أشترك في القائمة البريدية

اشترك في القائمة البريدية: 

 

العدالة بصوت واضح: كيف غيّر تحليل الصوت مصير متهم؟

بواسطة | ديسمبر 13, 2025 | الطب وبيولوجيا الانسان, تقنیات واختراعات, واقع العلم | 0 تعليقات

المحامية نور جواد الدليمي. لم تعد الأدلة الجنائية في المحاكم الحديثة مجرد بصمات أصابع أو تقارير طبية أو شهادات شهود. فالعالم اليوم دخل مرحلة أصبحت فيها الأصوات تُعامَل كأنها كائنات حية لها “هوية” مستقلة، يمكن أن تُدين أو تُبرّئ، ويمكن أن تغيّر مسار قضية كاملة. هذا بالضبط ما حدث في محافظة كربلاء عام 2024، حين واجهت محكمة جنح كربلاء تسجيلاً صوتياً غامضاً منسوباً إلى أحد المتهمين، لكنها حسمت الدعوى قبل أن تستكمل أهم إجراء علمي فيها: فحص بصمة الصوت.

المتهم، الذي كان عليه قراءة نص معيّن لغايات المقارنة، رفض التعاون وادّعى المرض، تاركاً المحكمة أمام ملف ناقص ودليل ناقص. ورغم ذلك، صدر حكم بإلغاء التهمة والإفراج عنه. لكن عند الطعن، قلبت محكمة استئناف كربلاء بصفتها التمييزية المشهد كاملاً. ففي قرارها المرقم 104/105/ت/جزائية/2024 المؤرخ في 24/1/2024، قالت المحكمة إن الحكم “غير صحيح ومخالف للقانون”، لأن محكمة الجنح تسرعت في الفصل دون إجراء الفحص الصوتي الذي يُعدّ جزءاً أساسياً من مرحلة تقدير الادلة.

كان يجب على المحكمة – كما قالت محكمة الاستئناف بصفتها التمييزية – أن تعيد المتهم إلى شعبة الجرائم الإلكترونية في بغداد لإجراء الفحص العلمي، خاصة أن التقارير السابقة أوصت بذلك، ولأن تحديد مسؤولية المتهم عن الجرم يعتمد بشكل حاسم على هذا الفحص. وهكذا قررت المحكمة نقض القرار وإعادة الدعوى لاستكمال الإجراء العلمي الذي أهملته المحكمة اثناء المحاكمة.

القصة هنا ليست مجرد نزاع قضائي. إنها مثال واضح على مرحلة جديدة أصبح فيها العلم جزءاً من لغة العدالة، وأصبح الصوت نفسه وثيقة، وبصمة، ودليلاً يكتب الحقيقة.

 

كيف يمكن للصوت أن يدين أحدهم؟ العلم يجيب

قبل عقود قليلة، كان أفضل ما يمكن أن يفعله المحقق عند وجود تسجيل صوتي هو محاولة “التخمين” عبر خبرة الأذن البشرية. لكن العلم قلب هذه المعادلة. فقد أثبتت الأبحاث أن صوت الإنسان ليس مجرد ذبذبات عابرة، بل هو “صنعٌ بيولوجي” فريد يتكوّن عبر شفرة معقدة تضم الرئتين والقصبة الهوائية والحبال الصوتية والبلعوم والفم والأنف واللسان والشفاه، وهذه الشفرة تختلف من شخص لآخر مثل اختلاف بصمات الأصابع.[1]

وعندما يصدر الصوت، تتشكل موجة معقدة تحتوي على تردد أساسي ونغمات متوافقة تنعكس داخل تجاويف الرأس والرقبة. هذه التجاويف لا تتشابه بين شخصين أبداً، ولهذا يستحيل عملياً أن نجد صوتين مطابقين تماماً. أجهزة تحليل الموجات – وعلى رأسها رسام الطيف (spectrograph)، والذي يستخدم في تحليل الموجات الكهرومغناطيسية بشكل عام – تحول هذه الأصوات إلى رسوم بيانية دقيقة تعرض ترددات وذبذبات وتقاطعات أشبه بخريطة وراثية. ومن خلال هذه الخرائط يمكن للمختصين تمييز الأصوات كما يميزون بصمات الأصابع.[2]

بل إن العلم أثبت أن محاولات تغيير الصوت – كالهمس، أو غلق الأنف، أو محاولة تقليد شخص آخر – لا تنجح في خداع الأجهزة المتقدمة، لأنها تغيّر “شكل الكلام” وليس “بنيته الأساسية”.[3]

 

علم الأصوات الجنائي: حين يصبح اللسان شاهداً على صاحبه

ينتمي تحليل الصوت إلى فرع حديث يدعى علم اللغة الجنائي، وهو العلم الذي يجمع بين الصوتيات واللسانيات والتحقيقات الطبية والجنائية. وفي هذا العلم لا يُنظر للصوت كوسيلة تواصل، بل كعينة بيولوجية-رقمية يمكن تحليلها، قراءتها، ومقارنتها، للوصول إلى نتائج ذات قوة إثبات عالية.[4]

 

تطبيقات علم الأصوات الجنائي

يستخدم علم الأصوات الجنائي في قضايا الابتزاز عبر الهاتف، وفي التهديد، وفي القذف والسب عبر تسجيلات، وفي تحليل المكالمات الإرهابية، وفي تحديد هوية متحدث مجهول، وفي كشف عمليات الانتحال الصوتي. وحتى في عالم البنوك والشركات والمطارات، أصبح الصوت وسيلة تعريف توازي بصمة الإصبع والعين.

