يعد التعاطف (compassion) أساسًا لإحدى مدارس العلاج النفسي الحديثة، العلاج القائم على التعاطف (compassion-focused therapy) الذي أسسه بول جلبرت في الثمانينات. اعتبر جلبرت أن نقد الذات والعار هما مشكلتان أساسيتان قد تتسببان في معاناة كبيرة للأشخاص من حيث شعورهم بالأمن والراحة والاطمئنان، واستهدف بشكل رئيسي أصوات العار ونقد الذات بداخلنا من خلال ترسانة من التمارين الشخصية، والإجراءات التي يتخذها المعالج، والفلسفة التي نشرها في أبرز كتبه مثل العقل المتعاطف (The Compassionate Mind) [1] المنشور عام 2009 والحائز على أهمية كبيرة في الجانب الأكاديمي وفي القراءة الشخصية.
بقدر ما تبدو تسمية العلاج المتمركز حول التعاطف (CFT) وكأنها مجال أدبي روحاني، فإنه يعد من أكثر مناهج العلاج النفسي علمية. يسهب جلبرت في شرح الأصول العلمية لكل ممارسة يقدمها، ومن ذلك نمط التأمل الذي يعد جزءًا أساسيًا من مدرسة التعاطف. يتطرق جلبرت إلى الجانب التطوري، علم الأعصاب، الهرمونات، أثر الثقافة، أثر نمط الحياة، وغيرها. ويتبنى جلبرت إلى حد كبير الفلسفة الشرقية مقتبسًا منها الكثير، ولاسيما ما يجد أنه يوافق البحث العلمي.
التعاطف هو أمر تضيق بوصفه اللغة العربية، لكن بالإنجليزية يبتدئ الأمر من التعاطف التلقائي (sympathy) الذي يحدث لدينا حين نشاهد أمرًا محزنًا أو مفجعًا، ثم إلى التعاطف التفاعلي (empathy) حيث نقحم تفكيرنا في الأمر واضعين أنفسنا محل الشخص الذي نتعاطف معه بتفاعل، ثم التعاطف كموقف (compassion) (على الأقل وفق تعريف جلبرت) وهو وعينا العميق بمعاناتنا ومعاناة الآخرين مع الرغبة والسعي لتخفيفها وإزالتها. وفيما يتضمن التعاطف التفاعلي عملية تفكير بالإضافة إلى المشاعر، فإن التعاطف بصفته موقفًا قد يتطلب فعل الكثير، بما في ذلك إطلاق العنان لبعض المشاعر التي قد لا تبدو قريبة من التعاطف مثل الغضب حينما تقتضي الحاجة لذلك، أو اتخاذ مواقف قد تتضمن اختيار أهون الشرين حتى لو اقتضى ذلك المعاناة من بعض الألم لفترة ما في سبيل مستقبل أفضل.
[ملاحظة: إن تصنيف التعاطف إلى تلقائي، تفاعلي، موقف هو أمر قمت به لعدم عثوري على نظير يشرح أصناف التعاطف تلك بالعربية].
يرتكز العلاج المتمركز حول التعاطف على الحقيقة العلمية بأن لدينا ثلاثة أنظمة متفاعلة من المشاعر: نظام التهديد، نظام التهدئة، ونظام التسيير. تنتمي مشاعر الغضب والاشمئزاز والقلق إلى نظام التهديد وهي بطبيعتها إذن قادمة من ذات النظام، أما السعي للمكافأة والإثارة والرغبة في إحراز النجاح فهي تنتمي إلى نظام التسيير، أما تلقي العطف أو تقديم العطف والرعاية والشعور بالانتماء والشعور بالحميمية فهي تنتمي إلى نظام التهدئة. تشكل هذه الأنظمة محور التفكير في العلاج القائم على التعاطف. فلسفة العلاج تتضمن جعل الانتقال بين أحوالنا المزاجية وبين تلك الأنظمة أكثر سلاسة وواقعية بدلاً من أن نميل بشكل زائد نحو أحدها بفعل التأثيرات المختلفة من الوراثة وحتى التربية وظروف الحياة. فهم هذه الأنظمة مهم لمن يخضع للعلاج القائم على التعاطف. يمكن للتعاطف كموقف في الحياة أن يسهل مهمة التناغم بين تلك الأنظمة مما ينتج صحة نفسية أفضل.
