يشرح التوازن المتقطع أنماط حدوث التطور والتغيرات الحاصلة في الكائنات الحية من خلال دراسة السجل الأحفوري لها. ويجيب عن الاسئلة التي تتعلق بالركود الحاصل في تطور بعض الكائنات، أي بقاءها بشكل معين لملايين السنين، مقابل التغيرات التي تحدث على نحو أسرع. ويعتمد التوازن المتقطع على الملاحظات والنقاط الآتية كما يصف إلدريدج وكولد (Eldredge and Gould) الرائدان في تأسيس هذه النظرية:
- السجل الأحفوري هو مصدر غني بالبيانات المفيدة في تطوير الفرضيات التطورية المهمة.
- تنشأ الكائنات بشكل مرتبط بالتنوع الجغرافي، في المجموعات ضيقة والمقيدة جغرافيا التي تحتوي على عدد قليل نسبيا من الأفراد.
- الانواع لا تتكيف بشكل بطيء وتتطور على امتداد فترات طويلة من الزمن الجيولوجي.
- سلالات الأنواع التي تظهر ركودا أو غياباً في التحورات والتغييرات تهيمن على السجل الأحفوري وتوفر معلومات مفيدة عن سرعة وطريقة تطورها.
- عادة لا يكون الظهور الأول للأنواع الجديدة في السجل الأحفوري هو نقطة الأصل التطوري للأنواع، بل تمثل الأنواع الجديدة نوعاً من الأنواع المعزولة جغرافيا ضمن نطاق أسلافها، مع التوسع والوفرة.
- ظهور الأنواع الجديدة يستغرق حوالي 5000-50000 عام، وهو وقت اقصر من متوسط مدة ظهور الأنواع في السجل الأحفوري.
تمتد أهمية التوازن المتقطع على نطاق أوسع من شرح أنماط التطور داخل الأنواع. فقد فتح أمامنا العديد من الطرق الجديدة للبحث وساعد على ابتكار نظام جديد يعرف بالتطور الدقيق (macroevolution) وهو يوسع إدراكنا للهيكل الهرمي للطبيعة وآثارها لفهم الانماط والعمليات التطورية. ويساعد في إعادة دمج علم الحفريات (paleontology) مع الاتجاه السائد لعلم الأحياء التطوري (evolutionary biology).
أمثلة نموذجية
الأمثلة النموذجية على التوازن المتقطع جاءت من بحث إلدريدج وجولد في عام 1972 المتعلق بثلاثيات الفصوص (trilobites) والقواقع (snails) (صورة 2). حيث ركز إلدريدج في بحثه على ثلاثية الفصوص من جنس فاكوبس (Phacops) والتي تتواجد بوفرة في صخور العصر الديفوني الأوسط (حوالي 385-380 مليون سنة) في شرق أمريكا الشمالية. حيث تكون الأنواع المختلفة متشابهة تقريبا، باستثناء اختلافات بسيطة في عدد صفوف العدسات في العين (صورة 3). فقد تطورت الأنواع الجديدة من الفاكوبز بشكل موازي مع تطور الأنواع القديمة، ومن ثم هاجرت مرة أخرى إلى نطاق الاسلاف البيئي والجغرافي، حيث أخذت بالانتشار. بعد أحداث التشكل الأولية لا تظهر الفاكوبز أي تغيرات شكلية كبيرة حتى انقراضها بعد ملايين السنين. كما أن جولد وصف في بحثه نمطا مشابها بشكل ملحوظ يتعلق بالقواقع في أراضي أخرى. وقد تطورت أنواع القواقع الجديدة، والتي تختلف هذه المرة بخصائص قشرتها الدقيقة، ولم تظهر أي تغير كبير بعد أحداث التشكل الأولية.
أمثلة لاحقة
ركزت العديد من الأبحاث اللاحقة على توثيق التوازن المتقطع من خلال الادلة التي تظهر في الركود عند الأنواع. فقد أجرى ستانلي ويانغ (Stanley and Yang) في عام 1987 أحد أكثر التحليلات المثيرة للاهتمام (صورة 4)، الذي أظهر فيه أن أكثر من اثني عشر نوعاً من ذوات الصدفتين (bivalves: حيوان رخوي يشبه المحار) الموجود في العصر النيوجيني استمرت دون تغيير على مدى ملايين السنين. وتم تأكيد التوازن المتقطع من خلال دراسات اجراها جيثمان (Cheetham) في عام 1994 على الحرازيات (Bryozoa) في العصر النيوجيني كما فعل ليبرمان (Lieberman) وآخرون في عام 1995 (صورة 5). وتمت مراجعة كل هذه الدراسات بشكل شامل، مع العديد من الدراسات الأخرى.
