كان مايكل نشيطاً على الدوام، يحب الرياضة، معتداً بنفسه وصحته، لكنه لاحظ تغييرات في جسمه، فأصبح يشعر بالإرهاق بعد جهدٍ بسيط، وبالألم في قدميه، كما يُغالبه ضيق في الصدر. فجأة وهو يمشي دق قلب مايكل داخل صدره كالطبل الهائج، فتردد صداه إلى أذنيه، قبض مايكل على صدره، حتى أصبح ايقاع أنفاسه قصيراً وعلى شكل لُهاث متقطع، ثم تغشتهُ موجة من الدُوار فتعثر مُستنداً إلى جدار بالقرب منه، ثم تشوشت رؤيته، فهبط إلى الأرض حيث لم تعد قدماه تعيناه على الوقوف، واشتد الدوار عليه فشعر أن رأسه يلف كالمغزل، حاول أن يُغلق عينيه طالباً الثبات؛ إلا أن شعوره بالدوار أصبح أسرع فأسرع. ثم انبثق ألم حاد من صدره مصحوباً بتلهفٍ للهواء، فأصبح قلبه يضرب بقوة أكثر، وشعر بقطرات عرق باردة تنسلُ خلال جبهته، واعتراه الرعب جراء ما يجري، في هذه الأثناء لمحت أطياف زوجته و أولاده أمام عينيه، فلم يحتمل فكرة أنه سيتركهم خلفه، استجمع شتات نفسه بدفقة من الأدرينالين وتمكن من أن يزحف نحو هاتفه متصلاً بالإسعاف؛ كان صوت عامل البدالة هادئاً ومطمئناً؛ أرشده إلى التعليمات لحين وصول سيارة الإسعاف. وعندما وصل المُسعفون هرعوا به إلى المشفى، وفي ردهة الطوارئ عمل الأطباء والكادر الصحي على استقرار حالته، فقاموا بإجراء التحاليل المختبرية، ونظموا له العلاج، وراقبوا علاماته الحيوية بعد اعطاءه جرع محددة من العلاج، فكان التشخيص واضحاً؛ كان مصاباً بإحدى أنواع متلازمات ارتفاع الدهون الوراثية، تلك المتلازمة التي نخرت جسد مايكل بصمت لعدة سنوات، فما هي هذه المتلازمة؟ وكيف تحدث؟
التعريف العام بالسلسلة
تنتمي هذه المتلازمة إلى نوع من الأمراض يدعى بالأمراض الوراثية الايضية Genetic-metabolic diseases وتعرف هذه الأمراض بأنها: أنواع مختلفة من الحالات المرضية التي تسببها العيوب الجينية الموروثة من كِلا الأبوين، تؤدي هذه العيوب إلى اعتلالات في أيض الجسم، وقد تُدعى أيضاً بـ (العيوب الخُلقية للأيض) والأيض؛ مجموعة من التفاعلات الكيميائية المعقدة التي يستخدمها الجسم في عمليات الحفاظ على ديمومة الحياة، مثلاً عملية إنتاج الطاقة، وعملية تفكيك الطعام أو مواد معينة من قِبل انزيمات خاصة، وعندما لا تعمل هذه التفاعلات بصورة صحيحة بسبب انخفاض في نسبة الهرمون أو الإنزيم يؤدي ذلك إلى حدوث الاضطراب الأيضي، أما الاضطراب الأيضي- الجيني فيقع في فئة مختلفة عن الاضطراب الأيضي الاعتيادي؛ وتعتمد على مادة بعينها وتكون هذه المادة عادةً قليلة جداً أو معدومة[1].
ما هو ارتفاع القطيرات الدهنية العائلي؟
ارتفاع القطيرات الدهنية العائلي Hyperchylomicronemia هو حالة شديدة النُدرة وتكون بشكل اضطراب وراثي جسدي متنحي Autosomal recessive disorder، تتواجد في واحد من مليون شخص، ويظهر في السنوات الأولى للطفل، مصحوباً بمجموعة من الأمراض، مثل:
تضخم الكبد والطحال Hepatosplenomegaly.
الورم الأصفر الطفحي Xanthoma.
ارتفاع الدهون الثلاثية الحاد Hypertriglyceridemia
وقد يصاحب تلك الامراض التهاب البنكرياس Pancreatitis
يصل تركيز الدهون الثلاثية بالدم لمرضى النوع الأول من متلازمة ارتفاع الدهون بالدم(1000-10000) مليغرام للديسيليتر (مع أن النسبة الطبيعية يجب أن تقل عن 150 مليغرام للديسيليتر)، وعندما ترتفع نسبة الدهون بالدم إلى 2500 mg/dl تحدث حالة ارتفاع الدهون في شبكية العين، وتبيض الاوعية الدموية داخل الشبكية، ويظهر ذلك بوضوح عند إجراء فحص بتنظير قاع العين (Fundoscopic examination)، تنتج عن آلية هذا الفحص نتيجة سريرية تنص على أن القُطيرات الدهنية (Chylomicron) كبيرة الحجم والغنية بالدهون الثلاثية TG، عندما تسري بمجرى الدم فإنها تسبب تشتت الضوء الداخل إلى العين من جهاز الناظور.
