لتوجيه عملية صنع القرار (decision-making) في مجال الطب، فنحن بحاجة إلى أساليب فعالة لتحديد وتجميع وتحليل كميات كبيرة من المعلومات، وأن مواكبة أي شخص لكمية المعلومات التي يتم توليدها بشكل يومي، هو شيء شبه مستحيل، حتى وإن كان الموضوع الهدف متخصص ومحدد. لذا يمكن أن تكون الأدلة الجديدة غير واضحة بل ومتناقضة أيضًا، ويمكن لـ”أفضل الأدلة” أن تتغير بسرعة. أنظر كيف تغيرت التوجيهات الوقائية منذ أوائل عام 2020 من حيث فائدة الكمامات وأهمية غسل اليدين وكيفية أدارة ما يُعرف الآن بـ “العدوى المنقولة جوًا” (airborne infection).
لنقل أنكم مهتمون بطرق لعلاج عدوى الـكوفيد-19، عندها ستجد أن منظمة الصحة العالمية قد قامت بفهرسة أكثر من 334,000 عملاً منشورًا في قاعدة بياناتها الخاصة بكوفيد-19، وأن قمت بتقييد البحث على التجارب السريرية فقط، فستجد أنه لا يزال هناك قرابة 1000 بحث وهو في زيادة مستمرة. أذن كيف يمكننا تحديد الأدلة عالية الجودة والأكثر أهمية من الأدلة رديئة النوعية، وكيف ينبغي لنا أن نحاول فهم كل تلك البيانات؟
عادة ما تكون التجربة الواحدة غير كافية لتغيير ما اثبتته الممارسات السريرية، ومع ذلك لا يمكن القول أنه أمر مستحيل، وذلك يعود لوجود الكثير من الأمور التي يجب أخذها بنظر الاعتبار عند طرح سؤال طبي محدد وتصميم تجربة ما، مثل كم هي الجرعة المحددة؟ لأي فئة من المرضى؟ ما هو بروتوكول العلاج؟ ماهي نقطة النهاية [1] التي يتم قياسها؟ كم ستكون مدة التجربة؟ هل تم إجراء التجربة بطريقة يمكن اعتبارها “اختبار عادل” (fair test) للعلاج، ما يدل على وجود ضوابط مناسبة؟ يمكن أن يقوم باحثون مختلفين بتجارب عديدة مع مزيج من النتائج المختلفة، المطلوب هو طريقة لتحديد الأفضل ومحاولة تجميع ما قد يبدو كأنه نتائج متضاربة.
في كثير من الحالات، نعتمد على عمل الآخرين لإعطائنا ذلك المنظور، لذا نجد إن المراجعات السردية (Narrative review) (كمنشور في مدونة مثلاً!) هي الأسهل والأسرع، لكنها الأكثر عرضة للتحيز، ذلك لأن بأمكان الكاتب أن يقوم باختيار ما يعجبه من الأدلة التي يود التعليق عليها:
وتميل المراجعة السردية إلى أن تكون مناقشة لموضوع ما، حيث يقرر الكاتب ما هي الأدلة ذات الصلة والجديرة بالمناقشة، ويمكن أن يكون كُتابها خبراء لديهم فهم عميق للموضوع، وسوف يوجزون البيانات ذات الصلة ويخرجون باستنتاجات عامة. هذا لا يعني أن المراجعات السردية غير دقيقة بالضرورة، لكنها يمكن أن تكون عرضة لتحيزات قد لا يكون من السهل الكشف عنها، فالمراجعة السردية تترك القارئ بين يدي المؤلف ولهذا السبب فأن قراءة مراجعة سردية واحدة أو أكثر يمكن أن تكون نقطة انطلاق معقولة لفهم موضوع ما، لكن لا يمكن اعتبارها ملخصات مسندة بأدلة شاملة أو حاسمة لموضوع ما أو مسألة طبية.
المراجعات المنهجية والتحليلات البُعدية
في بعض الأحيان نود أن نعرف ما ينص عليه الدليل الأفضل (best evidence). وهنا نجد أن نقيض المراجعة السردية هي المراجعة المنهجية (systematic review) حيث يتم البحث وتحليل الأدلة بشكل رسمي ومنهجي.
