التحرش الجنسي في بيئات العمل تحت ضوء علم النفس التطوري. سنحاول في هذا المقال ان نلقي الضوء على المؤسسات واماكن العمل وان نفسر حالة التحرش الجنسي داخل المؤسسات على ضوء علم النفس التطوري, الذي يعرف بتفسير كافة السلوكيات بالاعتماد على دورها في نجاح الانسان تكاثريا ذلك ان سبب بقاء هذه السلوكيات هو بقاء الاشخاص الذين حملوها والذين لابد وان تكون قد ساعدتهم على تمرير جيناتهم وصفاتهم الوراثية من خلال التكاثر او على الاقل لم تكن عائقا بوجه عملياتهم التكاثرية. وفي مجال العمل ومؤسسات العمل المشتركة بين الجنسين تكون الارضية خصبة لطرح من هذا النوع حيث تشتد لدى الموظفين نزعات عديدة وتظهر حالات كثيرة تستحق الدراسة والنظر ومنها التحرش الجنسي.
تسعى المؤسسات الى تقنين السلوك الفردي والحد منه وتوجيه الموظفين نحو اهداف المؤسسة والى التعاون والتخلي عن الانانية والفردية وصولا للاهداف المشتركة. مما يجعل المؤسسات تجربة فريدة جديرة بالاهتمام ومطالعة السلوك البشري في غضونها.
السلوك الجنسي يشغل جانبا مهما من السلوك البشري وهو يمتد على مساحة واسعة من انماط التواصل تبدأ من السلوك الرومانسي الى السلوك القسري, كما ان طبيعة السلوك الجنسي للانسان ترسم خارطة واضحة لستراتيجيات الانسان في التكاثر والاليات النفسية الخاصة بهذا الامر.
وسيركز هذا المقال على جانب معين من السلوك الجنسي للانسان داخل المؤسسات واماكن العمل وهو التحرش الجنسي الذي يمكن تعريفه بأنه اهتمام جنسي غير مرغوب به من قبل احد الاشخاص.
النظرية التطورية للبناء النفسي الجنسي للانسان
ترتكز النظرية التطورية في نظرتها الى الطبيعة النفسية الجنسية للانسان على وجود فروقات جوهرية بيولوجية بين الذكر والانثى وبالتالي فإن الستراتيجيات المتبعة في التكاثر تختلف بشكل واضح بين الذكر والانثى. فعلى سبيل المثال لا يقوم الذكر في عملية التكاثر بقدر كبير من الاستثمار (مصطلح في علم النفس التطوري يرمز للجهود المبذولة في الذرية الناتجة من عملية التكاثر للحفاظ عليها والقيام بها حتى تكبر وبالتالي تعد العملية استثمارا لتمرير جينات الكائن الحي وتعزيز بقاءها وهو الامر الذي يحدث منذ بدء الحياة حتى الان ومن اصغر الكائنات حتى اكبرها) فالرجل لا يتولى عملية الحمل والانجاب ولا يقوم الا بتوفير النطف لاخصاب بويضات الانثى وهو يبذل وقتا وجهدا قليلا مقارنة بما تبذله الانثى. مما حدا بسلوكيات الرجل الى اتخاذ منحى عدائي تنافسي (بالوقت والجهد والمخاطر) للحصول على الفرص التكاثرية والحصول على الاناث ذوات الصفات الانجابية الافضل (غالبا ما ترتبط الصفات الانجابية بصفات الجمال للاناث, اي ان الذكور مبرمجون على النظر الى من هي اكثر خصوبة).
كما ان قلة الاستثمار في الجهد والوقت الذي يتكفل به الرجل يدفعه الى تغير اخر في ستراتيجية التكاثر حيث يبحث الرجال عن المزيد من الاناث ويشيع لدى الانسان بثقافاته المتعددة اشكال مختلفة من تعدد الزوجات.
