أشترك في القائمة البريدية

اشترك في القائمة البريدية: 

 

استبدال المفقود والمتضرر من حواسنا – سلسلة اللدونة العصبية

بواسطة | يوليو 14, 2025 | علم الأعصاب | 0 تعليقات

كانت شيريل شيلتز تعاني من حالة طبية غير مألوفة، إذ كان جسمها فاقداً للتوازن. كان رأسها يتمايل وذراعاها تتخبطان ويتحرك جسمها ويترنح بينما تقف على الأرض. حتى عندما كانت تسقط كانت تشعر بأنها تستمر بالسقوط بشكل مستمر. سبب تلك الحالة هي حدوث ضرر في العضو الحسي للتوازن ويعرف بالجهاز الدهليزي (vestibular apparatus). لكن عالماً فذاً جعل شيلتز تقف باتزان وكأنها سليمة كلياً، ليس عبر دواء أو عبر جراحة ما بل عبر جهاز بسيط جداً!

حينما رأى حالة شيلتز، قال عالم الفيزياء الحيوية يوري دانيلوف (Yuri Danilov) أن جهاز التوازن لديها فقد “من خمسة وتسعين إلى مئة بالمئة” من وظيفته. بدأت المشكلة في عام 1997، عندما كانت تبلغ من العمر تسعة وثلاثين عامًا، بعد أن أُعطيت مضادًا حيويًا يُدعى جنتاميسين عقب عملية استئصال الرحم، وهو دواء معروف بتسميم هياكل الأذن الداخلية. وقد أصيبت شيريل بالصدمة عندما عرفت أنها ستعاني من تلك المشكلة بشكل مستديم. دانيلوف كان لاحقاً أحد الأبطال الذين ساهموا بانقاذ شيريل لكنه ليس الشخص الرئيسي في هذه القصة.

أثر الضرر الحاصل في الجهاز الدهليزي لدى شيريل على الارتباط بين جهازها الدهليزي ونظامها البصري، مما تسبب في أن يبدو كل شيء تراه “يتذبذب مثل فيديو رديء” ويظهر وكأنه يتحرك كالهلام. ومع ذلك فقد كانت الرؤية وسيلتها الوحيدة لمعرفة أنها واقفة بشكل صحيح. ذلك الخلل في البصر سبب أن أي حركة أمامها أو حتى الأنماط المتعرجة على سجادة يمكن أن تزيد من إحساسها بالسقوط. الجهد المستمر للوقوف بثبات كان يتسبب بإرهاق عقلي عميق لشيريل، وقد استنزف هذا الطاقة من وظائف مثل الذاكرة والتفكير، تاركًا إياها مرهقة وقلقة. خسرت شيريل وظيفتها كمندوبة مبيعات دولية، وعاشت على إعانة العجز واكتسبت قلقًا جديدًا بشأن التقدم في العمر.

بول باخ-ي-ريتا

بول باخ-ي-ريتا

هنا يظهر بول باخ-ي-ريتا (Paul Bach-y-Rita)، الرائد في مجال اللدونة العصبية، والذي رفض الآراء القائلة بالموضعية في الدماغ (localizationism) والذي ينص على أن وظائف الدماغ ثابتة في مواقع محددة غير قابلة للتغيير. كان عمله مدفوعًا بفكرة أن الدماغ “قابل للتغيير، مرن، وقابل للتعديل” كما اعتقد بإمكانية “الاستبدال الحسي” (sensory substitution)، حيث يمكن لإحدى الحواس أن تتولى وظيفة حاسة أخرى تالفة. طرح باخ-ي-ريتا أسئلة جذرية: هل العيون ضرورية للرؤية، أو الأذنان للسمع، أو الألسنة للتذوق؟ جاءت إلهامه من تجارب وعمليات ملاحظة رئيسية. في عام 1959، أصيب والده، بيدرو، بسكتة دماغية أدت إلى شلل نصفي وفقدان القدرة على الكلام، مع عدم وجود أمل في التعافي وفقًا للأطباء. ومع ذلك، من خلال برنامج إعادة تأهيل مكثف غير تقليدي قاده شقيقه جورج، تعافى بيدرو بالكامل، وكشف تشريح لاحق بعد وفاته في عام 1965 عن ضرر دماغي كارثي – دمر الضرر 97% من الاتصالات العصبية من القشرة الدماغية إلى العمود الفقري. أثبتت هذه الملاحظة قدرة الدماغ على إعادة تنظيم نفسه، مما شكل مسيرة باخ-ي-ريتا المهنية في مجال “إعادة التأهيل المتأخر” (late rehabilitation).

