منطلقاً من أحد أهم مجالات دراسته، الموت الخلوي، يأخذنا الدكتور محمد الربيعي البروفيسور في جامعة كلية دبلن برحلة في أسباب الشيخوخة وفهم ماهية الشيخوخة ومن ثم محاولة الإجابة على الأسئلة المختلفة المتعلقة بها. لماذا نشيخ؟ كيف تؤثر الهرمونات والأدوية والرعاية الصحية والتكنولوجيا والتغذية  والوراثة ..الخ في ما يمكن أن نبلغه من عمر؟

ما يبدو بديهياً لنا حول ماهية وسبب الشيخوخة لا يبدو بتلك البساطة علمياً. “هناك أكثر من 300 نظرية علمية حول سبب تقدمنا في العمر” يخبرنا د. محمد الربيعي، مع إمكانية طرح نظريات أخرى في ظل الاكتشافات الجديدة. وما يعد أعقد من ذلك هو الجوانب العديدة للشيخوخة فهل نتكلم عن الخلايا؟ أم عن عضو معين في الجسم أم عن هيئتنا الخارجية أم عن الدماغ؟

الشيخوخة المبرمجة هي إحدى أبرز النظريات التي يشرحها الكتاب والتي تشرح الشيخوخة. وفقاً لتلك النظرية فإن العوامل التي ستقود لشيخوخة الإنسان محددة سلفاً بواسطة جيناته. لكن تلك النظرية هي ليست الوحيدة حول الجينات، ترى نظرية الجينات أن تغير عمل جينات معينة قد تتوقف أو تعمل خلال مسيرة العمر تعد المسبب للشيخوخة مع التقدم بالسن. توجد نظريات أخرى تتحدث على مستوى آخر مثل نظرية الغدد الصماء التي تعزو الشيخوخة للتغيرات الهرمونية في الجسم. كما تعزو نظرية أخرى الأمر إلى انخفاض المناعة مع التقدم في السن مما يتسبب بالمرض والشيخوخة. يطرح الكتاب أيضاً نظريات مثل ما يعزو الشيخوخة لتراجع وظائف الخلايا الجذعية في الجسم أو للجينات التي قد تطيل العمر.

لكن ليست جميع النظريات حول الشيخوخة متمركزة حول الأسباب الداخلية للشيخوخة، إذ يأخذنا الكتاب نحو نظريات أخرى ترتكز على الأضرار الحاصلة على الجسم بمرور السن من العوامل الخارجية كالاحتكاك والأضرار والأمراض. ولا يسعنا إلا أن نترك بعضاً من التشويق في الاطلاع على بقية النظريات في الكتاب. لكن لاختصار الحقائق حول دور الوراثة وأسلوب الحياة ننقل الاقتباس التالي من الكتاب:

“قدَرت دراسات التوأم أن ما يقرب من 20-30 ٪ من عمر الفرد يرتبط بالوراثة، والباقي يرجع إلى السلوكيات الفردية والعوامل البيئية التي يمكن تعديلها. بالإضافة إلى ذلك، وجد أن نمط الحياة لا يلعب تقريباً أي عامل في الصحة وطول العمر بعد سن الثمانين، وأن كل شيء تقريباً في سن متقدمة يرجع إلى عوامل وراثية”

ربما تتسائل حول دور الجنس إذا ما كان هناك صحة لنمط ثقافي قادم من الأمثال والحكايا الشعبية بأن النساء تعمر أكثر من الرجال. هذا صحيح كما يؤكد لنا الكتاب. لكن لماذا؟ أول الأسباب هي صغر حجم الجسم نسبياً بمقارنة النساء مع الرجال مما يقلل الضغط على القلب. وثانياً يعمل التستوستيرون – الهرمون الذكري – كمثبط للمناعة وهو موجود بنسبة أقل بكثير لدى النساء مما يجعل أنظمتهن المناعية أقوى. يضاف لذلك قلة الانخراط في الأنشطة الجسدية الخطرة.

بالمقابل يذكر الكتاب دراسات حول العوائل طويلة العمر لبحث أثر الوراثة. يتضح أن هناك العديد من الحالات التي لا يشترك بها الأشخاص من نفس العوائل طويلة العمر كالاكتئاب والسكري والزهايمر، لكن هناك حالات مثل هشاشة العظام والتهابات المفاصل بنفس الشكل الذي يميل فيه هؤلاء لقلة الإصابة بالسكري والزهايمر وفشل القلب. يذكر أن هناك قلة من الأشخاص الذين تم توثيق بلوغهم عمر أكثر من 114 سنة، تحديداً ثلاثة فقط.

في فصل لاحق يتناول الكتاب بالتفصيل بعض العوامل الرئيسية التي تمت دراستها وتشخيصها في الأفراد والعوائل المعمرة والتي يعتقد أنها تساهم في إطالة العمر. بعض تلك العوامل قد تبدو خلوية وجينية ولا تعني الكثير لمفهومنا للأمراض لكنها مفصلية في الكثير من الوظائف الحيوية مثل عامل نسخ (FOXO3A) الذي يلعب دوراً في دورة حياة الخلية والموت الخلوي والأكسدة وغيرها. يعد الجين المرتبط بهذا العامل من جينات إطالة العمر.