تُلاحَظ الأعراض السريرية لهذا المرض الوراثي في فترة الطفولة المُبكرة وتتلخص هذه الأعراض بـألم حاد في البطن، مع دُوار وقد يحدث تقيؤ، وتعود هذه الأعراض إلى التهاب البنكرياس نتيجة لارتفاع مستوى الدهون الثلاثية بالدم، كما ينتشر الورم الأصفر الطفحي ويكون هذا الطفح على شكل بثور صفراء-برتقالية اللون يتراوح حجمها من (2-3) ملم، تنتشر على ظهر راحة اليد، وعلى المؤخرة، وعلى مناطق سطحية أخرى من الجلد.
ومن الجدير بالذكر أن حاملي – المزدوجات الجينية المتباينة المسببة لنقص اللايبيز الخاص بتنظيم الدهون- تتشابه مع غير الحاملين لهذا الجين (الاصحاء)، حيث يُظهر المصابون بهذا الاعتلال مستوى طبيعي من الدهون الثلاثية بعد سن الأربعين، بعد ذلك؛ فإن مجموعة ثانوية منهم يطورون مستوى خفيف من ارتفاع الدهون الثلاثية Hypertriglyceridemia، مع انخفاض متوسط الكوليسترول عالي الكثافة HDL، ومن ناحية أخرى؛ يظهر على عدد قليل من المرضى (حاملي الجين المعتل)؛ أعراض النوع الخامس من ارتفاع الدهون الوراثية (ارتفاع الدهون الوراثي المختلط)[2].
الأسباب
ان الالية المُمرضة الأكثر شيوعاً لحدوث هذا الاضطراب هو غياب أو تشوه إنزيم لايبيز الدهون البروتينية (LPL)، لأن غياب هذا الأنزيم يسبب تأخر وعدم اكتمال عملية التقويض الأيضي للدهون البروتينية المشبعة بالدهون الثلاثية، مثل: القطيرات الدهنية، والكوليسترول واطئ الكثافة جداً (VLDL)؛ الموجودة في بلازما الدم، وهذا يؤدي إلى ارتفاع الدهون الثلاثية.
أما الكوليسترول عالي الكثافة (HDL) فتكون بمستويات قليلة نوعاً ما، أما الكوليسترول الكلي فيكون مرتفع قليلاً في هذه الحالة المرضية.
بالرغم من الفجوة الواسعة في نسبة الكوليسترول إلى الدهون الثلاثية فإن هذا المرض لا يُطور تصلب في الشرايين أو أي مرض قلبي- وعائي (CVD) لدى الطفل.
وهناك سبب آخر لتكون النوع الاول من ارتفاع الدهون الوراثية، بالرغم من أن هذا السبب من أكثر الأسباب نُدرة؛ إلا أنه يستحق الذكر: وهو خلل جيني متنحي نادر يتضمن غياب الجين المسؤول عن صميم البروتين (apolipoprotein) واسم هذا الجين هو (apo c-II)، ويلعب صميم البروتين دور حمل الكوليسترول في مصل الدم وبذلك يساهم في تكوين الأنواع الأخرى من الدهون، ويكون على شكل كماشة تمسك بجزيئة دهنية، وبغياب هذا الجين سيختفي صميم البروتين وبذلك سيؤدي إلى ضعف ترشيح القُطيرات الدهنية إلى الدم، ثم تتراكم الدهون الثلاثية بمصل الدم وقد يرتفع الكوليسترول منخفض الكثافة (VLDL) جداً[3]. ويحدث هذا الارتفاع بوجود فعالية جيدة لإنزيم اللايبيز.
