مقال: ستيفن نوفيلا – ترجمة: حسين غالب
برأيي إن أكثر الاخبار التي تم تداولها في السنة الاخيرة هي الاخبار المتعلقة بالتطور الحاصل في مجال الذكاء الاصطناعي. تطبيقات الذكاء الاصطناعي المختلفة مثل ChatGPT,DALLE-2, Midjourney هي تطبيقات ليست بالجديدة فهي معروفة من قبل المختصين ولها تقنياتها التي تُحدث بصورة مستمرة وتدريجية، ولكن الضجة بدأت حولها بعد أن تم طرحها للاستخدام من قبل عامة الناس من غير المختصين.
غالبا ما تمر التقنيات الجديدة بعده مراحل بعد انتشار استخدامها بين الناس، ففي بداية الامر هناك طور المبالغة حيث تتحدث الصحف والمجلات عن التقنية الجديدة وكيف يمكن أن تغير العالم. فعلى سبيل المثال منذ عقدين من الزمن اعتقد الاغلبية أن الخلايا الجذعية سوف تعالج عدد لا نهائي من الأمراض في المستقبل. بعد طور المبالغة يبدأ طور الاحباط حيث يتضح أن أغلبية الادعاءات مبالغ فيها وغير واقعية، ولكن في الوقت نفسه فإن التطور التدريجي في هذه التقنيات مستمر، ولكن محدود بعدد معين من التطبيقات.
بكل تأكيد فإننا حاليًا في طور المبالغة مع تطبيقات الذكاء الاصطناعي. لقد جعل تطبيق ChatGPT بالتحديد العديد من الأشخاص قلقين من إمكانياته وتداعياتها. كما يشير اسم التطبيق فهو عبارة عن برنامج محادثة مزود بكميات هائلة من المعلومات. فهو ينتج إجابات مقنعة للأسئلة التي تطرحها، كما يمكنه أن يكتب مقالة كاملة عن موضوع معين تطلبه منه، جعلت هذه القدرة المسؤولين عن النظام التعليمي قلقين، لأن كل إجابة تكون فريدة وغير مكررة مما يجعل كشفها أمر صعب جداً من قبل البرامج المخصصة لكشف السرقات العلمية.
بدأت هالة المبالغة حول هذا البرنامج تقل شيئًا فشيئًا. فقد قام موقع CENT بتصميم النسخة الخاصة بهم من ChatGPT لمساعدة المحررين في تحرير المقالات. لقد قاموا بذلك على سبيل التجربة واختبار إمكانيات البرنامج، لكنهم اكتشفوا أن بعض المقالات الناتجة كانت تحتوي على أخطاء فادحة. لقد عرفوا بسرعة الامكانيات المحدودة للبرنامج. أعتقد أننا بدأنا بالانتقال بسرعة إلى مرحلة تقليل المبالغة حول ChatGPT (من حسن الحظ أن الأمور تسير بسرعة مع وجود التقنيات الحديثة)
لقد قمت شخصياً بتجربة جميع تطبيقات الذكاء الاصطناعي المذكورة في هذا المقال وذلك لمعرفة ما تستطيع أن تقوم به. أعتقد من خلال تجربتي أن هذه التطبيقات قوية جدًا، ولكن هناك حدود لإمكانياتها. بالتأكيد إنها لا تستطع استبدال القدرة البشرية، ولكن من الممكن أن تكون وسيلة مساعدة فعالة جدًا فالرسامون على سبيل المثال من الممكن أن يستخدموا الذكاء الاصطناعي لابتكار لوحات رقمية جميلة وكذلك الكتاب يمكنهم استخدام ChatGPT كجزء من عملية البحث، ولكن بدون الاعتماد الكلي على صحة المعلومات التي يطرحها.
السؤال المهم هو كم من الوقت نحتاج حتى يصبح ChatGPT جزء من النظام الطبي، أعتقد أن الإجابة الأفضل هي بأقرب فرصة ممكنة. هناك جهود هائلة لتوفير المعلومات العلمية إلى الممارسين الصحيين لتحسين الرعاية الطبية الخاصة بالمرضى. لا أعتقد أن برامج الذكاء الاصطناعي مثل ChatGPT يمكن أن تمارس دور اساسي في الطب في الفترة القريبة القادمة ولكن من الممكن أن تصبح أداة مساعدة للأخصائيين في مجال عملهم.
