ربما يمكن اعتبار تبسيط العلوم أحد أكثر مجالات الكتابة نفعاً للبشرية على مدى التاريخ سواء كانت بكتب علمية، أم مقالات أم لقاءات ووثائقيات. منذ بدأت العلوم بالتوسع أكثر في مصطلحاتها ومعادلاتها والعلاقات المتشعبة بين فروعها المختلفة لم يعد من الممكن أن يصدر كتابٌ أو ورقةٌ بحثية ما لجمهور متعلم فحسب، بل لجمهور متخصص، ومنذ ذلك الحين صارت الكتابة العلمية تأخذ فروعاً عديدة منها ما يقدم لمختصي المستقبل، طلبة الجامعات الذين يدرسون المجال بدرجة معتدلة من العمق، ثم للتدريس المنهجي في المدارس الثانوي أو تحت عنوان العلوم الشعبوية (pop-science) والتي تشمل الكتب المبسطة التي يكتبها العلماء والمختصون للعامة والمواقع العلمية العديدة التي تتخذ أيضاً طابع الشرح أو الطابع الصحفي في النقل.
بفضل هذه الكتابات، صار يمكن للشخص الاعتيادي أن يحصل هو أيضاً على آخر نسخة من مجال علمي ما، لا ان يقتصر ذلك على المختصين. وربما حتى المختصون أنفسهم لا يستغنون عن بعض هذه الوسائل.
طبعاً يجب ألا ننسى أن تلك المراحل من التبسيط لطالما رافقت مراحل من التقدم التكنلوجي سواء في توفر الورق بسعر أقل، أو بتوفر تقنيات الطبع لدى دول أكثر وبلغات أكثر وبسهولة وسعر أقل، أو ما حدث في العقود الأخيرة من ثورات تكنلوجية عمت بفضلها على كافة المجالات ومنها تبسيط العلوم. ثم أصبحت عملية متابعة الأشكال الجديدة للنشر بحد ذاتها عملية صعبة لكثرة المواقع التي يمكن من خلالها انشاء بوابة ما للنشر على غرار الصفحات والجدران والقصص والمساحات والفيديوهات القصيرة وغيرها من التسميات. وللأسف، فبالرغم من أن لتبسيط العلوم مزايا عديدة، فإننا مع كل طور من التبسيط نخسر المزيد من التفاصيل، وبما أن كثيراً من الأشكال الحديثة للنشر خلقت لغرض نشر محتوى مبسط، فإنها قد تحمل أضراراً للنشر العلمي أكثر مما تحمله من منافع.
سأطلق مصطلح علوم الـ GIF على جانب من المواد “العلمية” التي تنال بعملة التداول في الشبكات الاجتماعية أكثر مما يناله كاتب مقال رصين ذو 1500 كلمة. عملة التداول هذه هي الاعجابات او عدد المشاهدات. وإن كان الكاتب التقليدي لا يبالي بتلك العملة فإن الأجيال الحديثة تهتم بها كثيراً وربما حتى وسائل الاعلام التقليدية بينما تحاول تحديث نفسها. نعود للمصطلح، فإن كلمة GIF هي مختصر لتسمية احدى صيغ الملفات نسق الرسومات المتبادلة (graphics interchange forma) والتي ظهرت منذ الثمانينات، لكنها لم تشتهر كصيغة للصور المتحركة الصغيرة الحجم حتى اتاحت الشبكات الاجتماعية الكبرى مثل فيسبوك وتويتر ذلك. يتمثل هذا الصنف من المواد بصورة متحركة صغيرة الحجم وقصيرة المدة أي أنها تعادل فيديو قصير جداً. وهي تصلح لنشر التعابير العاطفية المقتبسة من ممثلين ومشاهير، او لنشر مقاطع فيديو مضحكة. لكنها أيضاً تستخدم لنشر “الفيزياء المذهلة” أو “آخر الاختراعات”. ولا أحصر أزمة التبسيط بصور الجيف فحسب، بل أشمل بها أيضاً نمط المنشورات، والتغريدات والفيديوهات القصيرة ولا ندري ما سيأتي في المستقبل القريب أيضاً من وسائل.