ويتناول فصل آخر ما يعرفه الكتاب بـ “عدم الاستقرار الجيني” متمثلاً بالضرر الحاصل على الحمض النووي اثناء الحياة والمتسبب بخلل لاحق:

“يتعرض الحامض النووي باستمرار لمصادر مختلفة من الأضرار، خارجية المنشأ مثل الأشعة فوق البنفسجية والمواد الكيميائية والفيروسات ومسببات داخلية المنشأ مثل أنواع الأوكسجين التفاعلية والألدهيدات وأخطاء النسخ المتماثل. وللحفاظ على سلامة الجينوم، طورت الخلايا آليات معقدة لإصلاح الحمض النووي وللإستجابة للتلف التي يمكنها اكتشاف وتصحيح أنواع مختلفة من الآفات. ومع ذلك، فإن هذه الآليات ليست مثالية وقد تفشل في إصلاح كل الضرر أو إدخال أخطاء أثناء العملية.”

يتحدث ذلك الفصل عن الآليات الخلوية التي تصلح تلك الأضرار والتي تساعد في الاستقرار الجيني للخلايا.

هل سنعيش لأعمار أطول في المستقبل؟ من جهة يبدو أن نمط الحياة الحديث قد ساهم في زيادة نسبة الإصابة ببعض الأمراض، لكن من جهة أخرى فإن التنقيات الحديثة لعبت دوراً ايجابياً جداً. اللقاحات وعلاج الأمراض المزمنة والأجهزة المساعدة لكبار السن وأنظمة المعلومات والمضادات الحيوية والأدوية، كل تلك التقنيات لعبت دوراً شديد الأهمية في إطالة اعمارنا بشكل غير مسبوق في هذا العصر ويتكلم الكتاب بإسهاب عن دور كل من تلك التقنيات.

وبينما تبدو تقنيات كاللقاحات سليمة وخالية تقريباً من المخاطر بعيدة الأمد فإن الكتاب يذكر لنا كيف لمقاومة المضادات الحيوية، التي يعد أثرها محموداً بالمجمل، أن تتسبب بفاجعة مستقبلية. يذكر الكتاب مثلاً توقع 10 ملايين وفاة نتيجة مقاومة المضادات الحيوية بحلول العام 2050. غير أن الكتاب يناقش الكثير من الأنظمة والأفكار لتقليل مخاطر كهذه ويعد هذا الجانب من الجوانب المثيرة للاهتمام في الكتاب والتي نتركها لمن يقتني الكتاب ويقرأه. ويلخص الأثر الرائع للمضادات الحيوية بما يذكره الكتاب:

“توفر بعض الإحصائيات حول كيفية زيادة العمر المتوقع نتيجة التطعيم واستخدام المضادات الحيوية. على سبيل المثال، وفقاً لـ Interplex، ارتفع متوسط العمر المتوقع من 45 عاماً في عام 1850 إلى ما يقرب من 80 عاماً في السنوات الأخيرة”

أما اللقاحات فنقرأ: “تمنع اللقاحات ما يقدر بنحو 2 ـ 3 مليون حالة وفاة كل عام“. ويضاف لرصيد المضادات الحيوية الإجهاز التام على الجدري وشلل الأطفال والدفتيريا والكزاز والحصبة. فضلاً عن انخفاض وفيات الأطفال بنسبة 50% في جميع أنحاء العالم نتيجة اللقاحات.

نرى من ذلك وحين نقرأ كل تلك الفوائد للمضادات الحيوية واللقاحات كيف أن رحلة إطالة العمر من خلال المعرفة العلمية قد قطعت أشواطاً من الأساس حتى الآن.

يشرح الكتاب بعدها عن دور الخلايا الجذعية في إطالة العمر. بعد شرح علمي لماهية الخلايا الجذعية ودورها نتعلم كيف أن الخلايا الجذعية يمكن أن تستخدم في استبدال الخلايا المعمرة والتالفة طيلة الحياة وكيف يمكن أن تعدل الآثار السلبية للشيخوخة. وبذلك يمكن للخلايا الجذعية أن تعد من الآمال الكبرى للبشرية في مواجهة الشيخوخة. أما عن الشرح الدقيق لإحدى الآليات التي يمكن أن تساهم فيها الخلايا الجذعية بإطالة العمر:

“على سبيل المثال، التيلوميرات هي هياكل واقية في نهايات الكروموسومات والتي تقصر مع كل انقسام خلوي. يؤدي تقصير التيلومير إلى الشيخوخة الخلوية أو موت الخلايا المبرمج، مما يساهم في الشيخوخة والأمراض المرتبطة بالشيخوخة. يمكن للخلايا الجذعية أن تحافظ على طول التيلومير عن طريق التعبير عن الإنزيم تيلوميراز، وهو إنزيم يضيف تكرارات تيلوميرية إلى نهايات الكروموسوم.”

