كما سيتضح لك من خلال هذا المقال، فإن الاكتئاب والقلق والاضطرابات النفسية المختلفة ليست في الأصل مشكلات بقدر ما هي حلول. نعم، هي حلول تطورت منذ ملايين السنين. ولكن الأمر اختلف كثيرا في الآلاف القليلة من السنوات الماضية، فقد كبرت أدمغتنا وازدادت تعقيدا، كما تطورت منظوماتنا الأخلاقية وطقوسنا القبلية وقيمنا الشخصية والجماعية. لهذه الأسباب، إلى جانب أسباب وراثية وبيئية أخرى، فنحن نعاني من اضطرابات المزاج والشخصية وحتى القدرات المعرفية. وهنا يوفر لنا الطب النفسي التطوري طرقا فعالة لفهم مشكلاتنا المختلفة بدءًا من تقلبات المزاج اليومية ووصولا إلى الهلاوس والضلالات التي تهدم حياة الأسر وتفكك علاقات الناس ببعضهم. المكتئب ليس مريضا بقدر ما هو خاسر. والقلِقُ ليس جبانًا بقدر ما هو حذِر.
تمهيد
في عام 1973، طرح أخصائي عالِم الأعصاب والطبيب باول د. ماكلين (MacLean) فكرة أن العقل البشري الحالي مر بثلاث مراحل تطورية، هي: دماغ الزواحف، ثم دماغ الثدييات القديمة، ثم دماغ الثدييات الحديثة (انظر الشكل رقم 1). أسفرت دراسات ماكلين التشريحية عن صفات مميزة لكل دماغ يمكن اختصارها كما يلي (ستيفينز وبرايس، ص 15-17).
دماغ الزواحف: تطور قبل حوالي 3000 مليون سنة من الآن، وفيه تقع مراكز الحاجات الأساسية لإبقاء الحياة كمراكز التنفس وحركة القلب. يتميز بالتلقائية والغريزية ولا يملك القدرة على إدراك الماضي أو المستقبل. وهو دماغ غير واعٍ تماما، أي أننا لا نستطيع التحكم به.
- دماغ الثدييات القديمة: أهم جزء فيه هو الجهاز الطرفي (limbic system) ويتحكم في الجوع والعطش والجنس والخوف والحب والذاكرة. وهو دماغٌ عاطفيٌّ شبهُ واعٍ، أي أننا نستطيع التحكم به جزئيا.
- دماغ الثدييات الحديثة: وهو منطقة القشرة الحديثة (neocortex) التي تؤدي وظائف إدراكية معقدة، وهي المسؤولة عن الوعي والتصرفات الإرادية والعقلانية والإحساس بالتحكم الشخصي واتخاذ القرارات.
انطلاقًا من هذا التقسيم، يطرح المحلل النفسي واخصائي الطب النفسي الشهير أنتوني ستيفينز (Anthony Stevens) واستشاري الطب النفسي جون برايس (John Price) طريقة جديدة في علاج أهم الاضطرابات النفسية (ستيفينز وبرايس، ص 15-17).
منهج جديد في العلاج النفسي
إذا كنت مصابا بالاكتئاب، يمكنك أن تقصد الكثير من الأطباء المختلفين وتتلقى الكثير من العلاجات المختلفة كالتحليل النفسي والعلاج السلوكي المعرفي ومضادات الاكتئاب والعلاج بالتيار الكهربائي (ECT). لكن معظم هذه الطرق تتبع منهجا واحدا في العلاج وهو التعامل مع الأعراض والعلامات ومحاولة تخفيفها بدون محاولة فهم أسباب حدوثها في الأصل (ultimate causes). تزخر الكتب وقواعد بيانات الأبحاث الآن بآلاف النظريات حول الآلية التي تحدث بها الاضطرابات النفسية، فالبعض قد يعزوها إلى خلل في الموصلات العصبية (السيروتونين Serotonin والنور أدرينالين Noradrenaline، على سبيل المثال) والبعض قد يعزوها إلى المثيرات البيئية (الانفصال من علاقة عاطفية، ضغوط المجتمع)، والبعض قد يعزوها إلى أسباب وراثية. لكن منهجا وحيدا حتى الآن هو الذي طرح إجابات مهمة لهذا السؤال الصعب: لماذا يُصاب الناس أصلا بالاضطرابات النفسية؟
في هذا المقال سأستعرض محاولة الطب النفسي التطوري الناجحة في علاج حالة اكتئاب معقدة. (للمزيد من المعلومات حول المنهج التطوري في العلاج النفسي، اقرأ هذا المقال).
