قبل فترة نقلنا عن تجارب بورزينسكي الذي أدعى أنه يعالع السرطان عبر طريقة معينة رفضها المجتمع العلمي. بورزينسكي كان في مطلع شبابه باحثاً لامعاً، ولكن مع التمسك بفكرته رغم كل الفشل الذي أثبتته بدا من الواضح أن للرجل مساعي أخرى تتجاوز البحث العلمي، لكننا ننوه إلى أنه كان باحثاً ناجحاً في مطلع حياته، ولو التقيت ببورزينسكي واستمعت لكلامه فقد تشعر أن ما يقوله صحيحٌ إلى حدٍ ما. فما هي أهمية ما يقوله العلماء أو الباحثون وهل يُمكن للعالم أن يتبنى رأي غير علمي؟
في الواقع إن فكرة إعطاء العالم سمة شبه مقدسة أو شبيهة بالعصمة من الأخطاء الموجودة في الدين، هي أمرٌ ليس مستمداً من العلم ولم يفترضه العلم أو المنهج العلمي يوماً. للعالم أن يجلس حيثما يريد وأن يقول ما يريد متى ما يُريد، ولكن أقواله هذه لن تكون أحاديثاً أو آيات، ودون الإثبات لن يكون لأقوال العالم أي قيمة مضافة على قول أي شخص آخر. ماذا عن المحاضرات؟ في المحاضرات يقوم الأساتذة والعلماء بإعداد عرض تقديمي للمحاضرة يقدمون فيه جميع مصادرهم، أو يقومون بإلقاء المحاضرة بالإستناد إلى كتاب معين والذي بدوره سيكون معززاً بالمصادر ايضاً.
ميتشيو كاكو تكلم قبل فترة عن مؤامرة التحكم بالمناخ التي تقوم بها الحكومة الأمريكية، ورغم أنه لم يوضح بشكل مباشر ومفصل ما يقصده من دور الحكومة في التحكم بالمناخ، غير أنه ذكر أمثلةً وأفترض أن ما يجري في المختبر يجري في الواقع وتقوم به الحكومات ايضاً. لم يقدم كاكو أوراقاً بحثية فيما قاله ولم يكن ما قدمه سوى رأي في مجال لم يكن قد غاص به بما يكفي في أبحاثه وكتاباته السابقة.
من طرف آخر، هل تسقط قيمة العالم أو تقل القيمة العلمية لما قدمه نتيجة لرأي معين؟ في الواقع إن أبعاد هذه النظرة دينية أيضاً وهي نابعة من إفتراض صورة نمطية لما يجب أن يكون عليه الشخص الصالح، لكننا هنا لا نتكلم عن صلاح الأشخاص أو فسادهم. نحن نتكلم عن ما قدموه من إكتشافات على ضوء أدلة وتجارب قابلة للتكرار والكشف من قبل غيرهم ايضاً، الحقيقة التي يسلطون الضوء عليها ليست ذات صلة بواقعهم الأخلاقي أو بواقع آراءهم الأخرى العلمية أو غير العلمية حول العالم. إذاً لن يؤثر رأي معين لعالمٍ ما على ما يقدم من نتاج ولن يؤثر القدح في رأي من آراء ذلك العالم بطروحاته السليمة من أبحاث وتجارب وأعمال علمية.
من جهة أخرى نحتاج أحياناً إلى عدم إسباغ هالة حول مصطلح عالم والتدقيق بشكل أكبر في الصفة المناسبة لكل شخص، قبل فترة نشرنا عن جليل الخفاجي الدكتور في تخصص المواد في جامعة بابل في العراق الذي يزعم معالجة السرطان باليخضور. جليل وكثيرين مثل جليل قد لا يختلفون في صفتهم العلمية عن البرت اينشتاين من حيث موقعهم في جامعةٍ ما وكونهم أساتذة حائزين على درجة الدكتوراه في مجالٍ ما، لكن أنتبه أولاً، ما هو مجال الشخص الذي تتكلم عنه بصفته عالماً؟ هل يحق للإقتصادي أن يقدم نظريات فيزيائية دون أن يدخل في الفيزياء بشكل كافي؟ هل يُمكن للخفاجي أن يعالج السرطان؟ أو لطالب كلية التربية قسم علوم القرآن أن يعالج السرطان (مثلما حدث في جامعة تكريت حول الشخص الذي اقترح علاج السرطان ببول البعير).
كثيرٌ من الخرافات السائدة التي تم نشرها في الباراسايكولوجي وغيره من العلوم الزائفة المقاربة تم تقديمه من أشخاص لهم صفات علمية سواء في علم النفس أو في مجالات أخرى. آيان ستيفينسون كان أستاذاً جامعياً مختصاً في علم النفس، هو نفسه الذي كان يقدم لنا شهادات رواد مستشفيات العقلية في الهند على أنها حقائق تثبت إعتقاده الشخصي بتناسخ الأرواح.
تمهل قبل أن يقول أحدهم أن الدكتور الفلاني أو الأستاذ الفلاني بحث أو اكتشف أو اخترع أمراً ما، فتسمية دكتور لم تعد بتلك الصعوبة من حيث الحصول عليها، وفي نفس الوقت فقد صارت وسائلك للتقصي حول هؤلاء أسهل بكثير. أما الرهان على المهنة فهو أسهل بكثير، فكم من طبيبٍ صار مروجاً للطب البديل، وكم من نفساني قدم علاج مضحك وغير مجدي بتاتاً. لا نقول هنا أن الجدران بين التخصصات هي جدران حديدية غير قابلة للإختراق ولكنها في الوقت نفسه ليست منعدمة، ولا يكفي لكتاب أو بضعة مقالات أن تنقلك عبر هذا الجدار.