استثناءات الركود
على الرغم من أن الركود يبدو وكأنه النمط المنتشر في السجل الاحفوري (أي بقاء النوع دون تغييرات كبيرة)، إلا أن هنالك استثناءات تقدم دليلًا على أن التغير البطيء نادر الحدوث. وتأتي بعض هذه الاستثناءات من أحافير المنخربات (foraminifera). فعند ملاحظة الزمن الجيولوجي، يبدو أن بعض عينات الاختبار من المنخربات تظهر تغيراً تدريجيًا، غير أن انتشارها الواسع في أرجاء المحيط الهادئ جعل من الصعب دراسة نمط هذه التغييرات. كما يصعب أيضاً تحديد ما إذا كانت هذه التغيرات موجودة في جميع الأنواع، أو في نطاقات ضيقة من الأنواع. وقد منح هذا أهمية للآليات التي تسبب ركودا بشكل عام، سواء حدث التغيير في مجموعة واحدة مقيدة جغرافيا أم حدث في جميع الأنواع.
أكثر الدراسات التي تحدت الركود هي دراسة جينجيريج (Gingerich) في عام 1976 والتي أجريت على أحافير الثدييات من حوض البيجورن في غرب الولايات المتحدة، ودراسة شيلدون (Sheldon) في عام 1987 (صورة 6) على ثلاثيات الفصوص من العصر الأردوفيسي (Ordovician) في ويلز. وخلصت كلتا الدراستين إلى أن الأنواع يمكن أن تظهر تغيرات تدريجية في التشكل طوال تاريخها التطوري. ولم تتناول هذه الدراسات سوى جزء من النطاق الجغرافي للأنواع المعروفة. وهذا يعني أن التغيرات التي تمت ملاحظتها قد تكون مجرد تحولات داخل مجموعات فردية، وليس الانواع بأكملها.
النتائج المترتبة على نظرية التطور
أحد الجوانب المهمة للتوازن المتقطع هو أنه يشير إلى أن التطور الدقيق يشمل في العادة تكوين أنواع فرعية بدلا عن التجدد في جميع أفراد النوع، أي أن ما يحدث هو تكون أو تخلق تفرعي بدلاً من التخلق التجددي (التخلق التجددي يفترض التمايز الكلي للنوع الناتج عن النوع الذي تطور منه نتيجة وجود عدد كافي من الطفرات بينما التخلق التفرعي يفترض التدرج)، وتنشأ الأنواع جديدة من خلال عدة اتجاهات التطورية، بدلا عن نشوء سلالة واحدة تتطور وتتباعد تدريجيا عبر الزمن (صورة 7). صحيح أن التكيف والانتقاء الطبيعي يستمران بالحدوث، ولكن تاريخ الحياة تسوده عملية التخلق التفرعي على نطاق واسع. وكل هذه العناصر تؤدي إلى تكوين انتقاء الأنواع (species selection): وهي فكرة تسند على أن الأنواع تتلاشى عبر الزمن ليس بسبب عدم قدرتها على التكيف، بل بسبب معدل الاختلاف بينها.
إن تمييز الأنواع كأفراد، وأن التطور الدقيق هو عبارة عن تخلق تفرعي، وهو يعطي دلالة أكبر للأنواع على المستوى التطوري، كما إن التوازن المتقطع يتضمن الحاجة إلى توسيع هيكلية وإطار نظرية التطور. ويقترح بأن السجل الأحفوري يُعد أحد أفضل مواضع دراسة نظرية التطور بما أنه يوفر الآلية لمتابعة ما جرى للأنواع عبر فترات طويلة جداً من الزمن.
