مُنذ أن كُنا أطفالاً في حصة العلوم ونحن نسمع عن قصة الجاذبية وعن نيوتن وعن التفاحة، لكن القصة الحقيقية للجاذبية أكبر بكثير من أن تُروى في حصة علوم، أو عن نيوتن والتفاحة. لنستعرض معاً هذه القصة الجميلة بشيءٍ من التفصيل.
يُمكن أن نقول بمنتهى البساطة أن الجاذبية هي شكل من أشكال الطاقة بالكون. فهى بطبيعة الحال إحدى أربع قوي كونية رئيسة تؤثر على هذا الكون وتحكمه وتحدد قوانينه، وهي (قوة الجاذبية – القوة الكهرومغناطيسية التي تحفظ الجزيئات معاً – القوة النووية الضعيفة التي تتحكم في الإشعاع الذري – القوة النووية القوية التي تربط أجزاء الذرة معاً). وللتدقيق إن الجاذبية هي أضعف قوة في تلك القوى.
لنتعمق أكثر في معرفة ماهية الجاذبية يجب أن نعلم أن للجاذبية توصيفان أحدهما كلاسيكي والآخر حديث.
التوصيف الكلاسيكي فهو تعريف نيوتن للجاذبية حين قال أنها ميل الكتل والأجسام للإنجذاب والتحرك نحو بعضها البعض، بمعنى أنها قوة تنشأ بين الأجسام إعتماداً إلى الكتلة و المسافة بين الأجسام. وقد وضع نيوتن قانونه الشهير بقانون الجذب العام إذ جاء نَصُه كالتالي “قوة التجاذب بين جسمين ماديين غير مشحونين تتناسب طردياً مع حاصل ضرب كتلتيهما وعكسياً مع مربع المسافة بين مركزيهما”.
أما التوصيف الحديث فهو تعريف آينشتاين للجاذبية حين قال في نظريته الشهيرة النسبية العامة أن الجاذبية هي إنحناء أو إعوجاج في نسيج الزمكان (نسيج الزمان و المكان معاً)، بمعنى أن وجود أى شكل من أشكال المادة أو الطاقة أو العزم يُحدِث إنحناء في مكان و زمان الأجسام؛ و بسبب هذا الإنحناء يمكن أن تنحرف المسارات التي تسكلها الأجسام في الأُطر المرجعية القصورية ضمن الزمن. بمعنى آخر و هو أن الجاذبية مجال، هذا المجال عبارة عن إنحناءات في الفراغ تُسببها الكتلة فكلما كانت الكتلة كبيرة كلما كان الإنحناء أكبر. ولتوضيح هذا المفهوم أكثر لنتخيل وجود كُرة من الخشب على سطح طبقة مطاطية. نُلاحظ إنحناء طبقة المطاط للأسفل. حسناً طبقة المطاط هُنا هي نسيج الزمكان والكرة الخشبية هي شكل من أشكال المادة أو الطاقة أو العزم. أما إنحناء الطبقة هو الجاذبية. كما بالصورة.
والجديرُ بالذكر أن توصيف آينشتاين لمفهوم الجاذبية دقيق جداً، مع العلم أن مفهوم نيوتن صحيح هو الأخر، ولكن في المجالات التجاذبية الضعيفة.
الجديدُ في القصة أن العُلماء لاحظوا بعض المُفارقات الكونية التي تندرج تحت نظرية الجاذبية -كلاسيكياً وحديثاً-، وفي نفس الوقت نظرية الجاذبية عاجزة عن تفسيرها !.
لنرى أولاً هذه المفارقات ثم نعود لِنُكمَل قصتنا:
منذُ زمنٍ بعيد والعلماء يعتقدون بعد الإنفجار العظيم -إسم نظرية شهيرة تُفسر نشاة الكون- أن الكون سيأخذ في التباطؤ، وأن لا بُدَ له في يومٍ ما أن يتوقف عن التمدد، وأن للجاذبية فضلُ في ذلك؛ حيث تعمل على جذب أطراف الكون وتجعل توقف تسارع الكون ممكناً، لكن في عام 1998 إكتشفت مجموعتي بحث دوليتين أن الكون مازال يتمدد، وببعض الدراسات الإحصائية بعد ذلك تبين أن تممد الكون أصبح أكبر من ذي قبل بكثير، أى أن الكون يزداد تسارعاً في التمدد وليس كما اعتقد العلماء. أصبحت هذه معضلة غير قابلة للتفسير من قِبل نظرية الجاذبية لا كلاسيكياً ولا حديثاً، لكن العلماء اتفقوا إصطلاح إسم لهذه المعضلة وهو الطاقة المظلمة. وبطبيعة توصيف هذه الطاقة فهي كبيرة جداً جداً، كما وقيل عنها أنها طاقة الفراغ.
إن هذا الكون الذي نعيش فيه يتكون من بلايين المجرات، وبلايين بلايين بلايين النجوم، وأعداد مُضاعفة من الكواكب والأقمار وبقية الأجرام السماوية، بالإضافة إلى أنا وأنت والحيوان والطير والنبات وكل أشكال الحياة. حسناً إن هذا غير دقيق. فما يتكون منه الكون مما تم ذِكره لا يتعدى في فعلياً ( 5% ) من الكون، إذاً أين الباقي؟!.
