كثيرًا ما نسمع من علماء الجيولوجيا والأحياء التطورية أو حتى بالأخبار اليومية عن اكتشاف حفريات يعود زمنها لمئات الآلاف أو لملايين السنين أو عن طبقات رسوبية يرجع زمنها لعدة ملايين من السنوات، وقد يشكك المتلقي لهذه الحقائق العلمية بكل بسهولة ويقول “كيف لهم تحديد تلك الأعمار السحيقة بكل هذه الثقة؟ ولم يبق لها أثر واضح تمتاز به عن غيرها بمرور السنين!! فما هذه إلا ظنون” ولك الحق في التشكك، ولكن اسمح لي الآن أن أفتح عينيك على أحد أدق أساليب القياس الزمني التى لم يسبق للبشرية امتلاك أداة مثلها من قبل.
لماذا الإشعاع؟!
أولى الأسئلة التي قد تجول بخاطرك هي: لماذا نستخدم الإشعاع بالتحديد في قياس الأعمار؟ ولماذا لا نستخدم ظاهرة أو طريقة أخرى؟! والإجابة عن هذا السؤال تكمن في معرفة واحدة من أهم خصائص هذه الظاهرة وهي أن المعدلات الإشعاعية تعتمد فقط على نوع العنصر المشع المستخدم ولا تتأثر بدرجة الحرارة أو أي عوامل البيئة مما يجعل منه معيارًا وأداة ذات دقة كونية مهما بعد الزمن وتغيرت الظروف.
مبادئ النشاط الإشعاعي
ينبغي الإدراك أن كل عنصر مشع طبيعي لديه كتلة وحالة استقرار خاصة يحاول الوصول إليها تبعًا لاختلاف عدد البروتونات والنيترونات بالنواة التي يتكون منها بقصد المعادلة بين قوة التنافر الكهرومغناطيسي بين البروتونات والقوة النووية القوية التي تربط أجزاء النواة ببعضها. النشاط الإشعاعي للعناصر يتكون غالبًا من جسيمات ألفا (2 بروتون مع 2 نيوترون) وكذلك من جسيمات بيتا. تتكون المواد من أعداد كبيرة جدًا من الذرات وهناك دومًا نسبة منها تتحلل بالإشعاع في أي توقيت وهذا يعتمد على نوعية ومقدار عدم الاستقرار لهذه الذرات، وحالة الاستقرار هذه يمكن تحديدها وقياسها باستخدام مفهوم مهم جدًا وهو فترة [نصف العمر]. نصف العمر هو الوقت اللازم لتحلل نصف الكمية إشعاعيًا وكل نظير إشعاعي يتميز بفترة نصف عمر ثابتة وطبيعية لا تتغير، ومن الواضح أنه إذا أردت قياس أعمار كبيرة جدًا عدديًا كالتي نتكلم عنها فلابد من استخدام عناصر مشعة يصل فترة نصف العمر لها بين بضعة آلاف إلى بضعة مليارات من السنين.
يجب أيضًا معرفة أن معظم العناصر المشعة تتحلل إشعاعيًا على مجموعة خطوات مما يمكن تسميته [سلسة التحلل] حتى يصل أخيرًا إلى العنصر المستقر ويسمى العنصر الأساسى [الأم] وباقى عناصر السلسلة بالبنت.
ومثال على ذلك اليورانيوم 238 [الأم] وهو من العناصر المشعة غير الثابتة ويتحلل إلى ثوريوم 234 [بنت] والثوريوم أيضًا مشع وغير ثابت ويتحلل إلى بروتاكتينيوم ثم إلى يورانيوم 234 ثم إلى ثوريوم وإلى راديوم هكذا سلسة من التحللات حتى يصل فى النهاية إلى الرصاص 206 المستقر بعد 14 خطوة كما فى الشكل التالي:
معادلة التحلل الإشعاعي (N(t)/N(0
N(t)=N(0)exp(-λt)
تركيز المادة المشعة بعد زمن معين :N(t)
تركيز المادة المشعة عند بداية الإشعاع:N(0)
ثابت التحلل للعنصر الأم:λ
الزمن منذ لحظة بداية الإشعاع:t
معنى المعادلة أن تركيز المادة المشعة يقل بمعدل أسي مع الزمن وهذا المعدل يعتمد على النظير المشع نفسه وفترة نصف العمر له لا على شئ آخر. وهذا يعنى أنه بمجرد تحديد تركيز العنصر المشع فى عينة ما يمكن استخدام هذه المعادلة بمعلومية المادة المشعة فى معرفة كم مضى من الزمن منذ بداية إشعاعها. ولكن السؤال الآن [كيف نفعل هذا؟؟]
تقنية قياس العمر (المطياف الكتلي)
لسوء الحظ، في أغلب الحالات لا نستطيع أن نأخذ المواد (عناصر الأم) لوحدها ولكنها تأخذ أيضا بعض من عناصر باقى السلسلة الإشعاعية [البنت] ولذلك يجب أن يكون هناك طريقة لعزل وتحديد التركيزات بشكل واضح ودقيق، وتلك هى وظيفة جهاز المطياف الكتلي، تحديد نوعية النظائر المشعة ومن ثم معرفة تركيز كل نظير منهم على حدى.
يقوم الجهاز باستخدام درجات حرارة عالية لشحن مجموعة من الذرات بالأيونات ويتم استخلاص هذه الذرات المتأينة ثم فصل المادة والشحنة الكهربية عن بعضها وهنا يأتى دور قياس الأيونات بواسطة بعض المجسات الخاصة التى تتولد بها شحنة كهربية ضعيفة يتم قياسها بدقة وبواسطة هذه القيم يتم أخيرًا معرفة تركيز النظائر المختلفة.
بعض الطرق المعتمد عليها فى تحديد أعمار المواد
أ- طريقة [يورانيوم-رصاص] لتحديد العمر، من أهم وأكثرها انتشارًا وتستعمل هذا الطريقة مثلًا في تحديد عمر معدن الزركون الذي يأخذ كمية كبيرة من اليورانيوم عند تكونيه، ودقة هذه الطريقة فى الوقت الحالي قد تصل إلى 99.9334% يعنى أن الخطأ فى القياس 1 إلى 1500 تقريبًا.
ب- طريقة استخدام الكربون 14 الذى له فترة نصف عمر قليلة نسبيًا ولذلك يستخدم فى تحديد عمر المواد الأثرية فى علم الآثار.
ج- طريقة [بوتاسيم-أرغون] لتحديد العمر، ويتم فيها تحلل البوتاسيم 40 المشع الذى له فترة عمر نصف كبيرة نسبيًا إلى أرغون 40.
وهناك الكثير من الطرق والأنظمة الأخرى واستخدام أي طريقة منها يعتمد فقط على العمر المتوقع للشئ المراد تحديد عمره، هل هو بضع سنين أو بالآلاف أو حتى بالمليارات كما فى التطبيقات الفلكية.
المصادر
- Kenneth S. Krane (1987). Introductory nuclear physics: a textbook for nuclear and radiation students
- Faure, Gunter (1998). Principles and applications of geochemistry: a comprehensive textbook for geology students (2nd Ed.).
- Archaeology: Date with history by revamping radiocarbon dating. Ewen Callaway (02 May 2012) [online]. Available:” https://www.nature.com/news/archaeology-date-with-history-1.10573“
- The Earliest History of the Earth by Derek York [online]. Available:” https://www.scientificamerican.com/article/the-earliest-history-of-the-earth/”