الى جانب مميزات عديدة لسلوك الذكر في التكاثر فإن للانثى سلوكها المختلف ايضا والذي يستند على كونها تبذل جهدا ووقتا اكثر في الاستثمار بالذرية الناتجة. وبما ان هذا الاستثمار يعد مكلفا بالنسبة للمرأة فهي تميل الى التمهل في اختيار القرين وتعد المرأة هي الجنس المسؤول عن الاختيار حيث تبحث عن الصفات الافضل في الذكر مثل الموارد والمكانة الاجتماعية والصفات التي تجعل من القرين كفؤا في رعاية الذرية ماديا وبتوفير الحماية. وهذا يذكرنا بتجربة مثيرة الاهتمام عرضت بأحد الوثائقيات ويمكن اعادتها واثبات صحتها في اي مجتمع إذ يأتي رجل ويعرض اقامة علاقة مع عدد من النساء يلتقي بهن على التوالي فلا توافق اي منهن على ذلك. بينما يحدث العكس عندما تقوم المرأة بهذا الامر فيوافق جميع الرجال الذين عرضت عليهم المرأة اقامة علاقة. فالمرأة ستتكفل بثمن اكبر في الاستثمار لذا فهي ليست مستعدة للمخاطرة اما الرجل فليس امامه الكثير ليخاطر به.
بعد هذا العرض الموجز للبناء النفسي الجنسي للانسان سنتجه الى موضوع التحرش بتفرعاته المختلفة وعلاقته بنفسية الانسان الجنسية.
التجربة حيث يسأل الرجل نساءا ان يقمن علاقة معه
طبيعة التحرش الجنسي
تتنوع افعال التحرش الجنسي كما ذكرنا انفا حيث يمكن ان تبدأ بالنظرات ثم بالتعليقات ثم الافعال واخيرا الى الافعال القسرية. وتختلف عن الممارسات الجنسية الاخرى بنقطتين:
1. اعتبارها فعلا غير مرغوب به من قبل الاخر.
2. غالبا ما تكون اجبارية ومفروضة.
طبيعة الضحية
لقد ذكرنا انفا ان تاريخ الانسان التطوري وطبيعة البناء البيولوجي الجنسي للذكر جعلت الرجال يميلون الى السلوك العنيف والتنافسي في البحث عن الفرص التكاثرية. ويقود سلوك الرجل وسلوك الانثى وستراتيجيتيهما ببديهية الى ان التحرشات الجنسية من قبل الرجال هي الحالة الغالبة وتعزز ذلك الارقام والاحصائيات ففي احد التقارير في الولايات المتحدة لعام 1985 كان عدد حالات التحرش التي ابلغ عنها 81 حالة. منها 76 حالة اشتكت فيها النساء من الرجال. كما ان التقرير ذاته وحول حالات التحرش في كندا شملت شكاوى النساء فيه 94% من الحالات وكانت حالتين فقط من مجمل ما جاء في التقرير شكى فيها رجل من تحرش امرأة إذ يجدر التنبيه هنا الى ان الرجال لا يميلون الى اعتبار حالات التقرب من قبل النساء امرا غير مرغوب فيه على الاغلب.
عمر الضحية
بما ان العمر هو المحدد الابرز للخصوبة فقد اثبت من الناحية العلمية كونه العامل الاكثر جذبا في اختيار الانثى في معظم الثقافات والعامل الاكبر تأثيرا. ان الرجال في تاريخنا التطوري كانوا يبحثون عن الانثى ذات النسبة الاكبر في النجاح التكاثري لذا فقد تطورت لدى الذكور قابليات توجه اهتمامهم وجهدهم الى النساء الاصغر سنا في معظم البيئات الاجتماعية والامر ينطبق على بيئات العمل ايضا.
نعود هنا وبعد طرح الجانب العلمي الى الجانب الاحصائي ودراسة كوك وتيربسترا لعام 1985 التي اظهرت ان النساء في الاعمار 20-35 لهن النسبة الاعلى بالشكاوى من حالات التحرش والتي تبلغ 72%. كما ان 43% من هذه الشكاوى كانت في اماكن العمل. في حين كانت النسبة 5% فقط للنساء فوق سن الـ 45. و28% في قطاع العمل. كما اثبتت عدة دراسات اخرى في الولايات المتحدة ان السن 20-35 هو السن الاكثر تعرضا للتحرش. في حين لا توجد دراسة واحدة تظهر فيها النساء فوق سن الـ 45 ضمن الفئات المستهدفة بكثرة في حالات التحرش. وقد اظهرت دراسة لمركز دراسة سياسات المرأة في الولايات المتحدة عام 1981 ان السن 24-34 يمثل السن الاكثر تعرضا لحالات التحرش الشديدة التي تتمثل بالاعتداء واللمس والتهديد والضرب.