من الحقائق التي يكررها جلبرت ويتحدث عنها بسياقات مختلفة هي الدليل العلمي الواضح لكل شخص حول أثر التفكير والتخيل ليس على مزاجنا فحسب بل على أجسادنا. حين نفكر بأفكار جنسية فإن الاستثارة تنعكس على الجسد، وحين نفكر بالطعام فقد يسيل لعابنا. بنفس الكيفية يقترح جلبرت العديد من التمارين التي تحفز أنماطًا إيجابية من التفكير. على سبيل المثال، يذكر جلبرت كيف أن التطلع لأمر جيد له آثار إيجابية على المزاج بقدر ما يكون للقلق والخوف السابق لأمر ما أثر سلبي على المزاج، مثلًا امتحان أو تغيير كبير في الحياة. تمارين اليقظة الذهنية والتأمل والتفكير المختلفة التي يقدمها جلبرت تحفز بعض أصناف التفكير الإيجابية تلك.
بدلاً من الاستعارات المعقدة غير المفهوم في العلاج النفسي التحليلي والتي لا يكون فهم الشخص جزءاً منها ولا يشترط به أن يفهمها يقدم العلاج القائم على التعاطف حقائق علمية تمثل محور العمل في جلسات العلاج ويصنف كل شيء وفقها. في نفس الوقت لا يمتنع العلاج القائم على التعاطف من أخذ جميع الممارسات الناجحة من أصناف العلاج الأخرى فهو من جانب مليء بتمارين وممارسات العلاج السلوكي المعرفي، ومن جانب آخر فهو يعطي أهمية للاوعي أيضاً ويقدم طرق للتعامل مع الأصوات المختلفة بداخلنا.
إحدى الآليات الأساسية للعلاج القائم على التعاطف هي التأمل التعاطفي أو اليقظة الذهنية المتعاطفة. يقول بول جلبرت في كتابه:
“ إذا مارسنا اليقظة الذهنية، فسوف نتعلم أن نلعب دور المراقب للعمليات الجسدية والمشاعر والأفكار. في اليقظة الذهنية، لا نحاول تغيير أفكارنا، بل أن نكون فضوليين ومندهشين من ظهورها ومن العلاقة التي تربطنا بها. كلما عبرنا عن أفكارنا وصورنا ومشاعرنا ورغباتنا بصوت مسموع، أصبحت ممارسة اليقظة الذهنية أسهل. لهذا السبب، من المفيد صياغة الأفكار والتعبير عنها كأن نقول: “الآن أشعر بالرغبة في الاتصال بصديقي.”
عندما نقوم بالأشياء بتعاطف، نحاول دائماً أن نغمرها بمشاعر اللطف والدفء والوداعة. لذا، لا ينبغي أن نراقب أفكارنا بطريقة باردة أو عدائية، بل بطريقة لطيفة ومهتمة. من المفيد التركيز على توجهنا العاطفي ومحاولة خلق أكبر قدر ممكن من الدفء. يمكن لهذا أن يمنحنا شعوراً مختلفاً عند مراقبة أفكارنا ومشاعرنا وأوهامنا.”