يتناول الربيعي في فصل من الكتاب دور التيلوميرات في الشيخوخة ويذكر دراسته مع علماء آخرين التي تناولت الإفراط في التعبير عن انزيم النسخ للتيلوميرات وبحثت الأسباب التي يمكن أن تؤدي إلى مقاومة التيلوميرات للإجهاد وتلف الحمض النووي. كما تناول الفصل العوامل المختلفة التي تؤثر على طول التيلوميرات.

من الانتصارات الطبية للخلايا الجذعية والتي يذكرها الدكتور محمد الربيعي عمليات استبدال الخلايا المنتجة لخلايا نخاع العظم في شخص مصاب باللوكيميا بخلايا جذعية من نخاع عظم شخص سليم أو من المريض نفسه أو من خلايا دم الحبل السري. تمكن تلك الآلية من استعادة الوظائف الطبيعية للدم اثر الإصابة بسرطان الدم، اللوكيميا. يذكر أيضاً حالات قصور القلب واصابات النخاع الشوكي ومرض كرون وكلها مما يمكن القول أن الخلايا الجذعية قد ساهمت فيها أيضاً بإطالة أعمار البشر.

ثم يعرج الكتاب على العلاج الجيني الذي يمكن أن يعالج خلايا السلالة الجرثومية، وهي الخلايا التي تنشأ في الأمشاج ثم تمرر إلى الأبناء، أو يمكن أن يعالج الجسم من خلال إنتاج ما يمكن زراعته لاحقاً في جسم المريض. ويذكر الكتاب كيف يمكن لتقنيات العلاج الجيني أن تسهم في إطالة العمر بشكل غير مباشر من خلال معالجته للأمراض أو بشكل مباشر من خلال معالجة ما يعرف بالأمراض المتأخرة متعددة الجينات كالزهايمر والسكري من النوع الثاني وسرطان الثدي. كما يتناول الكتاب انتصارات الطب في العلاج الجيني على أمراض عديدة كالضمور العضلي النخاعي والهيموفيليا.

الأعضاء والأنسجة الصناعية والمؤشرات الحيوية والأجهزة الطبية وتقنيات التصوير والتشخيص الطبي هي تقنيات أخرى يتناولها الكتاب ونترك استكشافها للقارئ مما يرى الكاتب أن لها دور في إطالة أعمار البشر بطرق مباشرة وغير مباشرة أيضاً.

العامل الآخر الذي يتناوله الكتاب هو موت الخلايا المبرمج ودوره في إطالة العمر والشيخوخة. يمكن للآليات الخلوية المسؤولة عن التخلص من الخلايا التالفة أن تلعب دوراً مثلاً في إطالة العمر وأن تعزز طول العمر اذا ما كانت تلك الآليات فاعلة بشكل جيد. بقاء الخلايا التالفة يمكن أن يتسبب بالسرطان أو بتلف الأنسجة. ومن جهة أخرى نقرأ “في الديدان والذباب، يمكن أن يؤدي تثبيط موت الخلايا المبرمج إلى زيادة العمر الافتراضي عن طريق منع موت الخلايا خارج الرحم في الجهاز العصبي.” يخصص الكاتب أيضاً فصلاً حول بالسرتوينات (Sirtuins) وهي عائلة من الجينات والبروتينات المنظمة للشيخوخة الخلوية والاستقرار الجيني للخلايا.

أما الهرمونات، فعلى رأسها يأتي هرمون النمو الذي يتناقص مع التقدم في السن ويؤدي إلى انخفاض مستويات عامل النمو الشبيه بالإنسولين ومن ثم يرتبط ذلك بزيادة نسبة الدهون في الجسم وانخفاض نسبة العضلات وغيرها. كما ذكرنا أثر الهرمون الذكري سابقاً على المناعة لكن في الفصل الذي يخصصه الكاتب للهرمونات فهو يسرد المزيد حول الهرمونات الجنسية ومجاميع أخرى من الهرمونات.

لا يسعنا أن نغطي كل ما في الكتاب فهذه نبذة موجزة جداً، لكن في النهاية نعود للسؤال: هل يمكن للإنسان أن يعيش مئتي عام؟ ومتى؟ ليس هناك إجابة واضحة من الجولة التي يأخذنا الكتاب بها في البحث العلمي. هناك حالات إطالة مرتفعة جداً في الديدان على المستوى المختبري لو قورنت بالبشر لأصبحت مئات السنين. يمكن أن نتخيل جميع التقنيات والآليات التي ذكرها الكتاب وماذا لو بلغت أقصاها فهل سنصل لـ 200 عام؟ يتوقف الكاتب هنا ويأخذنا حول عواقب إطالة العمر، كيف ستتوزع الموارد حينها؟ وكيف ستتغير قيمنا التقليدية حول الأسرة والمجتمع ونظرتنا للحياة وقيمتها؟ وربما نضيف لتلك التساؤلات، كيف ستتوزع إطالة العمر تلك لو حدثت بين أبناء الكوكب ونحن نرى تباين متوسط العمر بين الدول المختلفة ومستويات الدخل المختلفة.

 

تفاصيل الكتاب:

لندن للطباعة والنشر

www.londonbook.uk

هاتف: 00442072899000

يمكن الحصول على الكتاب من امزون: Amazon.co.uk

Can Humans Live 200 Years?