أعزائي المستمعين، مرحباً بكم في حلقة أخرى من بودكاست العلوم الحقيقية. في هذه الحلقة، نحاور الأستاذ الدكتور رياض عبد، المختص بالطب النفسي التطوري. مرحباً بكم، دكتور رياض، نستهل اللقاء بسؤالكم عن عملكم وعن نبذة تعريفية بكم.

للاستماع: الطب النفسي التطوري والفصام: لقاء مع د. رياض عبد (الجزء الأول)

في البداية، أود أن أشكرك على الاستضافة وعلى اهتمامك بالطب النفسي التطوري. سأبدأ بتعريفي بنفسي: أنا رياض توفيق عبد، خريج طب بغداد لسنة 1974. بعد أن أكملت الإقامة والخدمة العسكرية، بدأت تدريبي في الطب النفسي في بغداد بمستشفى ابن رشد، ومن ثم سافرت إلى المملكة المتحدة في سنة 1979 لإكمال الاختصاص. عملت هناك في مستشفيات عديدة أثناء تدريبي، من ضمنها في ليفربول وكامبريج.

في سنة 1987، بدأت العمل كاستشاري في الطب النفسي في مقاطعة ساوث يوركشاير، التي تقع في منتصف بريطانيا، حيث عملت لمدة 25 سنة، منها سبع سنوات كمدير طبي لمؤسسة للطب النفسي تقدم الخدمات النفسية لمنطقة يصل عدد سكانها إلى حوالي 0.75 مليون نسمة موزعين على ثلاث مدن. تقاعدت من العمل في الـ NHS، وهي هيئة الصحة البريطانية، في سنة 2012، وبدأت منذ ذلك الحين العمل كاستشاري في وزارة العدل البريطانية كعضو في اللجان الطبية، ولا زلت أعمل في هذا المجال حتى الآن.

بدأ اهتمامي بموضوع الداروينية وعلاقتها بالطب عموماً والطب النفسي خصوصاً في بداية التسعينات، وذلك بمجهود شخصي ومن خلال قراءاتي. منذ ذلك الحين، نشرت عدداً من النظريات حول الجذور الداروينية أو التطورية لعدد من الأمراض النفسية، من جملتها اضطرابات الطعام (eating disorders)، والوسواس القهري (OCD)، والفصام (schizophrenia). ومؤخراً، أنا في صدد نشر نظرية حول الجذور الداروينية للصفات الشخصية (personality traits) عند البشر، والتي ستنشر خلال الأسابيع القادمة.

في سنة 2016، تمكنت بالتعاون مع بعض الزملاء الاختصاصيين في بريطانيا من إقناع الكلية الملكية للطب النفسي بإنشاء قسم للطب النفسي التطوري في الكلية الملكية، وهو أول قسم من نوعه في أي مكان من العالم. أصبحت رئيساً لهذا القسم لمدة أربع سنوات من 2016 إلى 2020، والآن أقوم بدور الرئاسة لهذا القسم لدورة ثانية وأخيرة بدأت في سنة 2024 وستنتهي في سنة 2028. خلال الثماني سنوات من وجود هذا القسم، تمكنا من إقامة ستة مؤتمرات عالمية للطب النفسي التطوري، وهي المرة الأولى التي تحصل في أي مكان من العالم. كانت هناك مؤتمرات مصغرة للطب النفسي التطوري قبل ذلك، لكنها كانت تقام على هامش مؤتمرات أخرى للطب النفسي أو الطب عموماً، بينما نحن عملنا ستة مؤتمرات عالمية دعونا فيها محاضرين من مختلف أنحاء العالم الغربي، لأن هذا الموضوع غير منتشر خارج الغرب.

قمنا برفع قسم من هذه المؤتمرات على اليوتيوب، وهذا إنجاز آخر، حيث لدينا اليوم قناة على اليوتيوب تحتوي على أكثر من 65 إلى 70 محاضرة من أساتذة من مختلف أنحاء العالم. كذلك، نشرت كتاباً عن طريق الكلية الملكية وجامعة كامبريج، وهذه أول مرة تنشر فيها الكلية الملكية كتاباً عن موضوع الطب النفسي التطوري، فهذه نبذة عن نفسي.

