هذا الكفاح واضح لدى الحيوانات من خلال تنافسها على الغذاء والمكان الآمن لتجنب المفترسات والنجاح في التزاوج. فالأفراد التي تجتاز هذا الاختبار سوف يكون لها الأولوية في البقاء والتناسل، بينما تموت الأفراد ذات الإمكانيات الضعيفة ولا تترك نسل بعدها. هذه الحقيقة لا تصمد عندما نتكلم عن بعض سلوك الكائنات الحية، عندما يتعلق الامر بدعم افرادها لبعض على حساب مصلحتهم. اذ انها لا تتوافق مع تصرفات بعض الكائنات ذات السلوك الاجتماعي في العيش مثل الحشرات، وكما أشرنا فإن عاملات نحل العسل تسعى لخدمة اهتمامات ملكة النحل للتناسل على نفسهن.
بالمقارنة مع الايثار، فان الانتخاب الطبيعي يفضل سلوك الأنانية، وهذا ما يمكن توقعه مسبقا لأن سلوك الفرد الأناني يجعله أكثر كفاءة في الحصول على الغذاء والتناسل وبالتالي انتاج أجيال جديدة. في حين لا يتوقع سلوك الإيثار من كفاح الأفراد وتنافسهم للبقاء والتناسل، وهذا ما فتن البيولوجيين وجعلهم يبذلون قصارى جهدهم لحل معضلة: كيف نشأ الايثار في عالم داروين الاناني؟
لم يحصل هذا السؤال البسيط على إجابة حتى عام 1960 عندما قدم البيولوجي الإنكليزي ويليام هاملتون حلاً أنيقاً ومتقن لهذه الأحجية. جوهر حل هذا السؤال يكمن في إمكانية أن ينشأ الايثار عن طريق الانتخاب الطبيعي إذا كان السلوك موجه لأقرب الأفراد وراثياً للفرد الذي يقوم بعملية الإيثار.
أفضل صورة يمكن تقديمها عن هذه الحالة هي تخيل ان جين الايثار يجعل حامله يتصرف بلطف تجاه أفراد نوعه. فكما هي الحال مع منشأ بقية الجينات، تظهر جينات جديدة نتيجة لطفرات تحدث عن طريق خطأ أثناء تضاعف الحامض النووي منقوص الأوكسجين (DNA)، ومن غير المعقول ان يكون هناك جين واحد له هذا التأثير فقد يكون هذا تأثير راجع لعشرات وربما مئات الجينات لكن الآلية نفسها تسري على الجين الواحد او العشرات منه. من اجل توضيح الحالة على سبيل التجربة، ننتظر ظهور جينات الايثار وتأثيرها جاعلةً الفرد يتصرف بلطف وإحسان تجاه أفراد نوعه. سيقوم الفرد الإيثاري بالتراجع عن نصيبه في التزاوج عندما يتنافس أفراد نوعه على الانثى. وإذا كانت الأنثى ذات سلوك ايثاري ستقوم برعاية صغار أفراد نوعها.
وبنظرة سطحية يمكن بسهولة استنتاج أسباب صعوبة ظهور جين الايثار وفق محددات الانتخاب الطبيعي، هذه الأسباب تكمن بمقدار الفائدة التي يجنيها حامل هذه الجينات. فاذا كانت هنالك حالة قلة غذاء فان الفرد الايثاري سيموت من الجوع أولا، كما انه سيخسر نصيبه من التزاوج لعدم اشتراكه في المنافسة على الانثى، ويهمل أبنائه من أجل رعاية نسل أفراد آخرين من نوعه. فنلاحظ بوضوح ان الفرد الايثاري لا يملك نسل يبقى بعده ومن هذا نستنتج ان جين الايثار يموت في اول جيل يظهر فيه.
لكن بالرغم من ذلك فنحن نلاحظ حالات الايثار في الطبيعة بأعداد كثيرة جدا لا يمكن احصائها! اكثرها وضوحا وانتشارا هي تضحية الاب والام بنفسيهما من أجل أبنائهم. فلبوة الأسد لا تطعم أبناءها حليب من غددها البنية فقط بل انها تعد نفسها لخطر الموت دفاعا عنهم.