في الستينيات، تحدت أبحاث باخ-ي-ريتا حول رؤية القطط مبدأ الموضعية “وظيفة واحدة، موقع واحد”. فقد لاحظ أن الأقطاب الكهربائية في قشرة الرؤية للقطط تنشط ليس فقط عند عرض صورة، بل أيضًا عندما يُفرك مخلب القط أو عند سماع أصوات، مما يشير إلى أن الدماغ “متعدد الحواس”. استنتج أن جميع المستقبلات الحسية تترجم الطاقة إلى أنماط كهربائية – التي عدها باخ-ي-ريتا بأنها “اللغة العالمية” للدماغ – مما يعني أن مناطق الدماغ أكثر تجانسًا وتنوعًا مما كان يُعتقد سابقًا. في عام 1969، طور جهازًا للرؤية باللمس للمكفوفين، باستخدام كاميرا ترسل إشارات كهربائية إلى 400 محفز اهتزازي على لوحة معدنية موضوعة على ظهر الشخص. تعلم المكفوفون بفضل ذلك الجهاز القراءة، التعرف على الوجوه، وإدراك الفضاء ثلاثي الأبعاد، وشعروا أن تجربتهم الذهنية حدثت “في العالم”، وليس على الجلد في الظهر حيث يقع الجهاز. كان هذا الجهاز (المنسي حالياً للأسف) تطبيقًا جريئًا للمرونة العصبية، أثبت نجاح الاستبدال الحسي. بعد ذلك، أدرك باخ-ي-ريتا حساسية اللسان، مما جعله نقطة انطلاق مثالية فكر باستخدامها كوسيط بين الدماغ والآلة، مما أدى إلى تطوير شاشة اللسان التي استُخدمت لمساعدة شيريل.

قام باخ-ي-ريتا بتحوير جهاز الرؤية باللمس إلى نموذج أولي للتوازن. ارتدت شيريل خوذة بناء تحتوي على مقياس تسارع، مع شريط بلاستيكي رفيع مزود بأقطاب كهربائية موضوع على لسانها. رصد مقياس التسارع حركات الرأس، وأرسل إشارات إلى الأقطاب، التي لم تكن تعطي شعوراً بالصعقة الشديدة بل فقط ما يشبه فقاعات المشروبات الغازية على اللسان. لكن تلك الإشارات كانت بداية جيدة. أشارت مواقع النبضات التي تلقاها لسان شيريل إلى اتجاه الميل – للأمام، وللخلف. وهنا حدثت المفاجأة بأن شيريل لم تكن تعاني من مشكلة التوازن حينما كانت ترتدي هذا الجهاز.

لأول مرة منذ خمس سنوات. بدأ دماغها في فك تشفير إشارات اللسان، موجهًا إياها إلى منطقة التوازن، مما خلق ما يمكن القول عنه بأنه “معجزة عصبية”. وقفت شيريل دون تمايل، وقامت بتصحيحات طفيفة، وتوقفت حركاتها الفوضوية.

لم تكن تأثيرات الجهاز فورية فحسب بل شعرت شيريل بعد إزالته بأثر متبقي، حيث حافظت على توازنها لثوان، ثم ساعات، وفي النهاية أيام. على مدى عام، امتد هذا التأثير إلى أربعة أشهر، مما سمح لها بالسير بثقة، والقفز على الحبل، والتوازن على عارضة، وقيادة السيارة. لم تعد شيريل تعتبر نفسها فاقدة للتوازن وتوقفت عن استخدام الجهاز تمامًا بعد ذلك. تعافى ارتباطها البصري-الدهليزي، وأبلغت عن شعورها بأنها صلبة وثابتة، حتى أنها رقصت مع باخ-ي-ريتا وعانقته بشكل عفوي هو ويوري دانيلوف. ثم كان هدف الفريق تصغير الجهاز إلى شكل مشابه لتقويم الأسنان للاستخدام السري، مع تطبيقات محتملة لكبار السن، الذين غالبًا ما يضعف جهازهم الدهليزي مع التقدم في العمر، مما يساهم في سقوطهم.

كشفت أعمال باخ-ي-ريتا عن المرونة الرائعة للدماغ. المرونة العصبية (neuroplasticity)، حيث تشير كلمة “نيورو” إلى الخلايا العصبية و”بلاستيك” إلى القابلية للتغيير، تُظهر أن التفكير والتعلم والعمل يمكن أن يعيد تشكيل تشريح الدماغ وسلوكه. إذا تم حظر مسارات رئيسية، يمكن للدماغ كشف وتقوية مسارات ثانوية أقدم، كما رأينا في تأثير شيريل المتبقي المتزايد بعد ارتداءها للجهاز، والذي افترض باخ-ي-ريتا أنه عزز إشارات من الأنسجة السليمة وجند مسارات لدونة جديدة. أثبتت تجاربه السابقة، مثل تمكين المكفوفين من “الرؤية” من خلال اللمس أو إعادة توجيه عصب اللسان لاستعادة تعبيرات الوجه، هذه القدرة على التكيف.

يُظهر تعافي شيريل الآثار العميقة للمرونة العصبية. إنه يتحدى فكرة أن الدماغ ثابت غير قابل للتغير، ويُظهر أن هناك الكثير من الآمال عبر تقنيات ووسائل عديدة لتغيير البنية العصبية للدماغ. ومع ذلك، تحذر “مفارقة اللدونة” من أن اللدونة يمكن أن تخلق أيضًا سلوكيات أو اضطرابات عنيدة تقاوم محاولات التغيير. بالنسبة لشيريل، لم يُعيد الجهاز التوازن فحسب، بل أيضًا إحساسها بذاتها، مما يثبت أن قدرة الدماغ على إعادة تهيئة نفسه من خلال الاستبدال الحسي يمكن أن تغير الحياة، مما يقدم أملًا للذين يعانون من إعاقات حسية ويعيد تعريف فهمنا للحواس.

وردت المعلومات من المقال في كتاب The Brain that Changes Itself من تأليف Norman Doidge وقد تم تحرير هذا المقال بمساعدة أكثر من أداة للذكاء الاصطناعي

الكتاب:

Doidge, Norman. The brain that changes itself: Stories of personal triumph from the frontiers of brain science. Penguin, 2007.