سوابق تاريخية
على الرغم من أن التوازن المتقطع يعد فكرة جديدة، إلا أن إلدريدج وكولد قد ركزا على أعمال من سبقوهما من العلماء، خاصة الأبحاث المتعلقة بالتوليف داروني الجديد (Neo-Darwinian Synthesis) من ماير (Mayr) وسيمبسون (Simpson). فقد رأى سمبسون في نموذجه أنه يجب على العلماء معاملة أنماط التطور المحفوظة في السجل الأحفوري على أنها أحداث حقيقية وليس كشواهد ضعيفة. فعلى الرغم من أن سيمبسون كان يركز على الأنماط التطورية في المستويات العليا، إلا أن إلدريدج وجولد كانا قادرين على تطبيق هذا المنطق في الانماط التطورية للأنواع المحفوظة في السجل الاحفوري. ويجب الإشارة إلى أن كولد وإلديريدج كانا قادرين على إظهار أن عينات الانتواع الجغرافي تحتوي على توازنات متقطعة، بدلا من التغير التدريجي. وهكذا، فإن أحد المبادئ الاساسية للتوليف الدارويني الجديد كانت متوافقة مع التوازن المتقطع أكثر من التغير التدريجي.
وبالنظر إلى أن ماير كان احد علماء التوليف، وأن نموذج الانتواع الجغرافي كان قد تم قبوله عالميا، فإن هذا جعل نظرية التوازن المتقطع في النهاية أكثر قبولا. في الواقع، كانت هنالك حالات أخرى لم تتوافق فيها تنبؤات الداروينية الجديدة مع الواقع علم الأحافير. على سبيل المثال، استطاع كل من إلدريدج وجولد وغيرهم من العلماء من إظهار ان التغير التدريجي في الأنواع على مدى ملايين السنين يكون من الصعب شرحه. وذلك لأن مثل هذه التغيرات سوف تتطلب ضغوطاً انتخابية صغيرة للعمل على مدى ملايين السنين، فمن الصعب تصور تلك الضغوط التي قد تسبب ذلك، أو كيف يمكن تمييز هذه التغيرات بشكل معقول على مستوى التراكم الجيني (Lande 1986). هنا تم جمع اثنين من عناصر الرئيسية للتوليف للإشارة إلى أن التوازن المتقطع كان أكثر واقعية في نظرية التطور من البدائل الأخرى.
هنالك حقيقة أخرى مثيرة للاهتمام وهي أن الركود كان يعتبر أمراً صغيراً وتافهاً في علم الحفريات لعقود من الزمن، وفي الممارسات العملية كان معظم علماء الحفريات يعلمون أنه موجود في كل مكان، لكنهم كانوا غالبا ما يكرهون الاعتراف به خوفا من تحدي علماء الأحياء. غير أن الاهتمام بالركود من قبل إلدريدج وجولد والذي يُعد خطوة جريئة، كان قد تم شرحه بشكل جيد عبر التوازن المتقطع الذي استند إلى مبادئ التوليف الدارويني الجديد.
الخلافات والجدل
أثارت التوازنات المتقطعة جدلا كبيرا ونقاشا واسعا، كما هو الحال عند ظهور أي فكرة جديدة. كان أحد جوانب الخلاف هو الفصل بين ما يعنيه علماء الأحياء وعلماء الأحافير بعبارة “التغير السريع”. بالنسبة لعلماء الأحافير، فإن الفترة التي تتراوح 5000-50000 عام غير كافية لحدوث تغير فهو يعتبر سريع، لا سيما بسبب حدود الاستبانة في السجل الأحفوري والتي يقابلها ملايين السنين من الاستقرار المورفولوجي. وعلى النقيض من ذلك، فهذه الفترة تمثل لإلدريدج وجولد مدة كافية من الوقت: تعتبر أطول من الفترة التي تكفي لحدوث “التغير التطوري التدريجي”. بسبب اختلاف معنى “سريع” بين علماء الأحياء وعلماء الحفريات، كان بعض علماء الأحياء يميلون للنظر إلى التوازن المتقطع على أنه يحدث تغيرا تطوريا فوريا وفعالا (وهو أمر غير صحيح). وفي نفس السياق ذكر إلدريدج وجولد في دراستهم التي قاما بها في عام 1972 وكذلك دراستهم في عام 1977 حريصين على ذكر أن الاختلافات المورفولوجية الصغيرة نسبيا تفصل بين الأنواع ذات الصلة الوثيقة، وعلى وجه الخصوص أن الأنواع المختلفة لم تفصل بينها فجوات تطورية لا يمكن تجاوزها. ومع ذلك كان هنالك ارتباك وجدل حول هذه النقطة.