تمثل التضحية بالنفس أقصى حالات الإيثار يمكن ملاحظتها في الطبيعة. فالنحلة تفقد حياتها دفاعاً عن خلية النحل، على سبيل المثال عندما تقوم بلسع المفترس الذي يهجم على خلية النحل يتمزق جهازها الهضمي الى الخارج وستموت نتيجة جروحها نتيجة هذا الدفاع. ولا شك انها لا تدرك هذه التضحية مقارنة بادراك الانسان لتضحيته، فهي لا تعلم انها ستموت نتيجة دفاعها عن خلية النحل، لكن ايضا كيف تطور ؟
في عملية الانتخاب الجيني لهاملتون التركيز الأساسي لا يكون على تناسل الفرد الواحد وإنما على مجموعة جينات الافراد القريبة التي ستورث للجيل القادم. الأسباب المنطقية لتبني هذا المفهوم في التناسل بسيطة وواقعية، فانا يمكن ان اورّث نسخة من جيناتي للجيل القادم بان أنجب اطفال واكون أب لهم. لكن نفس الهدف يمكن إحرازه في حالة إنجاب الأطفال من أقرب الناس لي، لأنني متطابق جينيا مع أفراد عائلتي المقربين. فمثلا امتلاك أبناء اخوة واخوات تعد عملية كفوءة في نقل جيناتي للجيل اللاحق ولا تفرق عن توريث جيناتي عن طرق ابنائي مباشرةً. فمن وجهة نظر وراثية لا يهم إذا كانت الجينات تورث مباشرةً عن طريق نفس الفرد أم غير مباشر عن طريق ذويه المقربين.
بنظر علماء التطور فان “الكائن الاصلح” تعني قدرته على التكاثر وترك نسل، إذ يفسر مصطلح “الأصلح” بنجاح عملية التناسل للفرد. ومعيار هذه العملية هو عدد الأفراد التي ينتجها الكائن. فإذا أنتج الكائن فردين من عملية التكاثر فإنه قد ضمن نقل نسخة واحدة من جيناته للجيل القادم (50% من المحتوى الوراثي للاب مع كل ابن). ولا شك أن أطفالنا مميزين لأنهم أقرب ما يمكن لنا، لكنهم ليسوا الوحيدين الذين يشاركونا الجزء الأكبر من محتوانا الوراثي الذي يميزنا عن باقي الأنواع. فالشخص الذي لا يملك أطفال ولديه ثمانية أبناء اخ او اخت فقد ضمن نقل نسختين من جيناته للجيل القادم، بناءً على أن كل فرد من أبناء الأخ أو الأخت ساهم بنقل ربع جيناته دون ان يفعل هذا الشخص أي شيء. فكل الأفراد الاقرباء يمتلكون الاهلية الشاملة نفسها “inclusive fitness” (يصف هذا المصطلح نُسخ جيناتنا التي تنقل للجيل اللاحق عن طريق تناسل الأقارب بالإضافة إلى تناسل نفس الفرد).
ساعدنا مفهوم الأهلية الشاملة “inclusive fitness” في فهم كيفية ادامة سلوك الإيثار بالانتخاب الطبيعي إذا كان هذا السلوك مميز وموجه لهدف مناسب، بمعنى آخر موجه لأكثر الأفراد قرباً.
تجدر الإشارة بأننا عندما نتكلم عن جين الإيثار فإن مرادنا هو معنى مجازي لمسبب العمل الايثاري. فالجين له وظيفة جوهرية واحدة هي اعطاء معلومات خاصة ببناء البروتينات والتي تعتبر الوحدة الأساسية لكل مكونات الحياة. فالجين هو المخطط الذي يتم انشاء البناء بالاعتماد عليه، فهو لا يحفز الاحاسيس والمشاعر عند الفرد. وبالوقت نفسه فالجين ليس اناني ولا إيثاري، فهو يعطي المعلومات لبناء دماغ وجسم الشخص الذي يكون قادرا على اظهار الاحاسيس والمشاعر.