وتشير تقارير مكتب التحقيقات الفيدرالي (FBI) إلى أن دقة تحليل البصمة الصوتية في عينات جيدة تتجاوز 99%. وهذا ما يجعل المحاكم حول العالم تتعامل مع الصوت كدليل علمي معتبر وليس مجرد استدلال ضعيف.[5]

 

آلية فحص البصمة الصوتية

ان الطريقة التي يعتمد عليها في فحص بصمة الصوت لمعرفة صاحبها هي:

1 – الطريقة الآلية: وسميت بذلك لاعتمادها على وسائل آلية او نصف آلية تعمل على الحاسوب للربط بين الصوت وصاحبه، حيث يتم تزويد اجهزة الحاسوب ببرمجيات من شأنها تحليل الصوت البشري ومطابقته، ومن الاجهزة المستخدمة حديثاً تقنية “اوراس” (Advanced Unsupervised Robust Automatic Speaker recognition) وقد اثبتت التجارب ان نسبة الخطأ في نتائج هذه التقنية لا تتعدى 1% وفق دراسة أجرى مكتب التحقيقات الفدرالي الأمريكي FBI، ويحتوي على العناصر التالية:

–        عنصر استخراج الخصائص: الفيزيائية المعقدة والمتعددة مهمتها تحويل الاشارات الصوتية الصادرة من المتكلم اثناء تدريب النظام الى ارقام ذات معنى لهذا النظام تسمى (eature vectors) وتتسم هذه الارقام بانها اكثر ثباتاً واختزالاً من الاشارات الصوتية.

–        عنصر نمذجة المتكلم: وهو التعرف على المتكلم من خلال يصدر عنه بتكوين خاص بكل متكلم بناء على عنصر استخراج الخصائص.

–        عنصر قاعدة بيانات المتكلمين: يتم من خلاله حفظ البيانات الواردة في العنصرين السابقين، وقد يتم ايضاً تكوين نصوص معينة قد النظام خاصة بالمتكلمين.

–        عنصر مقارنة النماذج: يتم من خلال هذا العنصر والذي يتكون من عدة خوارزميات المقارنة بين أنموذج المتكلم والنماذج التي تم تخزينها في قاعدة البيانات وتكون النتيجة المقررة عن هذه المقارنات رقماً.

–        عنصر اتخاذ القرار: يتم من خلاله نتيجة مقارنة النماذج واتخاذ القرار اما بقبول المتكلم وذلك بعرض اسمه او هويته، واما برفضه فان القرار يكون بعبارة “الشخص مجهول”.

2 – الطريقة المرئية: وسميت بذلك، لانها تعتمد على صور ورسوم ينتجها المخطط المرئي للصوت المسمى عبر رسام الطيف، حيث تقدم هذه الصور والرسوم تحليلاً لكل صوت تظهر من خلاله عناصر (فيزيائية الصوت) كمقدار الذبذبة، وحدة الصوت، وطول موجته وقصرها، ونبرته ..الخ ثم يقوم متخصصون في علم الصوتيات بدراسة هذه الرسوم وتحليلها ومضاهاتها بصوت المتهم او المشتبه به، واذا تم مضاهاة التسجيل الصوتي بصوته فان الامر لا يخلو من: ان يتطابق التخطيط التحليلي للصوتين اولاً، فاذا تطابق الصوتان فان من الباحثين من اعتبر تلك المطابقة دليلاً على انه صاحب الصوت متى توافرت الخصائص والمميزات الثابتة في الاصل والعينة، ومتى تم التحليل بالوسائل العلمية، اما اذا لم يتطابقا كان ذلك قرينة قوية على ان المتهم ليس هو صاحب الصوت المطلوب.[6]

 

من المختبر إلى قاعة المحكمة: لماذا شددت المحكمة على إعادة الفحص؟

عندما قضت محكمة الاستئناف بصفتها التمييزية إن القرار “غير صحيح”، لم يكن ذلك اعتراضاً شكلياً. بل كان إشارة واضحة إلى أن العدالة لا تقبل قطع الطريق على العلم.

