يعتقد البعض أن العقاقير المخدرة لعبت دوراً لا غنى عنه في تطور الإنسان العاقل
بقلم برايان داننغ تعالوا معنا لنرجع بالتاريخ مليون سنة قبل الميلاد بينما يسير واحد من أشباه البشر الأوائل فوق الطين الجاف المتشقق، والرمح في يديه؛ يلمح أخيراً ما يبحث عنه، قرص صلب من الروث. ينحني إليه فيقلبه ليكشف عن جانبه السفلي الرطب ذا الرائحة اللاذعة، فهناك غاية سعيه، إذ يجد خيطان من الفطر ينتزعهما من الروث ويأكلهما. بعد ساعة من ذلك نجده مرة أخرى، ممداً بين الأعشاب، محدقاً بالشمس والغيوم التي تتراقص فوق رأسه. بوسعه في تلك اللحظة سماع صوت خافت للغاية لحيوان قارض صغير مُكبراً بشكل غريب، فيطلق ساقه ورمحه. صيادنا الشاب اثبت للتو قدرته التي لا تماثلها قدرة بين كل المفترسات على تحويل قوة المهلوسات لصالحه. تطورت بسرعة قبيلته وآباءه من قبله خلال مليون سنة بفضل ذلك حسب ما يدعى اليوم بنظرية القرد الثمل من قبل المؤمنين بها.
هل كان أسلاف البشر الأوائل يعتمدون بالفعل على المركبات المخدرة الطبيعية لتفعيل جزء من أهم تكيفاتهم المجتمعية والفسلجية؟ هناك من يؤمن بأن ذلك لم يكن جزءًا من التجربة البشرية فحسب، بل ربما الجزء الأهم منها.
إذن لننطلق في تحليل مدى صحة نظرية القرد الثمل، لكن أولاً سيكون الأفضل أن ننظر إليها عبر سياقها التاريخي المناسب. نظرية القرد الثمل ليست بالفكرة الخارجة من عالم الآثار أو الأنثروبولوجيا الثقافية؛ في حقيقة الأمر لن تجد لهذهِ النظرية ذكراً في الكتب المنهجية لهما. المفهوم نوقش وتم تدعميه داخل مجموعات المدافعين عن تشريع المواد المخدرة، ومنذ مطلع التسعينات فقط. أنها ليست نظرية رسمياً بالمعنى الدقيق للكلمة، هي في واقع الأمر نظرية فضفاضة، وهي ليست بالفرضية حتى. تم تقديم فكرتها في العام 1992 عبر كتاب طعام الآلهة للمرشد تيرانس مكينا.
على الرغم من أن تيرانس مكينا يوصف عادة بأنه عشاب شعبي، إلا أنه لم يتلق تعليماً رسمياً أو أي شهادة في هذا المجال. لقد بدأ بدراسة تاريخ الفن في جامعة بيركلي لكنّه سرعان ما ترك الجامعة ليجول العالم بحثاً عن الأعشاب المخدرة، رحلة قادته إلى إندونيسيا، والأمازون وعمل حتى كمهرب للحشيش في التبت. في تلك الرحلات طور اهتمامه المكثف الطويل بالمهلوسات والماريجوانا والتقاليد الشامانية. أغلب عمله كان نشاطاً غير قانوني تمثلَ في إكثار وبيع الفطر المخدر في هاواي. تزايدت شهرته في العام 1990 كمرشد ومتحدث للعامة للدفاع عن حيازة المخدرات، وغالباً ما يشار إليه بوصفه رجل الدولة البديلة. مما مكنّه من كتابة ونشر كتب متداولة بشكل جيد.
قدم في كتابه طعام الآلهة فكرة أن استخدام فطر السيلوسيبين الموجود بكثرة في السافانا هو الذي مكن الإنسان الأول من التفكير بشكل مجرد، لتطوير مهارات وأفكار معقدة بضمنها اللغة والدين، وهو ما ساهم في نجاحه البايولوجي ليعزز قدراته الجنسية وقدرته على التركيز بعمق على النشاطات الداعمة للحياة كالصيد.