في الطيور، رعاية الابناء تطورت على النحو الذي يبذل فيه الاب والام وقت وطاقة الى ان يخرجوا من البيضة. ثم تليها جهود رعايتهم وحمايتهم والذي يساهم بزيادة فرصة نجاح الابن في التناسل من اجل الحفاظ على الأهلية الشاملة “inclusive fitness” وتوريثه للجيل القادم. فرعاية الأبناء، وإن كانت تمثل نحو خاص من الايثار، لكنه من حيث الأصل التطوري لا يختلف عن بقية أنواع الإيثار.
افترض لو أن إناث الطيور تقوم بكل واجبات تفقيس البيض ورعاية الصغار لوحدها. الان افترض أن طفرة (او مجموعة طفرات) حصلت اثناء انتاج بعض الذكور جعلت هذه الطيور تساعد الإناث في حضانة البيض ورعاية الفراخ. مساعدة انثى الطيور في واجباتها في رعاية صغارها سيقلل من وقت نضوج فراخها جنسياً. نصف عدد الأبناء يملكون جينات الايثار (المساعدة في تربية الأبناء)، ونصف الإناث تنقل هذه الجينات لنسلها القادم بعد ان اخذتها من أبيها. وبهذه الطريقة ستنتشر جينات الإيثار بسرعة خلال مجتمع الطيور ويكون لها السيادة على جينات الطيور الكسولة.
عندما نتبنى سلوك رعاية الابناء على أنه أحد أنواع الإيثار، وبلا شك أنه أكثر أنواعها انتشارا في الطبيعة، عندها يتضح جواب أهم الأسئلة المتعلقة بتطور نزعة الايثار. يرعى الأب والأم أبنائهم لأنهم يزيدون من فرص نجاحهم في التناسل، بمعنى اخر انهم يزيدون تردد وجود جينات ايثار رعاية الأبناء لدى أبنائهم. لاحظ ان سلوك الإيثار يحفظ بواسطة الانتخاب الطبيعي لأنه سلوك عنصري مميز باتجاه الأقارب فقط. فالوالدان في الطيور لا يرعون الفراخ بصورة عشوائية وإنما يوجهون رعايتهم للفراخ التي ترقد في عشها فقط. لكن علينا ان نعترف بان هذا النظام غير محكم، مثلا، تتم رعاية طائر الوقواق عن طريق وضع البيض في أعشاش أنواع أخرى من الطيور. تفقس بيوض طائر الوقواق قبل البيوض الاصلية فيتدحرج باقي البيض خارج العش فيستغل بذلك جهد الابوين في رعايته ليكمل دورة حياته، وذهبت جهود الابوين في مثل هذه الحالة الى الكائن المهاجم.
ثانيا: آلية الإيثار المتبادل reciprocal altruism معززة بنظرية الانتخاب الزمري group selection
تبرهن هذه الآلية على أن المجتمعات أو الجماعات التي يزداد بها سلوك الإيثار بين أفرادها سوف تزدهر على حساب باقي المجتمعات، وبالتالي ستحفظ هذه الآلية جينات الايثار وتعطيها السيادة.
سنتطرق لمثال مشاركة الطعام عند أسلافنا الصيادين لدعم ذلك.
حالة مشاركة الطعام بين الصيادين كانت شائعة بصورة واسعة لدى أسلافنا، بل انها لازالت مستمرة لدى جماعات الصيادين – الجامعين المعاصرين في افريقيا، على الأقل في حالة اصطياد حيوانات كبيرة. فالرجل الذي ينجح في اصطياد فريسة كبيرة سيكون لديه كمية من اللحم أكثر من الكمية التي يستطيع هو وعائلته اكلها. وبدون امتلاك وسائل الحفظ والتبريد ستفسد اللحوم في غضون أيام وتفقد قيمتها كطعام صالح للأكل. وبموجب الإيثار المتبادل، يمكن للصياد استثمار هذا الفائض من الغذاء في نظام التبادل واسترجاعه مرة أخرى على مدى الأيام التي يفشل بها باصطياد فريسة في الوقت الذي نجح به الافراد الاخرين ضمن مجموعته.