فالفحص الصوتي الذي تهرّب منه المتهم هو إجراءٌ يمكن أن يثبت براءته أو إدانته. وحين يمتنع المتهم عن التعاون، يصبح لزاماً على المحكمة إعادة الفحص دون الاكتفاء بادعاء المرض أو محاولات التلاعب. فالعلم قادر على كشف الصوت المتخفي، سواء أدّاه صاحبه بطريقة طبيعية أو هامسة أو متصنعة. وهكذا، كان نقض الحكم رسالة قضائية واضحة:

الحقائق العلمية جزء من العدالة… ولا يجوز إهمالها.

 

قصة حقيقية من الولايات المتحدة: صوت واحد كشف قاتلة

في إحدى المدن الأمريكية، تلقّى مركز الشرطة اتصالاً من امرأة مجهولة تخبر بوجود سيدة في حالة وضع خطير. انطلقت الشرطة إلى العنوان لتجد المبنى مظلماً، وفجأة يتعرض أحد الضباط لإطلاق نار ويموت على الفور. لم يكن لدى الشرطة سوى تسجيل صوتي قصير للمرأة التي اتصلت.

لكن باستخدام جهاز تحليل الطيف الصوتي، قورنت الأصوات مع أصوات مجموعة من النساء يسكنّ قرب المكان. وبين ثلاثة عشر صوتاً مختلفاً، ظهر تطابق كامل مع فتاة في الثامنة عشرة من عمرها، لينهار جدار الإنكار وتعترف الفتاة بجريمتها.

الصوت كان الشاهد الوحيد… لكنه كان كافياً.[7]

 

من تحليل الذبذبات إلى مواجهة المستقبل: ماذا عن أصوات الذكاء الاصطناعي؟

العالم يتغير بسرعة. لم يعد الصوت ملكاً لصاحبه فقط، فقد أصبح بالإمكان اليوم إنتاج “صوت مزيف” لشخصٍ ما باستخدام ثوانٍ معدودة من تسجيل حقيقي.

وقد أصبحت هذه التقنية – المعروفة باسم التزييف العميق الصوتي Deepfake Voice – واحدة من أخطر التحديات التي ستواجه القضاء والادلة الجنائية خلال السنوات المقبلة.[8]

فإذا كان العلم قد نجح في كشف الصوت الحقيقي، فهل سينجح بنفس القوة في كشف الصوت المزيف؟

هذا السؤال ليس نظرياً. إنه سؤال قضائي، جنائي، وتقني.

وسنتناوله بالتفصيل في مقال قادم على موقع العلوم الحقيقية، حيث سنشرح كيف يعمل التزييف الصوتي، وما هي أخطاره، وكيف يمكن للذكاء الاصطناعي نفسه أن يساهم في كشف هذا التزييف وإعادة بناء الحقيقة.

 

خاتمة

إن قرار محكمة استئناف كربلاء بصفتها التمييزية لم يكن مجرد خطوة إجرائية، بل كان تأكيداً على أن العدالة الحديثة تتطلب أدوات حديثة، وأن العلم لم يعد ضيفاً على المحاكم بل أصبح شريكاً في كشف الحقيقة.

وفي زمن تتشابك فيه الأصوات الحقيقية بالأصوات المصطنعة، يبقى الوعي العلمي هو السلاح الأقوى.

المصادر

[1] نجوى فيران – الاثبات الجنائي عن طريق اللغة: بحث في دور البصمة الصوتية في ضوء اللسانيات الجنائية، مجلة اللسانيات،  المجلد (30)، العدد (1)، ص (88 – 89).

[2] علاء بن محمد صالح القمص – وسائل التعرف على الجاني، مكتبة القانون والاقتصاد، الرياض، 2012، ص (106 – 108).

[3] علاء بن محمد صالح القمص – وسائل التعرف على الجاني، مكتبة القانون والاقتصاد، الرياض، 2012، ص (106 – 108).

[4] عبد العزيز بن ابراهيم العصيلي – المعجم الموسوعي لمصطلحات اللسانيات التطبيقية، ط1، ج1، مجمع الملك سلمان العالمي للغة العربية، الرياض، 2023، ص 560.

[5] د. حسين جابر احمد العشري – الاعلام الجنائي، دار اليازوري، عمان، 2022، ص 20.

[6] اعداد: د. سعدية فتح الله دسوقي الجزار – مدى اعتبار التسجيل الصوتي طريقاً من طرق الاثبات الحديثة: دراسة فقهية في ضوء استخدام تقينة الذكاء الاصطناعي، بحث مستل من الاصدار الاول 2/3 العدد التاسع والثلاثون، 2024، جامعة الازهر، ص (899 – 900).

[7] د. عبد المحسن صالح – العلم والتكنولوجيا في خدمة العدالة، مجلة الفيصل، العدد (57)، ديسمبر – يناير، 1982، ص 121.

[8] Gaurav gupta, sailaja bohara, raJ and kapil pandla – deepfakes and their impact on business, igi global scientific publishing, usa, 2025, P 286.