تحدث حالة إلغاء للقيود والمحرمات لدى الجماعات القبائلية الشامانية في حالات الانتشاء بالمهلوسات من أجل زيادة الترابط الاجتماعي عبر النشاط الجنسي الجماعي، لتعزيز التخالط الجيني وزيادة معدل الولادات والإحساس المشترك بالمسؤولية عن نسل الجماعة. أي كانت جرعة الفطر المستخدم، فقد كانت له الخاصية السحرية لمنح فوائد التكيف لمستخدميه القدامى وجماعاتهم. زيادة في حدة البصر والشهوة الجنسية والتواصل العالي مع الآخرين مما ساهم في نجاح فعاليات جمع الغذاء والبراعة الجنسية وقوة الاحتمال ووفرة النسل، والوصول إلى عوالم القوى الخارقة.
وضح مكينا فكرته بحكاية زاخرة بالخيال عن فتى بدائي في السافانا، ارتقت حواسه بفضل المواد المخدرة، فصار يطارد ويقتل الأسود العظيمة، ليملأ بذلك بطون قبيلة بأسرها:
“هذا المثال يوضح كيف أن مجرد اكتشاف نبات مفيد -محفز ذهني قوي في هذا المثال- يمكن إدخاله في النظام الغذائي، سيكون مفيداً في التكيف. يمكن للنبات منح القوة واليقظة وبالتالي ضمان نجاح الصيد وديمومة موارد الغذاء. الفرد أو المجموعة صارا أقل عرضة لخطر عوامل بيئية معينة، كانت تقلل من معدل حياة الفرد في السابق، وهكذا يزداد عدد السكان بالمجمل… ومثلما تصالح الإنسان في القرن التاسع عشر مع فكرة الانحدار من القردة العليا، يجب أن نتصالح مع حقيقة أننا نحدر من قردة عليا استخدمت المخدرات، نشوة الخدر هذهِ تبدو كميزتنا الفريدة. “
واحد من أهم افتراضات مكينا أن دماغ أسلاف الإنسان قد تضاعف حجمه ثلاثة أضعاف في طور ثلاثة ملايين سنة، زاعماً أن العلماء عجزوا عن تفسير علة هذهِ الزيادة، فيم تمكن هو من ذلك. يكتب مكينا:
“خاصية الهلوسة موجودة في العديد من النباتات الشائعة، وقد طورت من فاعلية استيعابنا للمعلومات، أو ما يعرف بالحساسية البيئية، وساهم ذلك بالتمدد المفاجئ لحجم دماغ الإنسان. في مرحلة متأخرة من العملية ذاتها، عملت المهلوسات كمحفز لتطور المخيلة، موفرة الوقود الكافي لخلق التخطيط الداخلي والآمال التي ربما تظافرت لتمهد لنشأة اللغة والدين”
ما يزعمه ماكينا عن تضاعف حجم الدماغ ثلاث مرات خلال ثلاثة ملايين سنة صحيح نسبياً؛ ضمن التباين الطبيعي للجماجم الأحفورية ومدى الزمن الذي وجدت فيه الأنواع المختلفة؛ القردة الجنوبية (قردة أناسية مبكرة) كان معدل حجم أدمغتها 400 إلى 500 سم مكعب، بينما متوسط حجم دماغ الإنسان الحديث 1350 سم مكعب. معظم الأشخاص الذين يتداولون نظرية مكينا لا يبدو أنهم قد قرئوا كتابه؛ فهم دائماً ما يقولون إن دماغ الإنسان قد تضاعف حجمه خلال مليوني سنة، لكنّه في حقيقة الأمر كتب:
“في نهاية ثلاثة ملايين سنة مميزة من التطور في النوع الإنساني، تضاعف حجم دماغ الإنسان 3 أضعاف. “
وهذا حقيقي في الواقع. لكنّه أخطأ في زعمه أن العلماء ليسوا قادرين على تفسير الزيادة؛ طهي الطعام لجعله مغذياً أكثر، ظهور الإبهام المتقابل، وعوامل أخرى اعتبرت منذ زمن طويل عوامل محفزة لهذا النمو. وفي الوقت الذي كان مكينا يكتب كتابه، كان علماء الأنثروبولوجيا يؤكدون على هذهِ الأفكار فيما يُعرف بنظرية الأنسجة الباهظة، والتي توفر توضيحاً أيضياً وكيميائياً لسبب تمكن أسلاف الإنسان من تحمل الاحتياج العالي للطاقة من أجل دماغ أكبر مع بقاء موارد الطاقة على حالها، وذلك بتقليص حجم الأمعاء، وهو أمر صار ممكناً بعد طهي الطعام مما جعل عناصر التغذية فيه أكثر وفرة.