بحَّارٌ ذو مبادئ ورئيسُ عملٍ مُحتال
قبل تسعة أشهر، حصل ألبرت سكوايرز (Albert Squires) على وظيفة حارس مستشفى، وكان قبلها يعمل تاجرًا بحريا لعدة سنوات. أحاله طبيبه العام إلى العيادات النفسية الخارجية بعد أن تغيب عن عمله لثلاثة أشهر. عندما جاء إلى العيادة كان يعاني من أعراض اكتئاب شديد (الكآبة، عدم القدرة على الاستمتاع بالنشاطات اليومية، اللامبالاة، الضعف الجنسي، ومشكلات في النوم والأكل). لم يكن لدى السيد سكوايرز أي تاريخ مرضي نفسي سابق، وكانت صحته جيدة حتى نهاية الشهر السادس من عمله في المستشفى، عندما وبَّخه رئيسه على عدم طلبه إجازةً مرضية كبقية العمال. برر السيد سكوايرز موقفه بأنه ليس مريضا، وأنه سيطلب إجازة مرضية حتمًا عندما يمرض. لكن رئيسه أوضح له بأن الأمر مختلف تماما، فهو بعدم طلبه إجازةً مرضية يفوِّت على رئيسه الزيادة في الدخل التي تُعطى عادةً عندما يزيد عدد العمال الذين طلبوا إجازة مرضية، وأنه يجب أن يطلب إجازة لكي يحصل الرئيس على تلك الزيادة حتى لو لم يكن مريضا!
لكن هذا الأمر بالنسبة إلى الرجل المستقيم الذي يكونُه السيد سكوايرز كان يمثِّل مشكلة أخلاقية، فكيف يطلب إجازة مرضية وهو صحيحٌ معافى! فرفض الانقياد لأمر رئيس عمله، الأمر الذي حول بيئة عمله من مكان سعيد وزملاء عمل بشوشين إلى مكان تعيس وزملاء عابسين يتجنبون التواصل معه. صار السيد سكوايرز كئيبا ومنعزلا، واضطر إلى طلب إجازة مرضية بعد أن أدرك عدم قدرته على العمل (ستيفينز وبرايس، ص 242,243).
الفهم التطوري لحالة السيد سكوايرز
يشكل حراس المستشفى معا مجموعة قَبَلية صغيرة لها سلمها الوظيفي ومبادئها وطقوسها وقيَمها الخاصة. وكأي مجموعة قَبَلية، يعتمد انتماء المرء إليها على مقبوليته ومكانته. ومقبولية العضو ومكانته في المجموعة القبلية يعتمدان في الوقت نفسه على مدى توافقه مع بقية الأعضاء. وبمجرد أن يصبح المرء عضوا في القبيلة، سيعتمد تقديره وصحته النفسية على آراء الآخرين حوله. يحدث الاكتئاب، كما في حالة السيد سكوايرز، عندما يدرك العضو في القبيلة أنه فقد مكانته ومقبوليته وأنه مهدد بالرفض والإقصاء من الجماعة، الأمر الذي سيتركه ويفقده حس الانتماء والرضى عن الذات.
عندما يتعلق الأمر بمواجهة قوة مضادة داخل إطار القبيلة، فإن هناك استراتيجيتين يجب أن يختار العضو واحدة منها: استراتيجية المقاومة والانتصار (winning strategy) واستراتيجية الخضوع والاستسلام (losing strategy). يقوم الدماغ باختيار إحدى الاستراتيجيتين على ثلاثة مستويات، حيث تتم معالجة الموقف في كل من أقسام الدماغ الثلاثة التي سبق ذكرها في بداية المقال. ففي أ) المستوى الأعلى (دماغ الثدييات الحديثة) يتم تقويم الظروف بطريقة منطقية واعية تماما ثم الاختيار بين الانتصار والانهزام؛ وفي ب) المستوى المتوسط (دماغ الثدييات القديمة) يتم تقويم الظروف بطريقة عاطفية شبه واعية ثم الاختيار بين الانتصار الذي يتمثل في الشعور بالغضب والانهزام الذي يتمثل في الشعور بالظلم؛ وفي ج) المستوى الأدنى (دماغ الزواحف) يتم تقويم الظروف بطريقة غريزية غير واعية ثم الاختيار بين الانتصار الذي يتمثل في الشعور بالمرح والانهزام الذي يتمثل في الشعور بالكآبة (ستيفينز وبرايس، ص 243,244).
التمساح الكئيب والثدييات الغاضبة!