الحالة الزوجية
ليس الامر في الحالة الزوجية حاسما ومحددا كما في العمر والجنس, فعلى الرغم من وجود عوامل عديدة تدفع المتحرشين الى تفضيل المرأة غير المتزوجة والى عوامل في المرأة غير المتزوجة تدفعها الى ان تكون اكثر تعرضا للتحرش. فرغبة المرأة المتزوجة عادة ما تتجه الى زوجها كما ان المرأة المتزوجة تكون اكثر حذرا كما ان الميل للحفاظ على العلاقة بشكل اكثر اتزانا يجعل اقل تقبلا واكثر بعدا عن امكانية ان تكون متوفرة لغير زوجها.
غير ان القيم الاحصائية لا تجعل الامر حاسما ففي دراسة كوك وتيربسترا كان لغير المتزوجات نسبة 45% من الشكاوى في حين لم يكن الفارق كبيرا عن المتزوجات واللاتي بلغن 31% في حين وجد لافونتاين وتريديو عام 1986 ان المطلقات والعزباوات هن الاكثر تعرضا للتحرش بجميع انواعه.
طبيعة المتحرش
بعد حسم موضوع طبيعة جنس المتحرش في الموضوع الانف الذكر صار من البديهي ان نتجه بشكل مباشر الى موضوع سن المتحرش والذي يتوزع بين فرضيتين تقول الاولى ان المتحرش يكون في العادة صغيرا في السن ووسيما واعزبا الذي يلجأ للتحرش كنوع من التودد. والفرضية الثانية التي تنص على كون المتحرش كبيرا في السن ومن الصعب عليه ان يجتذب النساء فيكون ميالا لسلوك ارغامهن على العلاقات القصيرة وينعكس ذلك على افعاله من خلال التحرش.
الفرضية الثانية قد تبدو الاكثر قبولا ذلك ان حالات الشكوى والانزعاج والتي تحدد كون الفعل تحرشا لا تأتي تجاه المتحرشين الصغار والاكثر وسامة والذين قد تنظر اليهن النساء كقرناء لعلاقة طويلة الامد بدل ان تنظر اليهم بسلبية.
غير ان البيانات المتوفرة تعطي دعما لكلا الفرضيتين فالرجال ذوي المناصب والفقراء والوسماء وكبار السن وصغار السن جميعهم يقومون بالافعال ذاتها.
الجدول ادناه يعود علينا بقدر ثمين من المعلومات حول طبيعة المتحرش من كلا الجنسين وبشكل حاسم امام الفرضيات المختلفة التي نحملها وهو ثمرة الدراسة التي قام بها كوتك في عام 1985:
ويتضح ان توزيع المتحرشين على الفئات العمرية يكاد يكون متساويا في حين ان اكثر المتحرشات يقعن في الفئة العمرية ما تحت الثلاثين وتكاد تخلو فئة ما بعد الاربعين من المتحرشات (تجدر الاشارة الى ان المصطلح المستخدم في الجدول يعني المبادر) والاحصائية تشمل المبادرة بالافعال الجنسية في اماكن العمل.
اما الحالة الزوجية فنسبة المتزوجين من المبادرين تبلغ ضعف نسبة غير المتزوجين والعكس تماما مع النساء حيث ان غير المتزوجات يبلغن اكثر من ضعف المتزوجات من المبادرات.
اما درجة الجاذبية فلا نسبة تذكر في الرجال في حين تبلغ النسبة الضعف في النساء الجذابات عن غير الجذابات في المبادرة بالافعال.
وتكاد تتساوى النسبة في الرجال عندما يكونون في منصب اشراف عن غيره وفي الحالتين يمارسون القدر ذاته من التحرش بينما تكاد تكف النساء بشكل تام عن التحرش في حال كونهن في منصب اداري.