ما هو الطب النفسي التطوري؟

دكتور، ربما بدأتم من الأساس في السؤال الثاني الذي كنت أنوي سؤاله، لكن ربما أود أن أضيف بعض التفاصيل لذلك السؤال، وهو أن كثيراً من المستمعين قد لا يعلمون ما هو الفرق بين الطب النفسي التطوري وعلم النفس التطوري. نحن في العالم العربي، أتحدث عن نفسي وعن مجموعة من الشباب في العلوم الحقيقية، كان لدينا اجتماع كبير حول علم النفس التطوري، وتحديداً كتاب ديفيد باس مثلاً. فالسؤال الأول: ما هو الطب النفسي التطوري، وما هو الفرق بينه وبين علم النفس التطوري؟

طبعاً هناك علاقة بينهما، فالطب النفسي التطوري وعلم النفس التطوري يتناولان موضوع وظيفة الصفات النفسية أو السيكولوجية عند الإنسان وجذورها الداروينية، وكيف تعمل هذه الصفات بشكل وظيفي لتساعد على التأقلم والتكاثر. يجب أن نتذكر أن علم التطور هو علم يدرس كيف تساعد الصفات التي تنشأ من خلال العملية الداروينية على البقاء والتكاثر، وهذا هو الأساس.

علم النفس التطوري ينظر إلى كيف نشأت هذه الصفات من خلال عملية التطور الدارويني بالانتخاب الطبيعي، بينما الطب النفسي التطوري يبحث في كيف تحدث اضطرابات في هذه الصفات، وكيف يمكن أن نفسرها بفهم نشوء هذه الصفات الوظيفية. أنا ممكن أتوسع في موضوع ما هو الطب النفسي التطوري وكيف يعطينا فهماً أعمق لماهية هذه الاضطرابات.

ربما، دكتور، الأمر الذي أثار اهتمامي أكثر في أبحاثكم هو وجود الكثير من المجالات المثيرة للاهتمام من حيث علاقة النظرة التطورية بالاعتلال النفسي، لكن الأمر الأول الذي لاحظته هو بحث نشر حول انتشار الفصام وعلاقته بظروف الحياة. يتوارد إلى الذهن أننا نعيش حالياً في زمن وظروف معينة خارج السياق التطوري، وأننا مصممون لشيء آخر. هل يقترح بحثكم أن هناك دوراً مهماً لظروف حياتنا في الإصابة بالفصام في ظل التفسير التطوري، خصوصاً إذا علمنا أن الفصام له أيضاً عوامل جينية؟ هل تجدون أن السياق وظروف حياتنا مؤثرة في هذا المجال من منظور تطوري؟ وبالتأكيد لكم الخيار في تصحيح نظرتي والطريقة التي طرحت بها هذا الأمر، ربما فهمته بشكل خاطئ من بحثكم.

شكراً على السؤال، لكن أتصور أنه إذا أعطيت نبذة عن ما هو الطب النفسي التطوري أولاً، ثم تناولت السؤال الذي يختص بالفصام بالذات، هل هذا ممكن؟ [عمر: أكيد]. أبدأ بما هو الطب النفسي التطوري أو الطب النفسي الدارويني، ببساطة شديدة هو محاولة لفهم جذور الأمراض النفسية والعقلية من خلال قواعد علم التطور الدارويني، أي التطور بواسطة الانتخاب الطبيعي. نقطة البداية في العلوم الداروينية هي أن جميع الكائنات الحية نشأت وتطورت بفعل عوامل طبيعية بحتة، ونشوء الإنسان لا يختلف عن هذا السياق. الإنسان يعتبر في علوم التطور فصيلة من فصائل القرود العظيمة (Great Apes)، والصفات الجسدية والنفسية أو السيكولوجية للإنسان نشأت وتشكلت بفعل عوامل طبيعية تطورية أدت إلى انتخاب هذه الصفات لكونها أكثر نجاحاً من غيرها في البقاء والتكاثر، أو بالأحرى كانت أكثر نجاحاً في التكاثر من صفات مغايرة أثناء التاريخ التطوري السحيق للجنس البشري.