يستطيع ريتشارد دوكنز أن يكتب كتاباً ونحن نعلم أنه مسنود بمئات او الاف الأوراق البحثية، ويستطيع أيضاً مايكل بيهي ان يكتب كتاباً للعامة ولن يكون ذلك الكتاب مسنوداً بأي مصدر علمي معتبر لاسيما حين نتكلم عن جوهر الكتاب.
أين تكمن المشكلة؟ هل نحن الكبار في السن المناهضون لموجة الحداثة (لست كبيراً في السن حتى) أم اننا منزعجون من النجاح الباهر لتلك الوسائل الإعلامية الحديثة التي توازينا شهرة وتتجاوزنا؟ المشكلة تتلخص باختصار بمفهوم التبسيط من الأساس. مع كل مرحلة من التبسيط نحن نتخلى عن مستوى من الدقة العلمية يجعل عملية الخداع أسهل. كم عدد الأوراق البحثية الزائفة كلياً؟ قد لا نستطيع احصائها، لكن نجزم أن ظهورها للعلن بسهولة ونيلها الشهرة هو أمر نادر. بالمقابل، كم كتاباً علمياً مبسطاً يمكن أن يحتوي على معلومات مضللة؟ اخترنا الكتاب لأنه أبسط وسيلة من بعد الأوراق البحثية (التي تعد بحد ذاتها تبسيطاً للكثير من تفاصيل التجربة)، يستطيع ريتشارد دوكنز أن يكتب كتاباً ونحن نعلم أنه مسنود بمئات او الاف الأوراق البحثية، ويستطيع أيضاً مايكل بيهي ان يكتب كتاباً للعامة ولن يكون ذلك الكتاب مسنوداً بأي مصدر علمي معتبر لاسيما حين نتكلم عن جوهر الكتاب.
وهكذا، فكلما هبطنا بمستوى التدقيق، أصبحنا نفتح الباب لكل من هب ودب لمشاركتنا بتقديم نفس المحتوى. يستطيع العالم أو الشخص غير المتعلم أن يكتبوا منشوراً على فيسبوك أو تغريدة على تويتر. واسوء من ذلك كله، هو ما تفعله علوم الجيف، والتي تنشر مواد يمكن تصديقها حتى دون قراءة، إنه فيديو قصير او صورة متحركة خالية من أي سياق تنشر تحت عنوان “الفيزياء المذهلة” وقد صادفت منها خبرين زائفين منها خبر عن قطار ياباني يمشي بسعة 4000 كيلومتر في الساعة وقد صدق ذلك الكثيرون، كيف لا يصدقون وقد رأوه بأعينهم؟ ومنها أيضاً صورة متحركة يفترض أنها لحركة فيزيائية معقدة وقد اتضح أنها مزيفة كلياً. حسناً، المثال الأخير لن يضر أحداً على الاطلاق، لكن نسخة الجيف من اثر الفاكهة على مرضى السكري كانت بالغة الخطورة! اشتهر مقطع فيديو لشخص محتال يضع سائل العنب على جهاز فحص السكري ويُظهر للجمهور أن الجهاز لا يقرأ شيئاً، ليقول لهم أن الفواكه تشفي السكري ولن تتسبب برفع نسبة السكر في الدم لدى مرضى السكري! ومن ثم اشتهرت نسخة صورة متحركة من نفس المقطع لتيسر نشر “المعلومة” هذه. لا ندري كم من مرضى السكري يعرفون مدى الهراء الذي يقوله هذا الشخص، لكن أيضاً لا نعلم كم عدد الذين لا يقيسون السكر بشكل منتظم أو بشكل يضمن لهم اختبار مزاعم كهذه، الضرر فادح بلا شك.
إنها قاعدة بسيطة: كلما زادت بساطة الطرح، صار نسج الأخبار الزائفة أسهل من خلالها.
ينتشر تصور غير صحيح بأن درس الفيزياء يجب أن يصبح سيركاً. الكثير من التشويق في الفيزياء كامن في الرياضيات التي فيها لا بكون بالتشويق والاثارة البصرية. يستطيع المدرس تقديم بعض التجارب الحية لكن لا يمكنه أن يكون ديفيد كوبرفيلد أو أن يصبح مهرجاً.
