قد تبدو العملية البيولوجية المعروفة باسم التطور عن طريق الانتقاء الطبيعي لمعظم الناس شيئاً غامضاً ولا يمكن رؤيته أو مراقبته بشكل مباشر، وقد رأيت الكثير من الناس الذين لا يعتقدون أن التطور هو أمرٌ حقيقي، لأحد الأغراض السابقة أو لأغراض أخرى نعرفها. لكن وفي بعض الكائنات فنحن نشهد التطور أمام أعيننا مباشرةً، هذا ما يسمى بالتطور السريع، حيث التغيرات البيئية الرئيسية في الإفتراس والنجاة، الحصول على الطعام، أو المناخ يمكن أن تجعل الانتقاء الطبيعي يميل لصالح الجينات التي كانت مكبوتة في السابق. ويمكن أن يحدث ذلك في فترة قصيرة جدا من الوقت.
في هذا المقال، نود أن نبرز بعض الاكتشافات على مر السنين، ونأمل في أن نغير من فكرة أن التطور يمثل دائماً تلك العملية البطيئة والغير مرئية التي تستغرق ملايين السنين لتحدث ونثبت أنها ليست دقيقة تمامًا، ونناقش الدليل الفعلي الذي يظهر التطور ظاهرة واردة جدًا يمكن أن تحدث خلال فترة حياتنا ويمكن أن نلاحظها بأعيننا على أمل إقناع بعض الأشخاص الذين لا يصدقون حدوثها.
تدور هذه المقالة حول أمثلة التطور السريع التي تغيرت فيها نسمة الكائنات الحية بشكل كبير مع تكوين أنواع جديدة في غضون بضعة عقود فقط. مثال على هذا التطور السريع الذي تمت ملاحظته مباشرة من قبل العلماء هم “سحالي الجدار الإيطالية – Italian wall lizards” حيث يعيش هذا النوع من الزواحف في جزيرة بود مركارو (Pod Mrčaru). وتتمتع هذه الزواحف بتنوع كبير بين بعضها البعض حيث يعيشون في مختلف المناطق حول البحر الأبيض المتوسط، من البرية إلى مئات الجزر، مما أدى إلى ظهور عشرات السلالات الفريدة التي تكيفت مع مختلف أنحاء المنطقة، إحدى تلك الجزر هي المأوى الوحيد لسحالي الحائط الإيطالية التي تكتسي باللون الأزرق النادر.
التكيف والتنوع الهائل لدى هذه الكائنات جعل منها موضوع إختبار مثالي لمجموعة من العلماء عام 1971 حينما قاموا بإنشاء تجربة تمثلت في أخذ 10 أفراد من هذه الكائنات من جزيرة “بود كوبيست” الواقعة بكرواتيا، نحو جزيرة تبعد بضعة كيلومترات فقط إلى جزيرة “بود مركارو” ذات البيئة التي تكاد تطابق بيئة الجزيرة الأولى، بعد أن قام العلماء بإحضار السحالي إلى الجزيرة ، وكمحاكاة لما كان سيحدث إذا وقعت هجرة من خلال عاصفة أو حادثة انجراف بين الجزيرتين، والآن كل ما عليهم فعله هو الانتظار ورؤية ما حدث لهؤلاء المهاجرين. يجدر بالعلم أنه هذه الجزيرة كانت أيضًا خالية من جميع البشر، لذا لا يحتاج العلماء إلى القلق بشأن أي تفاعل أو تدخل بشري.
النتيجة كانت مثيرة للانتباه، حيث ازدهرت هذه السحالي المستوردة بسرعة كبيرة في البيئة الجديدة، حيث كان لدى” بود مركارو” ظروف متطابقة تقريبًا مع أراضٍ الجزيرة الأولى “بود كوبيست” حيث سحالي الحائط الإيطالية تطورت بشكل مذهل جدا لدرجة أنها اليوم تعتبر سببا في انقراض جميع أنواع سحالي الحائط الأصلية التي كانت تعيش في تلك الجزيرة. نعم، ابتداءا من 10 أفراد فقط!