نشر المقال في كتاب العلاج النفسي كيف نواجه المعاناة النفسية عبر العلم
يرى بول جلبرت أن تلك العملية من مراقبة الأفكار بشكل متعاطف والتي يمكن أن تحدث في أي وقت كفيلة بتغييرنا بشكل إيجابي. يستند جلبرت إلى حقيقة بسيطة في البيولوجيا وعلم النفس بالشكل الذي ذكرناه أعلاه، وهي أننا حين نفكر في عراك فإننا سنشعر بالتوتر، وحين نفكر بالجنس فإننا سنشعر بالرغبة الجنسية. ماذا يحدث حين تفكر في موقف دافئ؟ ما الذي سيحدث حين تغير طريقة النظر إلى عملية تبدل أفكارك بشكل سريع؟ يذكر جلبرت أن البعض يمكن أن يمروا بإحساس بالعار حتى حينما يريدون التأمل وذلك حينما لا يقومون بذلك بما يكفي أو حين تتجه أذهانهم إلى أفكار معينة، لكن ماذا لو شرعنا بنوع من التعاطف والتسامح مع أبسط العمليات الذهنية لدينا حين يتجه تركيزنا نحو فكرة معينة بدلاً من أخرى؟
إحدى المشاكل التي نعاني منها هي أن تلك الأنظمة التي لدينا للعواطف ليست مصممة لكي تعمل بشكل متوازن بالضرورة، كما أنها قد تنجرف نحو إبقائنا في نظام القيادة أو نظام التهديد. يعمل نظام التهديد مثلاً وفق قاعدة “Better safe than sorry” أي من الأفضل أن تكون آمناً على أن تكون آسفاً (بعد حدوث أمر خطر لا رجعة فيه). وبالتالي فإن نظام التهديد قد يكون منحازاً فيما يعتبره خطراً. كما أن تلك الأنظمة لديها القدرة على كبح بعضها البعض، بحيث يمكن أن نغرق بمشاعر معينة كالغضب دون إمكانية الخروج منها بسهولة. يشرح جلبرت في كتبه وأبحاثه تلك الأنظمة من منظور تطوري وبيولوجي، كما يتكلم عن ظروف الحياة بمختلف أنواعها ودورها في صياغة هذه الأنظمة.
يفهم الشخص في العلاج القائم على التعاطف أن دماغه يعمل بهذه الطريقة وأن العملية تجري بهذا الشكل، وبالتالي فهو لا يحتاج أن يشعر بالعار والخجل من مشاعره، فهي ليست خطأه. كما أن جلسات العلاج تربط بين أحداث حياة الشخص في الماضي وكيفية اكتسابه لتركيبة معينة من المشاعر وردود الأفعال. وبالتالي يتوقف الشخص عن محاكمة أفكاره وسلوكياته أو الشعور بالخجل منها أو نقد ذاته.
بينما تشكل الأنظمة العاطفية والعلاقات بينها وكيفية تفعيلها الأساس لفهم كيف نعمل، فإن التعاطف كموقف (compassion) يشكل الهدف الرئيسي لما يرغب العلاج القائم على التعاطف في الوصول إليه، ويشكل التأمل التعاطفي (compassionate mindfulness) إحدى الآليات الرئيسية للوصول لذلك.
يعد العلاج النفسي القائم على التعاطف حديثًا نسبيًا، لذا لا توجد الكثير من الأبحاث التي تناقش فاعليته.[2] كما درس آخرون التعاطف والتأمل التعاطفي بشكل منفصل مقدمين الأدلة العلمية على فاعليتهما،[3] حيث قام نيف وزملاؤه في إحدى الدراسات بتقييم دور اليقظة الذهنية والتعاطف الذاتي مع كل من الاكتئاب، القلق، السعادة، والرضا عن الحياة فوجدوا أن غياب التعاطف الذاتي يقترن إحصائيًا بشكل ملحوظ مع الاكتئاب، كما أنه يقترن إحصائيًا مع السعادة والرضا عن الحياة. فيما وجدوا أن عدم القيام بتمارين اليقظة الذهنية أو التأمل يقترن إحصائيًا مع القلق. كما توصل باحثون آخرون ذكروا في البحث السابق أيضًا أهمية التعاطف الذاتي وكونه مؤشرًا أقوى إحصائيًا على الصحة الذهنية، وهو يفوق التأمل وحده بمقدار الضعف.
المصادر
[1] Gilbert, P. The compassionate mind. Constable, 2009.
[2] Leaviss, Joanna, and Lois Uttley. “Psychotherapeutic benefits of compassion-focused therapy: An early systematic review.” Psychological medicine 45.5 (2015): 927-945.
[3] Neff, Kristin D., and Katie A. Dahm. “Self-compassion: What it is, what it does, and how it relates to mindfulness.” Handbook of mindfulness and self-regulation (2015): 121-137.