أن المراجعة المنهجية تعد موجز للأدلة التي تتناول مسألة محددة، وتستخدم أساليب واضحة ودقيقة وشفافة لتحديد واختيار وتقييم ودمج الدراسات البحثية، ويجب تحديد التجارب المشمولة من خلال بحث منهجي مع معايير نوعية محددة مسبقًا، والتي يجب أن تنشر قبل البحث نفسه. عندها يحدد الباحثون استراتيجية البحث ومعايير الاختيار (التي تشمل التجارب) والأساليب التحليلية التي سيتم تطبيقها، أن القيام بكل هذا سيقلل من خطر التحيز عندما يتم تحليل البيانات فعليًا. ويحدد موقع (PRISMA[2]) الحد الأدنى من متطلبات البيانات التي ينبغي الإبلاغ عنها في مراجعة منهجية، وتحسين جودة المراجعات واتساقها وشفافيتها.
يمكن أن يكون التحليل البُعدي جزءا من المراجعة المنهجية، لكن يمكن أيضًا أن يكون كافيًا لوحده (يتم تقييم البيانات في المراجعة المنهجية قبل دمجها وتحليلها في التحليل البُعدي) وهو تجميع إحصائي للدراسات المتعددة التي تبحث في الموضوع ذاته، ويمكن أن يكون أداة مفيدة كجزء من المراجعة المنهجية، وإذا تم ذلك بعناية، فمن الممكن أن يعطي “تقديرًا” (point estimate) أو ما يعرف أيضًا بـ”أفضل تخمين” (best guess) لتأثير قد يكون أكثر دقة من أي من التجارب الفردية التي تم تضمينها. لكن كما أن التجارب السريرية الفردية يمكن أن تكون متحيزة، فأن التحليلات البُعدية يمكن أن تكون كذلك أيضًا، ولا يمكن للتحليلات البُعدية أن تصحح البيانات المصدرية الضعيفة أساسًا، أي أنه لا يمكن استخلاص معلومات دقيقة من الأبحاث الخاطئة، وعلاوة على ذلك، إذا كانت التجارب المختلفة تقيس نقاط نهاية مختلفة فلا يمكن دمجها في تحليل بعدي والا سترى شيئًا من هذا القبيل:
وهذا هو التجانس الإحصائي كما نوقش في مقال للدكتور ويليام باولو في آب/أغسطس الماضي:
“عند تحليل بيانات التحليلات البُعدية، يتحتم التركيز على درجة التجانس الإحصائي لتحديد، ما إذا كانت تقديرات النقاط الناتجة عن الدراسات المجمعة مماثلة بما يكفي لدمجها في تقدير مفرد. ومن الناحية النظرية، يمكن تجميع وتحليل العديد من الدراسات الصغيرة باعتبارها مجموعة واحدة من الأدلة، وذلك في حال كانت دراسة المكونات ذات منهجية وتصميم مماثل (إخفاء المعلومات، التوزيع العشوائي، نية معالجة التحاليل وما الى ذلك) أو رفضها إذا لم يكن الأمر كذلك. ومن المطلوب أن تكون الدراسات المدرجة هي ذاتها من حيث التصميم والشمولية ووسائل الاستنتاج والديموغرافيا والجرعات المتساوية والنتائج وعدد كبير من العوامل الأخرى للجمع بين الدراسات المذكورة في مجموعة واحدة من الأدلة، ويتفق مع ذلك توقع أنه إذا كانت الدراسات المدرجة للتحليل البُعدي من نوع متساوٍ، فأن النتائج المستمدة تجريبيًا والتي تؤخذ في ظروف مماثلة ينبغي أن تتقارب بعض الشيء من بعضها الآخر، بعبارة أخرى، مع تساوي كل شيء فأن التجربة الدقيقة ذاتها التي أُجريت في أماكن متعددة من قبل أشخاص مختلفين يجب أن تجد نفس النتائج تقريبًا إذا كانت الدراسات في الواقع مماثلة بما يكفي لتحليلها على أنها واحدة.”
التجارب الكيميائية لدواء إيفيرمكتين[3] “Ivermectin”
مع أخذ ما سبق ذكره بالاعتبار، دعونا نلقي نظرة فاحصة على كيفية إساءة استخدام التحليل البُعدي في الوباء. أن Ivmmeta.com هو موقع كثيرًا ما يشير إليه المدافعين عن الإيفيرمكتين، والذي كما اشار ديفيد غورسكي لأول مرة في شهر حزيران/يونيو قد حضره الاشخاص ذاتهم الذين أنشأوا (hcqmeta.com) (أتذكرون الهيدروكسي كلوروكين[4]؟ كم أصبح قديمًا) ما يثير الإعجاب هو طريقة مراكمة المعلومات مدعيًا أنه “تحليل بعدي ل67 دراسة” بدلاً من الخوض في تفاصيل الانتقادات التي توجه للموقع بالتفصيل.