منذ حوالي قرنٍ من الزمن اقترح أحد العُلماء -إفتراضاً- بأن بقية الكون يتمثل فيما يُسمى المادة المُظلمة ( 27% )، والطاقة المُظلمة ( 68% ). ولها من إسمها نصيب، فهذه المادة المظلمة لا تمتص ولا تُصدر أى نوع من الموجات الكهرومغناطيسية المعروفة -من ضمنها الضوء-؛ لذلك لم يتم التعُرف عليها مادياً كالمادة المضيئة ( نجوم وكواكب وغيرها). لكن العلماء آمنوا بوجودها تبعاً لما ينتج عنها من تأثير.
مضروبة في (ω)تساوي السرعة الزاوية (v)السرعة المماسية ،( v=ω.r )تقول قوانين الفيزياء (r)بُعد الجُسيم عن المركز
ذلك بالضرورة يُعني أن السُرعة الزاوية التي تتحرك بها النجوم على أطراف المجرات والمجرات على أطراف عناقيد المجرات أقل مما تتحرك به نظيراتُها بالقرب من المركز. لكن الحقيقة كانت مُختلفة كُلياً، حيث ظهر تأثير المادة المظلمة واضحاً عندما وُجِدَ أن النجوم على أطراف المجرات والمجرات على أطراف عناقيد المجرات تتحرك بسرعة مساوية تقريباً لما تتحرك به نظيراتها بالقرب من المركز.
يُعتقد أن ذلك التأثير هو جاذبية المادة المُظلمة، إذ جعلت الجاذبيةُ الناشئة عن تلك المادة المظلمة السرعةَ متقاربة من بعضها سواء أكانت عند المركز أو عند الأطراف.
لأجل حساب هذا التأثير الملحوظ للمادة المظلمة، ولأجل تقديم شرح أفضل للتسطيح الموجود في منحنيات الجاذبية، قُدِمَت عدة ابحاث علمية وفرضيات تُعطي بكل جُرأة مفهوماً كلياً جديدً عن الجاذبية ( الجاذبية المُعَدّلة ).
ولقد قام فريق من علماء الفلك بدراسة توزيع المادة في أكثر من ثلاثين ألف مجرة، وتقول ملاحظاتهم أنه يمكن تفسير هذه المُفارقات الكونية دون اللجوء إلى المادة المظلمة أو الطاقة المُظلمة. وإذا كانت “الجاذبية المُعَدّلة” صحيحة فإنها ببساطة ستضع نهاية لمئات السنين من أساسيات الفيزياء.
إن أردنا تعريفاً للجاذبية المُعَدّلة فسنقول أنها تعديلُ لنظرية نيوتن للجاذبية.
النظرية المعروفة بالديناميكية النيوتونية المُعَدّلة. “MOND”
هذه النظرية المُعَدّلَة قد اُثبِثَ صحة توقعاتها، وفسرت ظاهرة سرعة دوران المجرات بدقة عالية، من غير فرضية وجود المادة المظلمة، بالإضافة إلى أنه لا يوجد حتى الآن دليلُ على أن هذه النظرية المُعَدّلة قد ثم دحضها، مما يُعد انجازاً مهولاً.
والجديرُ بالذكر أن الجاذبية المُعَدّلة لا تتلاشي بالسرعة التي تفترضها النظريات حالياً. كما من الممكن أن لا تكون المادة المظلمة شيئاً حقيقياً فعلاً، أو قد تكون مُجرد اسم مُستعار للسلوك الشاذ للجاذبية.
لسوء الحظ تُعاني الجاذبية المُعَدّلة من مشاكل تُماثل المشاكل التي تؤثر على نماذج الطاقة المظلمة، بحيث لا يوجد سينارو مُقنِع كفاية لتعميم الأمر فهي تختلف بإختلاف الإتجاه، كما ويوجد كثير جداً من الأفكار والإحتمالات بخصوصها. لكن لحُسن الحظ أن سوء الحظ الذي تُعانيه الجاذبية المُعدلة من فرط الأفكار والإحتمالات يصُب في مصلحتها، حيث يذهب بنا فرط الأفكار والإحتمالات إلى إنتروبيا الكون، حيث القانون الثاني للديناميكا الحرارية: التغيّر التلقائي في أى نظام فيزيائي لا بُد وأن يُصاحبه زيادة في مقدار الإنتروبيا. والإنتروبيا ببساطة هي الهرجلة أو العشوائية. بحيث إن كثرة المعلومات عن النظام ( الجاذبية المُعدلة ) لا بُد أن تدل على العشوائية، وهو ما يتوافق مع مبدأ الإنتروبيا الشهير “الإنتروبيا في الكون تميل إلى نهاية عظمى”.
إن مجال البحث ما يزال مفتوحاً على مصراعيه في قصة الجاذبية، وأخص بالذكر الجاذبية المُعَدّلة، التي أصبحت تُعد طريقة جديدة لتفسير المادة المظلمة والطاقة المظلمة، والتي يُفترض أن تُقدم فَهم أفضل، ونظرة أعمق لآلية عمل الكون، وتفسيرات مُقنِعة للمفارقات الكونية التي اُكتُشِفت في الآونة الأخيرة.
المصادر
George Rajna, “Modified Gravity from Gravitational Waves“, Academia, viewed at: 6-3-2017
Calmet, Xavier, and Iberê Kuntz. “What is modified gravity and how to differentiate it from particle dark matter?.” The European Physical Journal C 77.2 (2017): 132.
“Modified Gravity: A new way to explain dark matter and dark energy [Astro et al Ep. 2].” Astronomy et al. N.p., 05 Sept. 2016. Web. 06 Mar. 2017.