بفعل أبحاث علوم الحفريات وعلوم الجينات، نعرف اليوم أن للإنسان أصلاً مشتركاً مع الشمبانزي قبل حوالي سبعة ملايين سنة، ومع الغوريلا قبل حوالي عشرة ملايين سنة. لكن هذا لا يعني أننا نشأنا من الشمبانزي أو الغوريلا، بل يعني أنه كان لدينا سلف مشترك مع فصيلة الشمبانزي. هذا السلف المشترك انقرض، لكنه شكل سلالتين منفصلتين، واحدة أدت إلى البشر والأخرى أدت إلى الشمبانزي الحالي. وهذا خطأ شائع أننا نشأنا من القرود، لا، لدينا سلف مشترك مع القرود، ولدينا سلف مشترك مع كافة الكائنات الحية، لأننا نعرف أن كافة الكائنات الحية الموجودة في العالم اليوم نشأت من سلف أصلي كان يعيش على الأرض قبل حوالي ثلاثة ونصف مليار سنة. فهي ليست فقط القرود، هناك من يستهزئ بأننا كيف نشأنا من القرود، لا، نشأنا من كائنات أبسط بكثير من القرود.

من المهم أن ننتبه أنه خلال هذه السبعة ملايين سنة منذ انفصالنا عن السلف المشترك مع سلالات الشمبانزي، ظهر 23 جنساً بشرياً أو أكثر، لكن حتى اليوم تمكن العلماء من إيجاد وتحديد 23 جنساً بشرياً في السلالات البشرية ظهرت قبل الهوموسابينس (الإنسان العاقل)، الذي هو الجنس البشري الموجود اليوم، وكل هذه الأجناس انقرضت، ولم يبقَ سوى جنس بشري واحد. لذا، فإن النظر إلى الصفات السيكولوجية بأنها نشأت بفعل عوامل تطورية انتخابية للقيام بوظائف تخدم البقاء والتكاثر، هذه مفاهيم مشتركة بين الطب النفسي التطوري وعلم النفس التطوري.

لكن هذا الإدراك بأن الصفات السيكولوجية تشكلت لأنها كانت أكثر نجاحاً في خدمة البقاء والتكاثر يجعلنا نفهم أسباب وجود هذه الصفات بشكل مختلف أو أعمق. فلا يمكن، برأي الأطباء النفسيين التطوريين، فهم الاضطراب الوظيفي بشكل جيد دون فهم الوظيفة الفسيولوجية التي تشكلت بفعل الانتخاب الطبيعي. إذن، الطب النفسي التطوري والطب التطوري بصفة عامة باستطاعته أن يطرح أسئلة عن الجذور البيولوجية للأمراض والاضطرابات، لأن مضمارنا ليس فقط الوظيفة الفسيولوجية للصفات، وإنما كيف تضطرب وتصبح عبئاً. هذا هو المضمار الذي يشترك فيه الطب كله، لكن الطب التطوري ينظر إلى هذه الصفات من خلال أسئلة تفوق ما يطرحه الطب عموماً.

مثال على هذا الفهم الأعمق هو ما يُدعى بأسئلة تينبرغين الأربعة (Tinbergen’s four questions)، وهو يشكل حجر الزاوية في علوم التطور برأيي، وهناك كثيرون يشاركوني هذا الرأي. نيكلوس تينبرغين (Nikolaas Tinbergen) هو أحد أعلام العلوم البيولوجية في القرن العشرين، وحصل على جائزة نوبل مع اثنين آخرين، وهو من الندرة الذين حصلوا على جائزة نوبل من خلال تفكير تطوري. طرح فهماً للسببية وكيف تساعدنا العلوم التطورية في فهم السببية بشكل أعمق في مجال علوم الحياة. لن أدخل في تفاصيل هذه القواعد، لكن سأعطيها كعنوان، ومن الممكن للمستمعين أن ينظروا فيها ويبحثوا عنها. هذا الفهم الأعمق للسببية هو إحدى فوائد تطبيق العلوم التطورية على الطب والطب النفسي.

أحد المفاهيم التطورية التي تفسر وجود بعض الأمراض هو مفهوم الميس ماتش (mismatch) أو عدم التوافق بين الصفة البشرية التي نشأت بفعل عوامل تطورية وبين البيئة الحديثة. حسناً، إذا كان سؤالك حول الفصام يتناول هذا الجانب، وهو جانب عدم التطابق، وهو مفهوم دارويني بامتياز، فبدون اتخاذ موقف دارويني، يُفهم أن الصفات التي أُنشئت من خلال عملية تطورية انتخابية لا يمكن فهم الميس ماتش أو موضوع عدم التوافق إلا من خلاله.