المحامية: نور جواد الدليمي
في مدينة مثل بغداد، التي تختلط فيها الأساطير بالواقع، لا تحتاج القصص الغريبة وقتاً طويلاً لتصبح “حقائق شعبية”. وما إن أعلنت وزارة الداخلية قبل سنوات قليلة القبض على ثلاثة متهمين دخلوا إلى مكتب صيرفة وسرقوا ثلاثة آلاف دولار بعد أن “نوّموا” صاحبه مغناطيسياً، حتى عمّت القصة كل زقاق، وتحوّل الأمر إلى حديث الشارع. بدا وكأن بغداد أصبحت مسرحاً لأساليب سرقة خارقة، يكفي فيها أن يحدّق الجاني في ضحيته أو يلمس رأسه بخاتم، حتى يخضع المسكين لفعل لا يملك مقاومته.
ثم جاءت حادثة اخرى احدث منها والتي رواها تاجر الإطارات في منطقة الكرادة لتصبّ الزيت على نار الخرافة. رجل مجهول يدخل المحل، يشتكي أنه لا يملك المال، فيمنحه صاحب المحل البطارية “من دون مقابل”. يقترب الرجل، يضع خاتمه على رأس التاجر ويقبله، ثم يطلب منه محفظته… فيسلّمها بيده، وكأنه فاقد السيطرة على تصرفاته. وحين أدرك أنه خسر أربعة آلاف دولار ولم يبق في محفظته سوى مبلغ زهيد، لم يجد تفسيراً إلا “التنويم المغناطيسي”.[1]
وفي محكمة الكرادة جاءت حادثة ثالثة أكثر غرابة في عامنا هذا 2025: متهم أُوقف وفي ذراعه حجر “مزروع تحت الجلد” يدّعي أنه يستخدمه للتنويم. غير أن المحكمة أدانته لا لأنه يملك قدرة خارقة، بل لأنه محتال يستغل جهل الناس وخوفهم، فصدر الحكم بحقه وفق المادة (456) من قانون العقوبات والخاصة بالاحتيال. وفي محافظة كربلاء ألقت الداخلية القبض على عصابة مشابهة ظهرت في أحد المقاطع وهي تأخذ المال من جيب الضحية دون مقاومة. لكن التحقيق أثبت أن الضحية لم يكن “منوّماً”، بل وقع ضحية خفة يد مدروسة وربما مواد مؤثرة على الوعي.[2]
هذه الوقائع الثلاث، على غرابتها، تشترك في شيء واحد: لا دليل فيها على وجود أي قدرة خارقة اسمها التنويم المغناطيسي الإجرامي. ما يحدث ليس سحراً، ولا قهراً لإرادة الإنسان، بل هو أشبه بمشهد يتقاطع فيه جهل الضحايا، مع براعة المحتالين، مع قوة الإيحاء النفسي التي يمكن لأي شخص أن يسقط فيها تحت الضغط أو المفاجأة أو الخوف.
ولكي نعرف الحقيقة بوضوح، لا بد من العودة إلى العلم، لأن الخرافة لا تُهزم إلا بالدليل. يقرر كتاب أشهر 50 خرافة في علم النفس،[3] وهو من أهم المصادر العلمية في هذا المجال، أن الفكرة التي تقول إن التنويم المغناطيسي يسلب الإنسان وعيه، ويجعله يسير بلا إرادة، وينفّذ ما يُطلب منه بلا اعتراض، هي فكرة لا أساس لها من الصحة. التجارب العلمية المتراكمة أثبتت أن الشخص المنوّم يكون في حالة يقظة تامة، وأنه قادر على رفض الإيحاءات، ولا يقبل بأي تصرف يناقض قيمه أو منطقه. الإنسان تحت التنويم لا يتحول إلى روبوت، ولا يمكن دفعه لارتكاب فعل يرفضه. بل إن كل ما يرتبط بالتنويم من “معجزات” يمكن تنفيذه عبر الإيحاء وحده، دون أي تنويم حقيقي.
حتى تلك الفكرة المثيرة التي تقول إن التنويم يضع الإنسان في “غشية” أو “حالة وعي مختلفة”، فقد فندها العلماء من خلال دراسات الدماغ. موجات الدماغ أثناء التنويم لا تشبه النوم إطلاقاً، بل تشبه اليقظة الطبيعية تماماً، وكل ما يحدث هو زيادة مؤقتة في التركيز، وليس تبدلاً في الوعي. وحتى من يعتقدون أنهم دخلوا حالة “غشية” يتبين لاحقاً أنهم لم يمرّوا بأي شيء مختلف عن اليقظة.