رد الفعل تجاه التحرش
كما اوضحنا انفا فإن طبيعة الاستثمار في الذرية تحدد مدى كلفته في كل من الذكر والانثى, لذا فإن الامر سيكون مختلفا في الذكر عنه في الانثى بشكل تام. فمثلا ووفق احد الاستبيانات تم سؤال عينة من شباب الجامعة عن مدى قبولهم بمضاجعة فتاة لا يعرفون عنها اي شئ مسبقا فكانت نسبة القبول 75% بينما كانت النسبة للاستبيان نفسه على الفتيات 0%.
وبالتالي فإن تحرش الانثى بالذكر يعد امرا ايجابيا والعكس يحدث عند تحرش الذكر بالانثى, ويترتب على ذلك اختلافات في ردود الافعال.
رد الفعل بناء على طبيعة التحرش
هناك فرضية تنص على ان رد فعل النساء سيكون شديدا ضد التحرش في حال تضمن لمسا او اظهارا للرغبة الجنسية بشكل عام, في حين سيكون التحرش مقبولا فيما لو كان يتضمن قولا يدل على الرغبة بأقامة علاقة طويلة الامد.
تدعم هذه الفرضية معظم الدراسات حول موضوع التحرش, فدراسة كوتك (Gutek 1985) على سبيل المثال رأت فيها 98% من النساء ان الافعال الجنسية كاللمس هي تحرش, بينما فقط 28% رأوا ان النظرات او التلميحات تعد تحرشا.
بأختصار فإن النساء سيستجبن بشكل ايجابي وبخلاف المعتاد للتحرش في حال كان الربح الناتج منه كبيرا ومجزيا كالعلاقة طويلة الامد. بينما سيستجيب الرجال بشكل سلبي للتحرش فيما لو كانت الخسائر اكبر من الارباح وايضا سيكون تصرفهم مخالفا للمعتاد.
دوافع المتحرش
وسط السؤال الذي يبقى دون اجابة من اصداء الباحثين والعلماء يطرح علم النفس التطوري فرضية تنص على ان النساء لن يقمن بمبادرة تجاه الرجال الذين يرغبون بالاتصال الجنسي فحسب او الذين يستخدمون التهديدات او القوة. كما يضع للرجال فرضية تربط بين المبادرة بمختلف انواعها وبين رغبة الرجل في اقامة علاقة قصيرة او طويلة الامد. ولن سلوكيات التحرش ما هي الا ستراتيجيات لاقامة علاقات قصيرة الامد عن طريق وسائل التحرش الشديدة كاللمس او لاقامة علاقات طويلة الامد كالنظرات والتلميحات والاقوال.
فرضيتين للتحرش في مكان العمل
هناك امثلة عديدة وحالات عديدة لاوضاع التحرش داخل المؤسسات واماكن العمل ايضا, وعادة ما يميل النساء والرجال الى نسيان دورهم الجنسي اثناء العمل والتأقلم في العمل كوحدات. كما ان نسبة التحرش تنخفض وتكاد تنعدم وفق الدراسات في البيئات التي يتم فيها الفصل بين الجنسين في العمل.
اذا يبقى السؤال مطروحا لماذا هذا السلوك اثناء العمل؟ يمكن لعمل النفس التطوري ان يضع فرضية تجيب على هذا وبالاعتماد على بيانات دراسة كوتك ضمن النقطتين:
1. نسبة الاختلاط الاجتماعي بين الرجال والنساء في العمل.
2. تردد حالات المبادرة بين الجنسين داخل بيئات العمل.
حيث بزيادة النسبتين يزداد الاندفاع الجنسي وميل الذكور والاناث الى التصرف وفق طبيعتهم الجنسية. تلك هي الفرضية الاولى.
اما الثانية فهي تفسر تحرش الذكور بالاناث كنوع من الهيمنة التي يفرضها الذكور.
O’Connell, Michael Charles. “Gender Power and Mate Value: The Evolutionary Psychology of Sexual Harassment.” (2009).