لكن هناك أمر لفت الإنتباه أكثر في تسعينيات القرن الماضي حينما عاد العلماء بعد 20 سنة من بدء تجربتهم ليجدوا أن السحلية الحائطية ذات الحظ السيء والموجودة في الجزيرة قد انقرضت الآن محليا. لكن ما حدث في الحقيقة هو أنه سحالي الحائط الإيطالية في جزيرة “بود مركارو” أصبحت مختلفة جدا عن أسلافها من جزيرة “بود كوبيست” حيث أظهر تحليل الحمض النووي أظهر أنه في غضون عشرين سنة قام الأحفاد بتغيير جوهري بيولوجياً و تشريحيًا إستجابة لبيئتهم الجديدة، إحدى أبرز هذه التغيرات كانت في الحجم حيث أصبح حجمهم أكبر وصارت أطرافهم أقصر، كما أصبحوا أبطأ عند الركض، بالإضافة إلى أن رؤوسهم كانت أضخم، وازدادت قوة العضّ لديهم مقارنةً بسلفهم، لكن أهم تغير والذي يعتبره العلماء الأقل بروزا، هو أنه تغذيتهم تغيرت. فعلى عكس سلفهم الذي تغذى في المقام الأول على الحشرات، تناولت هذه السحالي كميات أكبر بكثير من الغطاء النباتي، التي يرى العلماء أن قوة العض القوية كانت نتيجة لها. والذي ارتبط بظهور صمامات برازية في الديدان الخيطية في سكان “مركارو” الجدد، التي تشكل حجرة تخمير وباختصار تبطئ المواد الغذائية التي تمر عبرها للسماح لمعظم المواد النباتية مثل السليولوز أن تتفكك أكثر وليتم استخلاص كمية أكبر من مغذياتها بواسطة الكائنات الحية المجهرية. فتعتبر هذه الهياكل الهضمية مفيدة جدا للحيوان الذي يستهلك الكثير من المواد النباتية.
الصممات البرازية (Cecal valves) نادرة للغاية وتتواجد في أقل من 1٪ من جميع الزواحف المعروفة ، لذا كان من المفاجئ أن نجدها في أحشاء هذه السحالي التي كانت تفتقر تمامًا لهذا العضو، فقط في غضون عقدين! كما تبين، فإن السحالي في الجزيرة اكتسبوا بمفردهم وبوضوح صفات جديدة ومعقدة لم يمتلكها أسلافهم على الإطلاق في غضون 20 سنة من خلال التطور السريع من أجل التكيف مع نظام غذائي جديد.
ضع في اعتبارك أن التطور يمكن أن يكون أسرع (في المتوسط) في الجزر بسبب الحجم الأصغر للسكان الذي عادة ما يأتي مع الكثافة السكانية المرتفعة، وذلك أساسا لأن عدد السكان الأصغر في كثير من الأحيان تتكاثر فيما بينها أكثر. مما يجعل الجينات المتنحية أكثر عرضة للظهور، ولكن مع تنوع جيني أقل قدرًا بسبب وجود ما يسميه بعض العلماء “بركة جينات ضئيلة”. لذلك لا أرى أي سبب لعدم حدوث ذلك في بر كبير.
وكمثال آخر، في فترة خمس سنوات فقدت ذكور الصراصير الميدانية البولينيزية (Polynesian field crickets) في هاواي قدرتها على إصدار الضوضاء لتجنب الهجمات الطفيلية، وهذه واحدة من أسرع التطورات البرية المسجلة على الاطلاق. يمكن أن يستغرق تخرجك من الجامعة وقتا أطول من ذلك!
البداية المرجحة لهذا التطور هو طفرة جينية واحدة أدت إلى ظهور صرصور صامت جدا، وساعده صمته على تجنب الهجمات الطفيلية التي كانت تقتل أفراد نوعه. لكن المشكلة هي أن الصراصير الإناث تحب تلك الأصوات التي يصدرها الذكور وتجعل الإناث تقترب منهم، لذلك فالصراصير الصامتة هنا تجد تحدياً كبيراً وهو أن فرصتهم في التكاثر وتمرير جيناتهم الصامتة تقل بما أن الإناث يقتربن من الصراصير المصدرة للأصوات، وهنا كان يجب على الصراصير الذكور أن تغير تصرفاتها فأصبحوا يحومون حول الصراصير المصدرة للأصوات إلى غاية ما يبتعد مصدري الأصوات فتزداد أرجحية تزاوج الصامتين مع الإناث، ثم يتم تمرير جيناتهم مع طفرة الصمت إلى الجيل المقبل. ببساطة نحن الآن نعاصر أمام أعيننا تطوراً سريعاً جعل 90% من تلك الحيوانات صامتة في غضون 5 سنوات فقط، عوضا عن 5 آلاف سنة!