من خلال النماذج الحيوانية تم إثبات أن الدماغ والأمعاء أكثر الأنسجة المكلفة للطاقة في الجسد، من حيث الطاقة اللازمة لعملهما. في كل الأنواع التي تمت دراستها تقريباً نجد علاقة عكسية بين حجم الدماغ وحجم الأمعاء فما إن يتمدد واحد منهما حتى يتقلص حجم الآخر، والعكس صحيح. يعتمد حجم الأمعاء على نوعية الغذاء. الغذاء عالي الجودة يعني أنك قادر على النجاة بأمعاء صغيرة، لذا فإن الطاقة المتبقية يمكنها أن تشغل دماغاً أكبر؛ أما الطعام الرديء الجودة فيحتاج لأمعاء أكبر لهضمه، مما يبقي على طاقة أقل لا تكفي إلا لتشغيل دماغ صغير. فكر ببقرة تأكل الحشائش وهو غذاء مريع يكاد يخلو من المغذيات. لذا فإنها تحتاج لأربع معد ضخمة ونظام تغذية ضخم وطويل، أنسجة تستهلك الطاقة بمعدل كبير، فلا يبقى لها سوى دماغ صغير. بينما الإنسان يتناول طعاماً أكثر وفرة بالطاقة، مما يسمح لجهازنا الهضمي أن يكون صغيراً وموفراً للطاقة، ليترك الباقي منها لتغذية أدمغتنا الكبيرة. الفئران قوارض ذكية للغاية، وليس من باب المصادفة أن تنشد طعاماً أكثر وفرة بالمغذيات مما يتناوله الأرنب.
وهكذا نتبين أن نظرية مكينا لا حاجة لها على الإطلاق لتفسير نمو الدماغ، وكل ما صاحبه من تطورات أدت لنشوء الإنسان العاقل. فكرة مكينا تجيب على أسئلة تمت الإجابة عليها مسبقاً بأجوبة أفضل، لكنها لم تكن معروفة عنده لافتقاره للخبرة بالموضوع لا غير.
المتابعون القدماء لا بد أن تقفز إلى أذهانهم تشابه هذهِ النظرية مع أفكار كنت قد ناقشتها من قبل. الأولى وهي الأكثر وضوحاً نظرية القرد المائي، وهي نظرية أخرى عن تطور الإنسان قدمها أشخاص لا خبرة عندهم من أجل الإجابة عن أسئلة تمت الإجابة عنها مسبقاً. تم تقديم الفرضية أولاً من قبل خبير بالنظم البيئية البحرية، وأشاعتها كاتبة سيناريو فيما بعد، تساءلت النظرية لم لا يملك الإنسان فرواً، وكيف نتمكن بشكل واعِ من حبس أنفاسنا، وقد خلص صاحب النظرية للاستنتاج بأن التفسير الأكثر ترجيحاً أننا كنا كائنات مائية فيما سبق، أشبه بالدلافين والفقمات. وقد نالت الفكرة اهتماماً بعد أن سمح القائمون على منصة تيد لكاتبة السيناريو بتقديم محاضرة للترويج لهذهِ الفكرة، وقد قدمت في المحاضرة كل الشكاوى المعتادة عن التآمر كسبب لعدم أخذ العلم لنظريتها بعين الاعتبار. كان الترويج كبيراً بما يكفي لإقناع قناة انيمل بلانت (Animal Planet) أن تعتمد النظرية في فيلمها الوثائقي الزائف (حوريات البحر: الأدلة الجديدة)
المسألة مسألة وقت غالباً قبل أن تقوم قنوات العلوم الزائفة بترويج نظرية القرد الحشاش. كلتا النظريتين مثال على الرؤية المتكونة بلا دراية مسبقة، لذا فكلتاهما تجانبان الصواب كما يقول المنطق؛ ورغم ذلك يتم الترويج لهما بوسائط الإعلام لإغواء الجماهير المتعطشة للإثارة.