الأدهى من ذلك، وعلى الأقل من مراقبتي لوسائل الصحافة العلمية وتبسيط العلوم العربية فإن كثيراً من المواقع والشخصيات الذين ينشرون العلوم الحقيقية صاروا يتعرضون لغواية الاعجابات والمشاهدات فينشرون هم أيضاً من علوم الجيف. وبذلك يقدم هؤلاء فرصة ثمينة للوقوع على مستوى واحد أمام الجمهور مع مروجي الهراء. يشبه الأمر ظاهرة أخرى تحدث في العالم العربي، وهي الطبيب الذي يتصرف بنفاق مع الأعشاب لكي ينال المزيد من الزبائن أو لكي لا يخسر زبائنه. وهكذا يفعل الناشر العلمي، فإذا كان الأشخاص الذين لا يمتون للعلم بصلة يربحون الاعجابات عبر الصور المتحركة، لم لا ننشر نحن أيضاً الصور المتحركة؟ وما سيحدث بعدها، هو أن الوسيلة التي اعتادت نشر العلم ستعطي الشرعية لهذا النوع من المحتوى. سيرى الجمهور أن وسائل الاعلام العلمية الحقيقية تتداول هذا المحتوى، لابد أن يكون ذو قيمة إذاً.
عدا ذلك، فلا يمكن الجزم بتأثير أمر معين آخر ناتج من علوم الجيف والفيديوهات القصيرة. تردد كثير من هذه الصور مقولة منسوبة لاحد العلماء بأن مدرس الفيزياء الذي يجعلها مملة مجرم أو شيء من هذا القبيل، هذا بمرافقة صور لبعض التجارب المسلية. من لا يعرف الفيزياء يظن أن لجميع نواحي الفيزياء هناك مجال إمكانية للتسلية، الكتب ذات المعادلات خطأ، يجب أن يصبح درس الفيزياء سيركاً ومدرس الفيزياء مهرج، وهذا التصور غير صحيح. الكثير من التشويق في الفيزياء كامن في الرياضيات التي فيها لا بكون المدرس مهرجاً. يستطيع المدرس تقديم بعض التجارب الحية لكن لا يمكنه أن يكون ديفيد كوبرفيلد أو أن يصبح مهرجاً. في الفيزياء جوانب قابلة للايضاح البصري ولعل هذه هي رأس الجبل الجليدي فقط، لكن كثير من جوانب الفيزياء لا تصلح لأن تصبح سكريات بصرية، والأهم من ذلك كله، هو أنه إذا كانت بعض الدول تمتلك صفوف ذات معدات مختبرية فإن كثيراً من الدول لا تمتلك حتى الأموال لاعداد صفوف دراسية لائقة. هل نتوقع المزيد من الكره لمادة الفيزياء نتيجة لخيبة الأمل التي سينالها الكثير من الطلبة في السنة الأولى التي سيدرسون الفيزياء فيها؟ نأمل أن ذلك لن يحدث.
في النهاية فإن العلم ليس كتاباً مقدساً يجب أن يحفظ في دار للعبادة، بل يمكن أن ننشر العلم بأي وسيلة على أن نضمن أنها ستحقق فائدة ما للجمهور مع أو دون تسلية. وأن نضع في الحسبان أمراً مهماً: كان تبسيط العلوم وما يزال ثورة هائلة في تقديم المعرفة للعامة، لكن مع كل مرحلة من مراحل التبسيط فإننا نقدم خسائر لصالح منتجي المحتوى المضلل والزائف الذين سنتكبد حينها عناء الرد عليهم. وأن بعض أصناف الوسائط المتعددة التي ترجح الترفيه ولا تترك حتى مجالاً لسرد المعلومة هي على الأرجح أصناف غير صالحة لغرض نقل تبسيط العلوم او أي نوع من المعرفة.
نشر المقال باللغة الإنجليزية في مجلة Skeptical Inquirer العدد 46 رقم 3 لشهري مايو / يونيو 2022 وهذه النسخة مترجمة بتصرف من قبل كاتب المقال عن النسخة الأصلية.
راجعت المقال لغويا ريام عيسى وتم نشره في مجلة العلوم الحقيقية العدد 52 شهري نوفمبر-ديسمبر 2022