التشخيص
يُشخص النوع الأول من ارتفاع الدهون بقياس فعالية إنزيم لايبيز الدهون البروتينية، ثم يتم تنظيم إعطاء الهيبارين لتتمكن الخلايا الغشائية المرتبطة بالإنزيم من الانطلاق، ومما يؤسف له؛ عدم وجود اداة كيميائية تجارية لقياس فعالية هذا الانزيم، لذا يتم التشخيص سريرياً، بالاعتماد على الشكل السريري وعلى مؤشر من الاحتمالات المستندة إلى وجود مواصفات سريرية معينة، لذا سيكون على الطبيب أن يجري تشخيصاً وراثياً بإجراء فحص جيني لتحديد مدى تشوه الإنزيم المرضي. أو؛ يقوم الطبيب بإجراء فحص كيميائي-حيوي بإرسال عينة من بلازما الدم إلى إحدى المختبرات المتخصصة بالدهون لتحديد فعالية الانزيم، مع الأخذ بعين الاعتبار أن الاعتماد فقط على التشخيص الكيميائي الحيوي، دون أن يلحقه تأكيد من الفحص الجيني؛ يعطي نتيجة سالبة مزيفة، ومعنى سالب مزيف هو؛ لأن الإنزيم يستمر بالفعالية عند فحصه كيمياوياً، حيث يظهر طبيعياً في حالة التباين الزيجي للجين؛ في حين أن التشوه الجيني قد أصاب جينات أخرى تؤثر في نشوء الحالة المرضية لإرتفاع الدهون الوراثية من النوع الأول.
حلول علاجية
تُعالج هذه المُتلازمة بالاستعانة بفريق عالي التخصصية يتضمن أخصائي غدد صماء، واخصائي تغذية، ومجموعة إسناد للمريض، ومجموعة عناية أولية. حيث أن عماد علاج هذه المتلازمة هو ضبط وتحسين الغذاء، بخفض استهلاك الدهون إلى أقصى حد، حيث يتم تناول الأغذية الغنية بالألياف و النياسين (فيتامين B3)، والاحماض الدهنية نوع أوميغا 3، حيث يهدف هذا البرنامج العلاجي إلى خفض مستوى الكوليسترول واطئ الكثافة جداً، أو رفع فعالية إنزيم لايبيز الدهون الثلاثية. كِلا الآليتين لا يمكن لهما التأثير في مستوى القُطيرات الدهنية، لذلك يجب أن يتناول المرضى غذاء حاوي على نسبة ضئيلة جداً من الدهون لا تتجاوز 20-30 غم باليوم، ويتم حث المرضى على أخذ أغذية تحتوي على سلاسل متوسطة من الدهون الثلاثية لأنها قابلة للانحلال بالماء ولا تتحول إلى قطيرات دهنية، كما يجب اعطائهم أحماض دهنية أساسية مثل حمض الفا-لاينولينك (alpha-linolenic) وحمض لاينولينك، بالإضافة إلى فيتامينات منحلة بالدهون. أما المحظورات؛ فعليهم تجنب تناول الكحول، وتجنب أي دواء يسبب زيادة في الدهون الثلاثية مثل: معوقات بيتا (التي تستخدم لخفض ضغط الدم)،ثيازيد ديوريتك (مدرر يستخدم لخفض ضغط الدم)، والاستروجين الخارجي.
إن هدف هذا البرنامج العلاجي هو خفض الدهون الثلاثية إلى أقصى حد في حالة التهاب البنكرياس حيث يجب أن يتراوح في مدى (750-880) mg/dl لذلك تكون الحمية الغذائية قاسية جداً ولا يستطيع اغلب المرضى الالتزام بمقاديرها، لذلك من الضروري إجراء الاستشارة والمتابعة من قبل اخصائي الغدد الصماء أو متخصص بأمراض الدهون، وأخصائي التغذية.
وقد يتم إجراء فصد البلازما (Plasmapheresis) خصوصاً للحوامل المصابات بهذا المرض: وهي عملية تبديل كلي للدم المشبع بالدهون بدم طبيعي، بعد العملية تنخفض الدهون سريعاً، فيؤدي إلى تسكين الألم والانزعاج نتيجة أعراض التهاب البنكرياس.
يعتبر (Alipogene tiparvovec) أول علاج جيني يحصل على تصريح للاستخدام في أوروبا، حيث أُعتقد أنه يؤدي إلى خفض الدهون الثلاثية بنسبة 40% بعد 12 أسبوع من بداية المعالجة؛ انقطع إنتاجه منذ 2017، أما (Volanesorsen) فقد أظهر نتائج جيدة، حيث أنه خفض الدهون الثلاثية بنسبة (50-80)% في المراحل التجريبية الثانية والثالثة ويُنتظر الموافقة على استخدامه حالياً[4].
المصادر
[1] Inherited metabolic disorders, Mayo Clinic
[2] Type 1 Hyperlipidemia, Science Direct
[3] JD, BRUNZELL. “Familial lipoprotein lipase deficiency, apo C-II deficiency, and hepatic lipase deficiency.” The metabolic and molecular bases of inherited disease (2001): 2789-2816.
[4] Regmi, Manjari, and Anis Rehman. “Familial hyperchylomicronemia syndrome.” (2019).