هذه الحقائق تجعل من المستحيل – علمياً – أن يتعرض شخص لسلب إرادته بحيث يسلّم أمواله بيده لمجرم. إذن كيف تحدث هذه السرقات إذن؟ الجواب يكمن في النفس البشرية، لا في قوى خارقة. في لحظة المفاجأة، قد يتجمّد الدماغ لثوانٍ، وهي ظاهرة موثقة في علم الأعصاب تُعرف بـ Freeze Response. في هذه اللحظة الخاطفة، قد يستجيب الشخص لأي طلب دون وعي كامل.[4] يضاف إلى ذلك الخجل الاجتماعي الذي يجعل كثيراً من الاشخاص يترددون في الرفض المباشر، فتراهم يستجيبون بحكم العادة والعطف. وفي حالات أخرى، قد تُستخدم مواد مخدرة خفيفة لا تذهب بالوعي كلياً، لكنها تشوّش الإدراك، فيبدو الضحية كأنه يعمل “تلقائياً”.
هذه التداخلات النفسية، مع أساليب خفة اليد والحركة السريعة والإيحاء اللفظي، تخلق المشهد الكامل الذي يخاله البعض “تنويماً مغناطيسياً”. لكنه ليس سوى احتيال ذكي يستهدف ثغرات الإنسان النفسية.
من الناحية القانونية، لا يعترف القانون العراقي بأي شيء اسمه “التنويم المغناطيسي” كسبب لإسقاط المسؤولية. فالقانون لا يحاسب خرافة، بل يحاسب فعلاً. وما دام الجاني قد استخدم وسيلة خداع، أو إيحاء، أو مادة، أو حركة مضللة للحصول على المال، فإن الفعل يعدّ احتيالاً وفق المادة (456) من قانون العقوبات، أو سرقة، أو حتى استخدام مواد مخدرة حسب ملابسات القضية. القضاء العراقي حتى الآن لم يسجّل حالة واحدة ثبت فيها أن الضحية خضع لتنويم مغناطيسي بالمعنى العلمي.
وقد يكون من الطريف – والسّاخر في الوقت ذاته – أن نتساءل: إذا كان التنويم المغناطيسي قادراً على سلب الإرادة فعلاً، فلماذا لا يوجّه المنوّمون المغناطيسيون قوتهم “الخارقة” نحو أصحاب الثروات الكبيرة، أو السياسيين، أو المسؤولين؟ كيف يعقل أن تكون “قوة” بهذا الحجم محصورة في سرقة صاحب صيرفة أو محل لبيع الإطارات؟ ومن باب الطرافة أيضاً، فإنني أصرّح – مازحةً – أنني اتحدى أي “منوّم مغناطيسي محترف”، لنرى إن كان قادراً على سرقتي عبر التنويم وحده دون خداع أو مخدر أو حركة يد سريعة بل يظهر قدراته الخارقة لاعطيه المال بارادتي، وأعدُ بعدم تقديم شكوى إن نجح. لكنني مطمئنة إلى أنني لن أخسر ديناراً واحداً … لأن العلم ببساطة يقول إن هذا مستحيل.
الحقيقة التي تكشفها كل هذه الوقائع، وكل الدراسات العلمية، أن البشر ليسوا ضحايا “قوة خارقة”، بل ضحايا الإيحاء والخوف وضعف الوعي. وأن أقوى سلاح يمكن أن يحمي الناس من هذه الظاهرة ليس الشرطة وحدها، بل فهم علمي واضح يطيح بالخرافة ويمنح الناس مناعة ضد الخداع. وفي نهاية المطاف… السحر الحقيقي الذي تستخدمه العصابات ليس التنويم، بل الجهل.
[1] عمران السويدي – تسلب أموال أصحاب المحلات والصرافة والصيدليات.. ما حقيقة عصابات التنويم المغناطيسي في العراق؟، موقع الجزيرة، 2022.
[2] ايناس العبيدي – تقرير بعنوان: نادر لكن مثير للجدل..!: التنويم المغناطيسي.. أداة لا يجرمها القانون بل الجرائم المرتكبة بواسطتها، صحيفة القضاء، مجلس القضاء الاعلى، العراق، السنة العاشرة، العدد (114)، اب – 2025.
[3] سكوت أو ليلينفيلد وستيفن جاي لين وجون روشيو وباري إل بايرستاين ( ترجمة: ايمان احمد عزب ومحمد رمضان داود) – أشهر ٥٠ خرافة في علم النفس: هدم الأفكار الخاطئة الشائعة حول سلوك الإنسان، مؤسسة هنداوي، المملكة المتحدة، 2017.
[4] Robert Scaer – The Body Bears the Burden: Trauma, Dissociation, and Disease, Taylor & Francis, new york, 2014, p (13 – 15).