يشكل سلوك مشاركة الأغذية بين الصيادين مثالا مقنعا عن نجاح نظام الإيثار المتبادل الذي يستفيد منه جميع المشاركين. وبالرغم من حقيقة ان الصياد الماهر قد يساهم بكمية غذاء أكثر مما يأخذ في هذا النظام ولكن هنالك العديد من الأيام التي يفشل بها حتى أمهر الصيادين باصطياد فريسة وحصولهم على طعام بمفردهم. لذا فان هذا النظام يوفر تأمين لهم أيضا. اذ لوحظ ان حتى أمهر الصيادين لا يستطيعون صيد أكثر من فريسة كبيرة واحدة كل عدة أسابيع وهذه ليست طريقة صالحة لإطعام أطفالهم وحمايتهم من الجوع. وبهذا فان من مصلحة أفضل الصيادين الاشتراك بنظام تأمين تبادل الأغذية بين الصيادين. وحقيقة ان الصيادين الماهرين يساهمون بغذاء أكثر مما يأخذون لا تعد خسارة، لان نجاحهم في الصيد يزيد مستوى وضعهم الاجتماعي، الأمر الذي يجعلهم أكثر جاذبية بالنسبة للنساء. وبالتالي سيضمن هذا السلوك الحفاظ على جينات الإيثار بل وتطورها كذلك.
وهنالك فيض من الأدلة تثبت أن الرئيسيات تشكل تحالفات تعاونية مع أفراد آخرين لا تربطهم صلة قرابة دم ببعض. على سبيل المثال، ذكور قردة البابون اليافعة تتبنى اناث صغيرة وتقوم بحمايتها ورعايتها. وبصورة ودية، عندما تنضج الإناث، فإنها تتزاوج مع الذكور التي كانت تحميها.
رعاية أطفال الآخرين يعد أيضا أحد أمثلة الإيثار لدى مجتمعات الصيادين- الجامعين، إذ يوفر هذا النوع من الإيثار فرصة للام من أجل جمع بعض الطعام. هذا السلوك يوجد بنحو متطرف لدى قبائل اقزام الإيف (Efe) في غابة إيتوري في وسط أفريقيا. إذ يتلقى الأطفال الصغار قدر كبير من الرعاية من قبل أفراد غير امهاتهم.
خلاصة
كل تلك الشواهد والآليات، وغيرها من حالات لا يمكن احصائها تبين ان الانانية في انتخاب الأقارب او الجماعات او حتى الانانية في انتخاب نوع البشر ككل هي الباعث الأساسي لكل عمل خير او شر. هذا هو محور الصراع الطبيعي. وعلى الانسان اختيار افضلهما لضمان بقائه في مجتمع صالح للعيش. ولا داعي للاعتقاد بوجود غيبيات كمنشأ لهذه السلوك، بل هو ضرب من الجنون ان نقوم بتعطيل قدرة ادمغتنا لتحليل الواقع ونوكل كل شيء للغيبيات.
في الحقيقة لا يغطي هذا المقال أكثر من جزء قليل من أساسيات علم النفس التطوري. ولا يمكن شرحه بالتفصيل عن طريق المقالات. إذ يعتمد علم النفس التطوري على الأدلة الحقلية وليست المختبرية. لذا يتطلب الكثير من الشواهد والشرح المفصل لأجل البلوغ إلى برهان آلية معينة.
[ملاحظة: لداوكنز نظرية أخرى أكثر شهرة في شرح الإيثار والتعاطف والطيبة، وهي غير مطروحة في هذا المقال.. المحرر]
المصادر:
Barber, N. (2004). Kindness in a cruel world: the evolution of altruism. NY: Prometheus.
William D. Hamilton, “The Evolution of Social Behavior,” Journal of Theoretical Biology 7 (1964): 1-52.
G. G. Gallup, “Self-Awareness in Primates,” American Scientist 67 (1987): 417-21.
G. S. Wilkinson, “Reciprocal Food Sharing in the Vampire Bat,” Nature 308 (1984): 181-84.
Darwin, Expression of Emotions in Man and Animals. Trivers, “Evolution of Reciprocal Altruism,” pp. 35-57.
D. Symons, The Evolution of Human Sexuality (New York: Oxford University Press, 1979).
K. Ivey, “Cooperative Reproduction in Ituri Forest Hunter-Gatherers: Who Cares for Efe Infants?” Current Anthropology 41 (2000): 856-65.
عاشت ايديكم