إن المعلومات العلمية المتاحة حاليا للأخصائيين كثيرة جداً ومتشعبة، حيث يقدر عدد المجلات العلمية بحوالي 30000 ألف مجلة تنشر ملايين الأبحاث العلمية سنويًا. عادة ما يستخدم الأطباء محرك بحث غوغل في عملهم، فأنا أفعل ذلك (بنسبة 70%)، فغوغل يساعدني في الوصول إلى المعلومات التي أريدها بصورة اسرع من قواعد البينات الطبية الاعتيادية. ولكن بالتأكيد فأنا ايضًا اعتمد على المواقع العلمية الرصينة مثل PubMed فقد استخدام غوغل في البداية ولكني دائماً ما اتحقق من المعلومات من خلال المواقع العلمية الموثوقة.
ما نحتاج اليه هو أداة يمكنها البحث في الملايين من الدراسات العلمية والمقالات واستخراج المعلومات المفيدة منها. وهذا بالتأكيد هو الوظيفية الأساسية لتطبيقات الذكاء الاصطناعي. النسخة الحالية من ChatGPT مزودة فقط بمعلومات من عام 2021 ولذلك لا تعتبر المعلومات التي يقدمها محدثة بصورة مستمرة. يجب أن تكون النسخة الطبية من ChatGPT محدثة بصورة مستمرة بأخر المعلومات الطبية كما يجب أن تكون مزودة بأخر الدراسات ونتائج المؤتمرات وآراء الخبراء في مختلف المجالات الطبية. سيحتاج التطبيق أيضًا إلى التعديل في طريقة عرض المعلومات لتكون بتنسيق أكثر فائدة للباحثين والممارسين، مثل توفير الاستشهادات والروابط للمصادر الأولية ذات الصلة.
كما يجب أن تكون الاجابات المقدمة من التطبيق مفصلة بصورة أكبر، فعلى سبيل المثال من الممكن أن تكون الإجابة الأولية مختصرة، ولكن يجب أن تكمل بإجابة كاملة مفصلة ومزودة بمصادر رصينة. يجب أن يكون مثل هكذا نظام مراقب بصورة مستمرة لتقليل الأخطاء التي قد تحصل وتعديلها، كما يجب أن يدرب العاملين في المجال الصحي على كيفية تجنب نقاط الضعف في النظام والاستفادة من نقاط القوة الموجودة.
ومع ذلك، يمكن لمثل هذا النظام أن يكون نظامًا طبيًا مفيدًا بصورة كبيرة، حيث يوفر بسرعة المعلومات التشخيصية والعلاجية للأطباء، ويمكنه ملاحظة التداخلات الدوائية والآثار الجانبية، مما يحسن الرعاية الصحية المقدمة للمرضى بشكل عام. في العادة لا يكون الأطباء دائمًا على اطلاع على أفضل الممارسات الطبية، كما أن العديد من المرضى لا يحصلون على المستوى الأمثل من الرعاية واحد هذه الاسباب أن توصيات الممارسة تتغير باستمرار، ومن الصعب مواكبة ذلك بصورة دائمة.
للحصول على فكرة عن مستوى ChatGPT الطبي الآن، قدمت له السؤال التالي: “ما هي اخر التوصيات الطبية لعلاج الصداع العنقودي؟” وهذا كان رده:
“إن اخر التوصيات الطبية لعلاج الصداع العنقودي تتضمن عادة مجموعة من العلاجات الوقائية والموقفة. تهدف العلاجات الوقائية إلى تقليل عدد وشدة نوبات الصداع، وقد تشمل أدوية مثل فيراباميل، وفالبروات الصوديوم، والكورتيكوستيرويدات. بينما تُستخدم الادوية الموقفة لوقف النوبة الحادة بمجرد بدايتها، وقد تشمل العلاج بالأوكسجين وأدوية التريبتان والتخدير الموضعي. في بعض الحالات، قد يوصى الاطباء بإجراءات جراحية مثل تحفيز العصب أو اغلاق الأعصاب. من المهم ملاحظة أن أفضل خطة علاجية تختلف من مريض إلى أخر اعتمادًا على حالة المريض وشدة أعراضه، ويجب على المرضى العمل بشكل وثيق مع مقدم الرعاية الصحية الخاص بهم لتحديد أفضل مسار للعمل”
هذه إجابة جيدة، ولكنها مناسبة لمستوى معلومات المرضى وليس الأخصائيين، فمثل هذه الإجابة تشبه ما قد يقرأه المرضى في موقع WebMD (اعتقد أنه المصدر الأساسي لهذه الإجابة) بدلا من مصدر خاص موجه للأطباء. أعتقد أن هذا المعلومات المختصرة تعتبر بداية جيدة، ولكن يجب أن تلحق بمعلومات مفصلة أكثر ومتشعبة. كما يجب أن يدرب الممارسين الصحيين أيضًا على طريقة طرح الاسئلة للحصول على أفضل المعلومات من البرنامج أو أن يسألوا عده اسئلة متسلسلة للحصول على اجوبة كاملة تساهم بتقديم أفضل رعاية صحية للمرضى.
