يقال ان “توضيح الواضحات من الفاضحات” لكن يبدو ان مفاهيم المنهج العلمي الاكثر اهمية لم تدرج بقوائم الواضحات بثقافتنا مع الاسف . على مدى فترات طويلة وبنقاشات كثيرة في صفحات الفيس بوك نجد كثيراً خلط غريب بهذه المفاهيم ومع ان الصديق حيان الخياط نشر بتاريخ 3/7/2012 تدوينة في موقع العلوم الحقيقية بعنوان “النظرية هي فرضية تم اختبارها وليست مجرد رأي شخصي” وضح فيها على نحو جيد يزيل اللبس المفاهيم الثلاثة (الفرضية , النظرية , والقانون) . لكني اجد من الضروري تعزيز مجهوده بامثلة واقتباسات من رجالات المنهج العلمي لعل هذا يزيل اللبس الذي يقع به الاغلبية عن تعرضهم لمواضيع العلوم وبالاخص نظرية التطور .
في البدء الفرضية (Hypothesis) : ” هي عبارة عن مقترح تم وضعه كتفسير مؤقت لحالة او حدث معين، وذلك لربط مجموعة من الظواهر معاً ، وهي بحاجة لكم كبير من الادلة التجريبية لتكون علمية بشكل كامل ، كما ان الفرضية قابلة للاختبار بصورة عامة. وبكلمتين “الفرضية هي تخمين يتم اثباته عن طريق التجربة”.” .
ما النظرية ؟
النظرية (Theory) كما يعرفها ستيفن هوكنج هي “نموذج للعالم او جزئ محدود منه مع مجموعة القواعد التي تربط الكميات في النموذج مع مشاهداتنا” (هوكنج و ملوندينوف -تاريخ اكثر ايجازاً للزمن) . اما كارل بوبر فيلسوف العلم الشهير فيعتبر النظرية “الشبكة التي نرميها لنلتقط بها العالم لنعقله , لنفسره , ولنتحكم به , ونبذل قصارى جهدنا لتضييق زردات الشبكة باستمرار” (بوبر- منطق البحث العلمي) . عند بوبر النظرية العلمية لا تكتسب الدرجة القطعية اطلاقاً بل يجب ان تقدم التنبؤات التي يمكن من حيث المبدأ دحضها باستمرار , تزيد ثقتنا بالنظريات مع تخطيها لكل اختبار لكن لايمكن باي حال من الاحوال اعتبارها حقيقة مطلقة بل هي حقائق تقريبية وهنا بيت القصيد . يعتقد كثير ممن تواصلت معهم بنقاشات حول المواضيع العلمية ان النظريات التي ثبت اختبارها تجريبيا ممكن ان تدحض , الحقيقة ان نموذجهم للعلم مشابه لمدينة يتم تجديدها وهدم بناياتها باستمرار , ولاني استعرت هذا التشبيه من فيلسوف العلم الفرنسي الشهير هنري بوانكاريه فسأكمل مقتبسا “لا يجب ان نقارن مسيرة العلم بالتحولات في مدينة حيث يتم إسقاط البنايات التي شاخت وبدون شفقة لتحل محلها بنايات جديدة , وإنما يجب ان نقارن تلك المسيرة بتطور الانواع الحيوانية التي تتطور باستمرار وتنتهي إلى ان تصبح العيون العادية غير قادرة على التعرف عليها في حين أن العين الخبيرة ستجد فيها دائما العمل السابق الذي قامت به القرون الماضية” (هنري بوانكاريه – قيمة العلم) . لذا فان النظريات التي نجحت باختبارات تجريبية متعددة ثم فشلت في اختبار جديد لايعني انها فاشلة او لا تصف الواقع الذي صيغت لاجل ان تصفه . بل هذا الفشل يكشف عن قصورها في معطيات جديدة لذا ينبغي استبدالها بنظرية اعم منها تشمل البيانات الجديدة او تكميلها بنظرية تفسر المعطيات الجديدة –نشير هنا الى اعتقاد صرح به هوكنج وملوندينوف من ان عالمنا لا تصفه نظرية موحدة واحدة انما تتابع من النظريات التي تعطي دقة متزايدة- .