أما النظرية الثانية المقاربة التي تطرأ على بال المتابع، فهي نظرية المؤامرة القائلة بأن جمعية سرية من الصناعيين وبضمنهم وليام راندولف هيرست كانت مسؤولة عن تدمير صناعة القنب الأمريكية، مما أضاع علينا منتجاً عجيباً هو أفضل مادة خام ممكنة لأي حاجات صناعية. نقطة التماثل هنا أن لدينا مجموعتين متشابهتين من الناشطين يفضل كل واحد منهم عقاراً محدداً للترويح عن النفس، لدرجة أنهم على استعداد لتقديم ادعاءات غير صحيحة عن معاجز ذلك العقار، لكنهم يأملون في التأثير على الآخرين لصالح قضيتهم. ادعى عشاق الماريجوانا أن القنب الذي تستخرج منه، يفيد في صناعة أفضل الأقمشة والأوراق والحبال والزيوت في العالم، لذلك يجب علينا تشجيع زراعته؛ وزعم الأشخاص المخدرون أن فطر عش الغراب السحري حفز خطوة مهمة في تطور الإنسان من خلال شحذ حواسنا وتوسيع عقولنا، لذلك يجب علينا تشجيع نشره واستخدامه.
ومع ذلك، فإن تكديس الادعاءات الكاذبة ضار بكلا القضيتين في الواقع. الماريجوانا شائعة جداً، ولا تسبب أي آثار ضارة مثل بدائلها كالكحول وغيرها، كما أنها تمنح راحة مؤقتة لبعض الذين يعانون من الألم المزمن والاكتئاب. هذه حجج صحيحة ويمكن الدفاع عنها. ولكن عندما تضيف حججًا غير صالحة ولا يمكن الدفاع عنها – كأن تقول إنها تشفي من المرض، ومنها تُصنع أفضل الحبال – فإن حجتك ضعيفة بالمجمل. الشيء نفسه ينطبق على المواد المهلوسة المخدرة. آمان مادة معينة وتعزيزها للخيال وللإبداع والبصيرة ليست محل نزاع ويمكن أن تقف بمفردها كحجج لصالح استخدام العقار؛ لكن محاولات تدعيم القضية بالهراء، كالقول أنها كما السبب الجذري لكل ما يفصل البشر عن الحيوانات تجعل الحجة بأكملها طفولية وسخيفة.
يُحسب لماكينا أنه لم يزعم أن نظرية القرد الثمل صحيحة بالضرورة؛ بعد صدور الكتاب، كان دائماً ما يصرح أنه أعطى نقطة للتفكير بها. وهي بالتأكيد مغامرة فكرية مثيرة للاهتمام. لكنها أيضًا تذكير جيد لنا، عندما تبدو فكرة من أفكارك جيدة، يجب أن يقيم تلك الأفكار أشخاص يعرفون أكثر بكثير مما نعرفه في المجال ذي الصلة. هناك احتمالات بأن هناك شيء لنتعلمه. عندما نتحدث فقط ونفشل في الاستماع فإننا نسير على أرض خطيرة؛ ونظرية القرد الثمل نشأت من مثل هذه الأحوال. يجب أن نتعلم من الملاحظة أنه ليس جزءًا من الأنثروبولوجيا. لم يكن لدى ماكينا فرصة كبيرة للحصول على تعليقات كهذه على ما قدمه، لأنه توفي في سن صغيرة جدًا بسبب سرطان الدماغ بعد سنوات قليلة فقط من نشره “طعام الآلهة” (لا ، لم يكن للمرض علاقة بتعاطي المخدرات). كانت أهم مساهماته في الدفاع عن حق تداول العقاقير، وله مكانة محترمة في هذا المجال. من المحتمل أن نتذكره هناك، وليس في سجلات الأنثروبولوجيا.
المقال الأصلي:
Brian Dunning, The Stoned Ape Theory, Skeptoid, June 30, 2020