تبيَّن بعد فحص السيد سكوايرز وأخذ معلومات كافية منه أن مستواه الأعلى والأوسط من التفكير اختارا استراتيجية الانتصار، فالجزء الأحدث من دماغه (neocortex) اختار موقفا أخلاقيا بعدم طلب إجازة طبية في حال عدم وجود أي داعٍ صحي لها، والجزء الأقدم (limbic system) كان يمده بمشاعر قوية كالشعور بأنه على صواب والشعور بالغضب من إساءة حُكْم زملائه على موقفه. لكن الجزء الأكثر بدائية (reptilian brain) اختار استراتيجية الانهزام وأسلمه إلى حالة من الاكتئاب الشديد. فما الحل في هذه الحالة؟ كيف استطاع ستيفينز وبرايس معالجة السيد سكوايرز وتخليصه من قبضة الكآبة؟
العلاج
انطلاقا من خلفية السيد سكوايرز البحرية، طُلِب منه أن يتخيل المشهد التالي:
هناك سفينة مشحونة بالبضائع تعبر مياهًا ثلجية، يعلوها قبطان وقائد ومهندس. فأما القبطان فذو ضمير ومبادئ وجدول أعمال مزدحم، لكنه يرى كتلة جليدية طافية تعترض مسار السفينة. بإمكانه أن يغير مسار السفينة نحو الجنوب ويقطع مسافة أكبر لكي يتجنب الاصطدام بالكتلة الجليدية، ولكنه يكره أن يكون متأخرا كما لا يريد أن يعرض شركته للخسارة. وأما القائد فلا يعلم شيئا عن مخططات القبطان وجدول أعماله فيفترض أن القبطان أدرى منه ويواصل السير كما أُمِر. وأما المهندس فلا يعلم شيئا مما يحدث، ويشغل نفسه بالتحكم في محرك السفينة وتنفيذ الأوامر من حجرة القيادة.
بعد حينٍ، تخترق السفينة الكتلة الجليدية الطافية ويصرُّ القبطان على الاتزام بمساره برغم قلقه. أما القائد الذي يعاني من مشكلات طفيفة في السمع فلا يدرك إلا قدرا بسيطا من أوامر القبطان. وأما المهندس فيسمع احتكاك سطح السفينة بالكتلة الجليدية كما يرى المياه تغمر حجرة المحرِّك، فيقرر من تلقاء نفسه أن يوقف المحرك.
بعدما تخيل السيد سكوايرز المشهد السابق، أدرك أن عقله الواعي كان أشبه بالقبطان الذي قدَّم الفضيلة برغم كل التكاليف. كما أدرك أن مشاعره كانت أشبه بالقائد الذي لا يرى إلا جزءا من المشهد ويعمل بولاء على تنفيذ أوامر القبطان. لكنه واجه لبعض الوقت صعوبة في إدراك الجزء الأعمق المسؤول عن كآبته التي شلَّت قدرته على العمل الفعَّال، ثم أدرك بعد حينٍ أن عقله اللاواعي أشبه بمهندس السفينة. أدرك السيد سكوايرز أن الألم النفسي الذي عاناه كل يوم في مقر عمله كان كالمياه التي ما إن دخلت إلى حجرة محرك السفينة حتى قام المهندس بإيقاف المحرك بدون تفكير.
ما العمل الآن؟
كأي واحد منكم، سأل السيد سكوايرز: فما العمل الآن بعد أن فهمت مشكلتي؟ اتضح من خلال التحليل السابق أن الاكتئاب -واضطرابات المزاج الأخرى- قد تنتج عن خلل في تبنِّي استراتيجية الانتصار أو الهزيمة في مستويات التفكير الثلاثة. وإذا كان هذا الاستنتاج صحيحا، فإن علاج الاكتئاب يكمن في تسوية هذا الخلل، فإما أن تتفق جميع مستويات التفكير على الانتصار أو على الهزيمة، ولا يهم، من وجهة النظر التطورية بعيدة المدى، أي الاستراتيجيتين نختار، فكل من المجابهة والخضوع سلوكان صحيَّان تطوَّرا لحل المشكلات المختلفة وفقا لاستطاعة الكائن الحي. بإمكان السيد سكوايرز أن يواجه لؤم رئيسه ويكتب عنه تقريرا إلى الجهات المسؤولة ينقل فيه تدليس رؤساء العمل واستغلالهم لضعف العمال. أو بإمكانه أن يسلِّم لأمر رئيسه ويكتب إليه رسالة اعتذار وتعهدا بالالتزام بأوامره في المستقبل (ستيفينز وبرايس، ص 243,244). وبناء على اختياره، قد يدخل نفسه في دوامة من المحاكمات والمطاردات القضائية وينجح أو يخسر، أو قد يحظى برضا رئيسه وتقبُّل زملاء عمله فيستعيد مكانته ومقبوليته، ومن ثم يستعيد صحته النفسية. المهم في النهاية أن تتفق جميع مستويات تفكيره على اتخاذ استراتيجية واحدة، وهذا ما لا يتم غالبًا إلا بالمساعدة الطبية.
المقال ملخَّص من المرجع التالي:
Stevens A, Price J. Evolutionary psychiatry: A new beginning. 2nd ed. Routledge; 2000.