بأختصار فإن Ivmmeta.com (أو مواقع مشابهة مثل c19ivermectin.com) لا تأخذ بعين الاعتبار جودة وتنوع البيانات التي تجمعها، وكما أشار ديفيد غورسكي، هناك تحذيرات في الكتابات الفعلية حول الموضوع:
” لقد أجرت مواقع مختلفة على الأنترنيت مثل (such as https://ivmmeta.com/ , https://c19ivermectin.com/ , https://tratamientotemprano.org/estudios-ivermectina/ وغيرها الكثير) تحليلات بعدية على دراسات اللإيفيرمكتين أظهرت خطوط متشعبة ملونة لم تنشر من قبل، سرعان ما حازت على تقدير العامة وأنتشرت عبر وسائل التواصل الأجتماعي دون اتباع أي مبادئ توجيهية أو تقارير. أن تلك المواقع لا تشمل تقييد البروتوكول باستخدام أساليب، واستراتيجيات البحث، ومعايير الإدراج، وتقييم نوعية الدراسات المدرجة ولا التأكد من الأدلة الواردة في التقديرات المجمعة. وتمثل عملية التوثيق للمراجعات المنهجية مع بروتوكولات التحليل البُعدي أو بدونها سمة رئيسية لتوفير الشفافية في عملية المراجعة وضمان الحماية من وجود التحيزات، وذلك من خلال الكشف عن الاختلافات بين الأساليب أو النتائج المفاد إليها في مراجعة منشورة، وتلك المخطط لها في بروتوكول مسجل.
تظهر تلك المواقع تقديرات مجمعة تشير إلى فوائد الإيفيرمكتين مما تسبب في الحيرة لدى الأطباء والمرضى وحتى صانعي القرار، وهذه المشكلة تحدث عادة عند إجراء التحليلات البُعدية التي لا تستند على مراجعات منهجية مما يؤدي في الكثير من الأحيان إلى نشر نتائج زائفة أو خاطئة.
ربما تتسائلون أذا قام أحد ما بمراجعة منهجية متينة للإيفيرمكتين؟ الإجابة هي نعم، ولا تعد النتائج مفاجئة (ويبدو أن الإيفيرمكتين لا يعمل)
مجرد أداة وليس مؤشر للجودة
يمكن دمج جميع أنواع البيانات في التحليل البُعدي، وعندما تستخدم في دراسة تجارب عالية الجودة لمجموعات متشابهة والتي تستخدم أساليب مماثلة، فأنها من الممكن أن تكون أدوات قوية، لكن التحليل البُعدي ليس سوى أداة، ولا يمكنه تحويل الرصاص الى ذهب. أن جمع الدراسات رديئة النوعية والتي لا تتسم بقدر كاف من التشابه في تحليل بعدي لا يعطينا أي معلومات ذات نفع، وفي غياب القواعد الصارمة والشفافة والمحددة سلفًا فأن التحليلات البُعدية تكون عرضة للتحيز، تماما كما يحدث في التجارب السريرية التي يجريها المصدر نفسه. لذا ينبغي النظر بحذر إلى التحليلات البُعدية التى تُعد خارج إطار المراجعة المنهجية الدقيقة.
المقال الأصلي
Scott Gavura, “The misuse and abuse of meta-analyses“, sciencebasedmedicine.org, November 25, 2021
هوامش
[1] نقطة النهاية السريرية: مصطلح يستخدم في التجارب السريرية للدلالة على ظهور مرض أو عرض أو علامة أو خلل مخبري يتعارض مع الأهداف المرجوة من التجارب.
[2] إختصار لـ (Preferred Reporting Items for Systematic Reviews and Meta-Analyses) أفضل أداة إعداد التقارير للمراجعات النهجية والتحليلات البُعدية.
[3] عامل مضاد للطفيليات له استعمالات واسعة، تم الترويج له من قبل العديد من الأطباء على أنه يساهم في علاج الكوفيد-19 أو يقي من الأصابة به رغم عدم وجود أدلة قوية على فعاليته.
[4] دواء يستخدم للوقاية والعلاج من أنواع معينة من الملاريا وقد صرح دونالد ترامب عن فعاليته في علاج فيروس كورونا المستجد مما سبب ضجة على موقع التواصل الأجتماعي لكنه لم يثبت فعاليته.