أجريت بعض الاختبارات المبكرة لمعرفة قدرات ChatGPT لتشخيص أمراض معينة أو وضع خطة علاجية لمرض معين مع تقديم روابط المصادر المستخلص منها المعلومات. كانت النتائج مثيرة للاهتمام. ففي كثير من الحالات، بدت الاجابات جيدة وموثوقة. ولكن عند الفحص الدقيق، تبين أن العديد من المراجع المقدمة كانت مزيفة. يبدو أن البرنامج قد أعاد بناء أدلة تبدو سليمة ومعقولة بدلاً من الإشارة إلى أدلة حقيقية. من الواضح أن بعض الجوانب الأساسية لكيفية عمل ChatGPT ستحتاج إلى التغيير قبل أن يصبح البرنامج نظامًا طبيًا معتمدًا.
لقد وجدت أن هناك كمية جيدة المعلومات المعطاة لتوجيه الممارسين لكن هناك الكثير من المعلومات التي تكون الأجزاء المهمة منها مدفونة ويصعب العثور عليها. ولكن بمجرد حل مكامن الخلل الأساسية، فإن مثل هذا النظام لديه القدرة على رفع متوسط مستوى الرعاية الصحية التي يتلقاها المرضى بشكل كبير، وتقليل الأخطاء، وتحسين كفاءة وفعالية الممارسات الطبية من حيث تقليل التكلفة. أن الفوائد المحتملة كبيرة بما يكفي بحيث تستحق استثمارًا كبيرًا. وحتى لو استثمرت الحكومة، على سبيل المثال، بضعة مليارات من الدولارات في تطوير مثل هذا النظام، فمن المحتمل أن تغطى تكاليف الاستثمار من خلال مدخرات الرعاية الصحية.
أحد الجوانب التي يجب مراعاتها هي أن أنظمة الذكاء الاصطناعي ليست آلات تفكير، ليس لديهم فهم. إنها ببساطة تعكس البيانات التي تم تدريبهم عليها. ولذلك فهم يحملون جميع التحيزات والافتراضات ووجهات النظر الموجودة في بيانات التدريب. وسيكون للنظام أيضًا أولوياته الخاصة – عند التوصية بالعلاجات، هل سيعطي الأولوية للتكلفة، أو للفعالية مهما كان الثمن، أو تقليل فترة المرض، أو تقليل الآثار الجانبية، وعلى أقل تقدير ينبغي أن يكون هناك وضوح في كيفية تحديد أولويات النظام. وربما قد تكون هناك إعدادات لضبط الأولويات المختلفة – على سبيل المثال، “اعداد خيارات حسب تكلفة العلاج”.
ما لا يمكن إنكاره هو أن تطبيقات الذكاء الاصطناعي الجديدة قوية للغاية ومثيرة للإعجاب. ولكنها ليست صناديق سحرية، ولا تمتلك نبوءات لتوزيع الحقائق. إنها أدوات يمكن استخدامها لتحقيق فائدة كبيرة أو ضرر كبير، اعتمادًا على مدى تفكيرنا وحرصنا. سيتمتع النظام الطبي المعتمد على هذه التكنولوجيا بإمكانيات هائلة لإحداث تحول في ممارسة الطب. وفي غضون 20 عامًا، قد نتساءل كيف تدبرنا الأمور بدونها. ولكن علينا أن نمضي قدماً بحذر وواقعية.
المصدر :
Steven Novella, “ChatGPT as a Medical Expert System” ,Science based medicine, February 1, 2023
تم نشر المقال في العدد 60 من مجلة العلوم الحقيقية وراجعته لغويا ريام عيسى