لنعزز كلامنا بامثلة من تاريخ العلوم سناتي بالمثال الشهير لتفسير الجاذبية . حيث ان نظرية الجاذبية لنيوتن نظرية تنبأت بحركة الكواكب وسرعة سقوط الاجسام لفترة طويلة دون خطأ باستثناء شذوذ غريب بمدار كوكب عطارد , استمر هذا الشذوذ يحير العلماء حتى ان بعضهم افترض وجود كوكب اخر بين عطارد والشمس تسبب جاذبيته هذا الشذوذ المداري , لكن حاجة اينشتاين لنظرية بالجاذبية تتوافق مع نسبيته الخاصة دفعه لان ياتي بالنسبية العامة , وكان تفسير الشذوذ المداري لكوكب عطارد اول توافق “قبلي” مع الحقائق المرصودة لياتي التنبؤ “البعدي” باثبات ان الضوء ينحني عند مروره باجرام ذات كتلة كبيرة . نظرية اينشتاين في النسبية العامة هي تعميم لجاذبية نيوتن التي فشلت بتفسير مدار كوكب عطارد –كذلك الحركة قرب حقول الجاذبية القوية مثل الثقوب السوداء- لكن هذا لا يعني ان نظرية نيوتن تعتبر فاشلة بتفسير حركة الكواكب التي سبق وان فسرتها انما هي تعتبر تقريب جيد للواقع الذي تمثله منظومتنا الشمسية , كذلك فان الحسابات الخاصة بالاجرام وحركة الكواكب واطلاق الرحلات الفضائية تعتمد عليها بدل نسبية اينشتاين لسهولة معادلاتها . مثال اخر عن تكميل النظريات بعضها لبعض هو النظرية الكمومية التي اطلق شرارتها الاولى ماكس بلانك عام 1900 فهي تفسر تناقضات عالم الكم الغريب الذي تفشل الفيزياء الكلاسيكية في افهامنا ما يجري فيه .
ان الربط غير الصحيح بين النظرية وعدم الاعتمادية , ناتج من استخدامنا المختلف لهذه الكلمة في حياتنا الواقعية , النظريات العلمية تصف نموذج متكامل لوقائع تربطها علاقات –تدعي قوانين وسنتناولها بعد قليل- ولها تطبيقات كثيرة , من الاخطاء الشائعة عند من يتناولون المواضيع العلمية بدون تدبر القول “ان كانت هذه النظرية مدعمة تجريبياً فلماذا لاتزال نظرية” . الحقيقة قد لايعلم اولئك ان النظريات هذه تعج حياتنا بتطبيقاتها , جهاز تحديد الموقع GPS يعتمد حسابات نظرية اينشتاين في النسبية الخاصة لتعديل التوقيتات بين الاجهزة والاقمار الصناعية , الاحداث الفلكية تحدد بدقة باستخدام معادلات نسبية اينشتاين العامة , الكهرباء التي نستخدمها بتشغيل اجهزتنا نتاج نظرية فرداي وماكسويل في الكهرومغناطيسية , الاحتمالات التي تستخدم لاختبار جودة كل ما نستخدمه من حاسبي المحمول الذي اطبع عليه حروف هذه التدوينة إلى علاج الم الرأس الذي تستخدمه بعد يوم عمل طويل هي نظرية يدرسها المختصون بالاحصاء والرياضيات تحت مسمى “Probability Theory” .
ماذا يمثل القانون ؟
القانون (Law) هو علاقة رياضياتية تصف الترابط بين مكونات واقعية , القانون هو علاقة خاصة جداً لا ترتقي لعمومية النظرية لناخذ مثلاً قوانين كبلر الثلاثة ( تدور الكواكب حول الشمس بحركة ليست دائرية ولكن في قطع ناقص تحتل الشمس إحدى بؤرتيه , تختلف سرعة الكوكب في دورانه حول الشمس تبعاً لبعده عنها , النسبة بين مربعي فترتي دوران أي كوكبين هي نفسها النسبة بين القيمة التكعبية للبعد المتوسط لكل منهما عن الشمس) تصف دوران الكواكب حول الشمس وتؤكد صحتها الملاحظات الواقعية لكنها لا تقدم رؤية متكاملة عن الجاذبية التي تسبب دوران الكواكب , كذلك فانها محدودة بالكواكب التي تدور حول الشمس ولايمكن تطبيقها على المجرات مثلا! , لذا فان القانون من حيث المبدأ يختلف عن النظرية بالتعميم الذي يتوفر بالنظرية ولا يتوفر به . نقطة الخلط التي يقع بها البعض هي ان القوانين اكتسبت درجة قطعية فهي مطلقة على خلاف النظرية التي تحتاج “لكثير” من الادلة قبل ان تتحول الى قوانين . وهذا خلط غير صحيح لان القوانين هي الاخرى كما حال النظريات عند بوبر لاتكتسب الدرجة القطعية , بل هي كما يقول بوانكاريه “كائنا ما كان هذا القانون فأننا نستطيع ان نكون على يقين مسبقاً انه لن يكون الا تقريبيا . ويجب ان نتوقع ان تضطرنا قياسات اكثر دقة الى اضافة حدود جديدة الى صيغنا” , ولكي نقرب الصورة بمثال من التاريخ العلمي نضرب مثل بتحويلات غاليلو للحركة التي اعتبرت ان الزمن تدفق ثابت لايتأثر بالحركة لكن تجارب ميكلسن- مورلي وثبات سرعة الضوء ادت بهيندرك لورنز الى تعميمها بتحويلاته التي اعتمدها اينشتاين بنسبيته الخاصة , وهنا نعود لمسالة التقريب الجيد للواقع الذي عرفناه قبل قليل في النظريات , تحويلات لورينز عند السرعات القليلة تعطي قيم بغاية القرب لتحويلات غاليلو اي ان تحويلات غاليو تقريب جيد للواقع عند السرعات المتعارفة بعالمنا , لكن عند السرعات العالية تتخبط بنتائج غير واقعية بالمرة .