وفي النهاية، كان هنالك خلاف حول كيفية تحديد الركود. حيث رأى بعض تحدوا التوازن المتقطع أن أي قدر من التغيير داخل سلالة الانواع مع مرور الوقت يعتبر كافيا لاستبعاده من الأدلة التي تدل على الركود. وناقش إلدردج وآخرون على ان الاختبار الرئيسي للركود يجب أن لا يكون اي تغير إضافي. يمكن أن يتطابق نمط عدم تغير الانواع مع الركود المورفولوجي أو نمط اقرب للتشكل بعد تغيرات عشوائية. ستكون مثل هذه الاختلافات مفيدة حول أنواع الآليات التي قد تسبب الركود، وكلاهما سيكون متوافقا مع الركود نفسه.
آليات الركود
كان البحث عن الآليات التي تسبب الركود أحد مجالات البحث المثيرة للاهتمام التي نتجت عن التوازن المتقطع. فقد كان الجزء الأساسي من هذه المسألة هو أنه عبر المقاييس الزمنية التاريخية، من عقود وقرون، كانت الأنواع قادرة على إظهار كميات كبيرة من التغير، ولكن على مدى ملايين السنين كانت ثابتة بشكل أساسي. تم اقتراح ومناقشة مجموعة متنوعة من الآليات الركود في العديد من الدراسات. وكانت أحد إحدى الأفكار التي اقترحها إلدريدج وجولد في عام 1972، هي أن الكائنات الحية داخل الأنواع قد تمتلك بعض القيود التي تعمل على تقييد مقدار ونوع التغيير الموفولوجي الذي يمكن أن يحدث. ما زال الاعتقاد سائداً بأن هذه الآليات تلعب دوراً ما، لكن لم تتم المصادقة عليها تماما لأنه يبدو أن تطور الكائن الحي قد لا يكون قد تمت تغطيته بشكل كامل: فكر في النطاق الهائل للاختلافات في نوع الجيد التي أنتجت سلالات من الكلاب المحلية.
في حين تم اقتراح آلية أخرى تعتمد على حقيقة أن الأنواع تنقسم إلى مجموعات جغرافية مختلفة. وكل واحدة من هذه الأنواع قد تخضع لتاريخ تطوري مستقل عن البقية. ستحدث تغيرات مورفولوجية مختلفة في المجموعات السكانية، والتغير الكلي داخل الانواع عبر الزمن يتساوى مع التغيرات في جميع مكوناتها. بالنظر إلى أن كل من هذه المجموعات سوف تتكيف مع معايير بيئية مختلفة، فإن التغير المورفولوجي سيكون في العادة في اتجاهات مختلفة من نطاق التحورات. لذلك يتم إلغاء إجمالي التغيرات عادة (صورة 5). علاوة على ذلك، ما دامت المجموعات السكانية المختلفة لا تزال قادرة على التهجين، فإن التغيرات تميل للتجانس وستكون النتيجة النهائية هي الركود.
التوازن المتقطع: التطلع للمستقبل
يستمر العلماء بتقييم الأدلة التجريبية للتوازن المتقطع، ويشمل ذلك اجراء اختبارات للركود في الأحفورات. كما أن دراسة طبيعة التغيير سواء كان تحوراً أو كان تغيراً جزيئياً ما زالت مستمرة، ولاسيما لتحديد ما إذا كانت تلك التغيرات ستنتج أنواعاً أم لا. ويناقش الباحثون أيضاً مسألة الانتواع الجغرافي وصلته بالتوازن المتقطع، للاجابة على اسئلة تتعلق بدور الحواجز الجغرافية التي تفصل أنواعاً معينة وتشطر تعدادها إلى قسمين. فضلاً عن الاسئلة حول دور انتقاء الأنواع في عملية التطور.
المصدر:
Punctuated Equilibria, Bruce S. Lieberman and Niles Eldredge (2008), Scholarpedia, 3(1):3806. doi:10.4249/scholarpedia.3806