هذا التطور السريع ربما ليس بالضبط ما تصوره تشارلز داروين في عام 1859، حيث كان يعتقد أن أي تغييرات قد تستغرق عدة أجيال، والتي تبدو وكأنها وقت طويل. لكن لا يجب أن تبدو كذلك، فداروين لم يخطأ في تلك التسمية، مع أنه وبالرغم من أفكاره التي غيرت العالم فقد كان ببساطة يراقب الأنماط والتغيرات في البرية، ولم يستطع تحديد سببية ظهور جل تلك الأنماط، فما بالك عن المدة التي يمكن أن تستغرقها. ولكن الآن ومع التقدم في التكنولوجيا الحديثة والبيولوجيا الجزيئية، يمكننا معرفة ذلك. ويمكن لعلماء الأحياء التطوريين تحديد وتعقب التكيفات الجينية الدقيقة للأنواع مع مرور الوقت.
لم نعد في القرن التاسع عشر، والبيئة الأرضية تتغير أسرع من أي وقت مضى، وما كان يستغرق مئات السنين، صار يمكن الآن أن يستغرق عُشر ذلك الرقم أو أقل. قد تظن أنك آمن لأن البشر هم من الحيوانات المفترسة ويقعون في قمة السلسلة الغذائية (البرية) لكنك لست في مأمن من السرعة الجديدة للإنتقاء الطبيعي، حيث يمكن لكل أنواع الكائنات الحية التأقلم بسرعة الآن، وهذا يشمل مسببات الأمراض التي يمكن أن تضر البشر. أو ما أفكر فيه غالبا، البكتيريا المقاومة للدواء. وهذا قادر على تدميرنا بنفس قدرة اصطدامنا بنيزك وأرجحية حدوث ذلك أكبر من أي وقت مضى. لذا يجب على البشر الانتباه إلى التطور السريع أيضًا. ولكن الآن بعد أن عرفنا السرعة الجديدة للتطور في القرن الحادي والعشرين، سيكون لدينا فرصة أفضل في فهم كيفية تأثير بيئتنا على جيناتنا ولدينا فرصة أحسن كذلك في إنتاج أدوية أفضل ووسائل أخرى لتحسين صحتنا وصحة الكائنات الحية حولنا.
لقد قطعنا شوطًا طويلاً من مراقبة داروين للعصافير في جزر غالاباغوس، وملاحظته لمناقيرهم المختلفة التي كانت أساساً لنظريته، حتى بلغنا ما بلغناه اليوم بأن نعرف أن الجين BMP4 هو الجين المساعد في تحديد اختلاف مناقير تلك الطيور التي أسس داروين نظرياته الأولى عليها. نشكر داروين على توجيه تفكيرنا في العلاقة بين الكائنات الحية ونحو ما وصلنا إليه من معرفة في علم الأحياء، كونه أول من وصف بوضوح جميع الظواهر الوراثية الأساسية التي ما زالت تبهرنا إلى يومنا هذا.
تعرف أيضاً على تطور الثعالب الفضية خلال أطول تجربة أحيائية على التطور في التاريخ.
مصادر:
Tinghitella, R. M. “Rapid evolutionary change in a sexual signal: genetic control of the mutation ‘flatwing’that renders male field crickets (Teleogryllus oceanicus) mute.” Heredity 100.3 (2008): 261.
Seeker, “Rapid Evolution Is Real…These Species Changed in Front of Our Eyes”, Youtube, ID: DrgR_tSVdLU
هنالك فرق بين التطور والتكيف…
التكيف لا خلاف عليه، ولكن التطور هو محل الخلاف.
كنت أتوقع وأنا أقرأ المقال أن تتحول السحالي إلى نوع آخر، تماسيح مثلاً أو أي زاحف آخر، لا أن تتكيف مع البيئة الجديدة. كذلك بالنسبة للصرصور الذي بقي صرصور ولم يسعفه التطور لكي يتحول إلى كائن آخر، لقد تطور ليصبح صرصور صامت!
حتى عصافير غالاباغوس بقيت عصافير!!