هنا اجد من المناسب ان اشير للصفحة 1040 من كتاب الفيزيائي د.كلفورد أ. بكوفر (رواد المعرفة عبر القرون- الجزء الثالث) حيث اقتبس المؤلف من رسالة من الدكتور دانيل بلات من شركة IBM فرع ابحاث (ت.ج. واتسون) والتي اشار فيها الى “نمو نزعة التكرارية والإعادة والمناهضة لحركة اطلاق مصطلح (القوانين)” منذ 1900 .
اخيراً في كتاب لماذا العلم للفيزيائي والمهتم بتبسيط العلوم الامريكي جيمس تريفل يتحدث عن اهمية “محو الامية العلمية” وهو يعرفها بكم المعلومات التي يجب ان يعرفها المجتمع للخوض بنقاش علمي في القضايا المعروفة بالساحة مثل الخلايا الجذعية والهندسة الوراثية والذكاء الصناعي وغيرها . من اول المعلومات اللازمة لمحو الامية العلمية هي تعريف مصطلحات المنهج العلمي واشاعتها بين الجمهور وهو متطلب من المؤسف ان نجد انفسنا غير موفين به ونحن باعتاب العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين .
الخلاصة : النظرية العلمية هي ليست فكرة غير مدعومة انما فرضية خضعت للاختبار وتصف نموذج من العالم او لجزء محدود منه لا تثبت بقطعية انما تتحدى التجارب باستمرار , ولدحضها ليس من المُبَرر التشكيك بكونها لم ترتقي لمرتبة قانون بل الاتيان بملاحظة علمية تتناقض معها , نظرية التطور على سبيل المثال يكفي لدحضها كما يقول داروين في اصل الانواع ايجاد ميزة واحدة بكائن حي انتخبها الانتخاب الطبيعي وهي لا تدعم بقائه او ايجاد متحجر لخلف (مثل الانسان الحديث) بفترة زمنية كان يعيش بها اسلافه (مثل 6 ملايين سنة حيث اسلافنا المشتركين مع الشمبانزي يجوبون غابات افريقيا) , والقانون العلمي ليس حقيقة قطعية او مرحلة متقدمة تبلغها النظرية بل هو وصف تقريبي للبيانات- يمتاز بالتخصص والنظرية بالعمومية- قد يعدل او يستبدل بقانون اكثر عمومية اذا ما توفرت بيانات اكثر دقة , مع ذلك كله فان القوانين والنظريات التي اختبرت واثبتت التجارب نجاحها لايمكن ان تكون خاطئة في المجال الذي فسرته او وصفته وكما بينا اعلاه .
رابط المقالة “النظرية هي فرضية تم اختبارها وليست مجرد رأي شخصي ” : https://real-sciences.com/?p=1545
———————————————————————————————–
بعض الكتب اجد من المناسب لمن اراد المزيد ان يطلع عليها
1) كارل بوبر – منطق البحث العلمي
2) دونالد جيليز – فلسفة العلم في القرن العشرين
3) توماس كون – بنية الثورات العلمية
4) هنري بوانكاريه – قيمة العلم
5) هنري بوانكاريه – العلم والفرضية
6) جيمس تريفل – لماذا العلم
7) نتالي انجير – المبادئ . الكتاب يحوي فصل خاص بشرح المنهج العلمي