سبق أن أوضحنا في مقال سابق ماهية العلوم الشعبية وكتابها، لكن ولكثرة الانتقادات السلبية التي تُثار ضد جهود نشر العلم فإن التوضيح لازم لماهية التخصصات المطلوبة لكتابة العلم للعامة وهل هناك حاجة للتخصصات تلك أساساً؟
هناك الكثير العلماء المعروفين بكتبهم العلمية أو وثائقياتهم العلمية مثل كارل ساغان، ستيفن هوكينج، نيل ديغراسي تايسون، ريتشارد دوكنز وغيرهم، غير أن هؤلاء لا يشكلون سوى نسبة صغيرة من مجمل كتاب العلوم الشعبية، ونخص بالذكر منها المقالات، فلو أخذت جولة في مواقع ساينتفيك أمريكان، نيو ساينتست، ساينس أليرت وغيرها لوجدت أن متصدري الكتابة العلمية هم متخصصون في مجال يُعرف بالتواصل العلمي (science communication) والذي يتضمن المعارض العلمية، الصحافة العلمية والإعلام العلمي بصورة عامة فضلاً عن المختصين بالصحافة العلمية وتاريخ العلم.
بالصدفة دخلت على أحد مقالات ساينتفيك أمريكان وذهبت إلى الكاتب وكان روبرت بيرلمان (Robert pearlman)، بيرلمان مختص بتاريخ علم الفضاء وهو يكتب في موقع (space.com). كريستين هوغو (Kristin Hugo) تكتب في PBS وتكتب أيضاً في ساينتيفيك أمريكان وتتنوع كتاباتها بين مقالات طبية، مقالات عن الحيوانات، تكتب في الالكترونيات، في الفيزياء، المفاجأة أن كريستين ليست متخصصة بأي مجال علمي بل هي صحفية فقط وجل سيرتها العملية هي سيرة صحفية فقط وقد درست الفن وأخذت الماستر في الصحافة العلمية، لا ندري لماذا لا يستنكر وجودها هيرمان بونتز العالم التطوري الذي يكتب هو الآخر في ساينتفيك أمريكان؟ لماذا لا يفعل كما يفعل آلاف المتحذلقين في تعليقات الفيسبوك واليوتيوب وهم ينتقدون أبسط جهود الصحافة العلمية العربية الوليدة ويحتجون بحجة الاختصاص وحجة “أنكم فقط مترجمون”، هؤلاء يا صديقي أيضاً مترجمون لكن من لغة العلم إلى لغة الشارع وهو ما نفعله في أحيان كثيرة عندما نلخص أوراقاً بحثية أو نُعد مقالاً من عدة أوراق بحثية لننشر ثمار جهدنا مجاناً في العلوم الحقيقية وأخواتها من مبادرات نشر العلم باللغة العربية.
تتسع القائمة كثيراً لو اردنا استحضار المزيد من الأمثلة على صحفيين علميين يعملون في مؤسسات صحافة علمية شهيرة ولم يحاسبهم أحد على التخصص الدقيق وعلى الشهادة العليا وعلى تاريخ العمل السابق، فتبسيط العلوم ونشرها لا يتطلب هذه الأمور، وعلى العالم أيضاً أن يترك تخصصه وراءه وهو يحاول أن يبسط صورة معقدة للقارئ الإعتيادي وهذا ما يفعله العلماء الناشطين في التواصل العلمي.
مثلما أن الكتابة الأكاديمية لها المختصين فيها الذين لن يقدروا قيمتها دون أن تكون ممتلئة بكل التفاصيل المطلوبة، وهؤلاء سيكونون من حملة الماجستير والدكتوراه في تخصصات دقيقة وسيتكلمون حول أمور دقيقة يقضون أشهراً لإيصالها لمنصات النشر من مجلات علمية ومؤتمرات. ومثلما أن المتخصصين التربويين سيكونون أيضاً من حملة الشهادات تلك مع إطلاع واسع على المجالات العلمية وستكون المواد التربوية التي ينتجونها وسيطة بين المواد المبسطة وبين المواد الأكاديمية، فإن المتخصصين بالصحافة العلمية أو كتاب العلوم الشعبية يجب أن يتحلوا بمنهجية معينة تحبب القارئ بالمادة العلمية وتقتضي تلك الأساليب المعرفة بأمور لا ينبغي للأكاديمي أن يكون محيطاً بها مثل الأسلوب الشعبي بالكتابة والأمثلة والقصص الدارجة وربما حتى مفردات الحياة بآخر صيحاتها من أغاني وموظات بهدف الوصول إلى صورة محببة للقارئ والوصول للتشبيه الأمثل والصورة الأقرب للواقع العلمي وهو التحدي الأكبر أمام العلوم الشعبية وموضع النقد الأول للنأي بها عن تغيير الوقائع أو عدم إيصالها كاملة.
حتى العلماء الذين يكتبون العلوم الشعبية في كتب ومقالات أو وثائقيات مقدمة للجمهور فإنهم حين يكتبونها يجب أن يتحلوا ببساطتها وطبيعتها السلسة وإن كان الامر يقتضي الاتفاق بين العالم وبين المختص بمواصلات العلوم حول الصيغة النهائية المبسطة، إن ستيفن هوكينج عندما يكتب أحد كتبه ذات الشعبية فإن كون الكتاب صادراً منه لن يجعله مادة صالحة للاقتباس في ورقة بحثية معينة إنه لا يختلف كثيراً عن لقاء صحفي مع ذلك العالم. تذكر دوماً أنك حين تقرأ كتاباً شعبياً لأحد مشاهير العلماء فأنت تقرأ مزيجاً من آراء العالم، تبسيطه، وخلاصات أبحاثه والأمر يختلف عن قراءتك لأبحاثه الأصلية.
في النهاية، لمن الحق في كتابة العلوم؟ هل نحصر الأمر بمن يمتلكون شهادة في مواصلات العلوم؟ كلا فأكبر مؤسسات الصحافة العلمية وأجدرها لم تقم بذلك. يحق لأي منا أن يبسط العلوم طالما أنه يحافظ على سلامة المحتوى دون تغيير أو تحريف أو إنقاص. والباب مفتوحة أمام أي محب للعلم مطلع عليه قادر على تقديمه بشكل مبسط سليم، أكتب العلم اليوم فلا توجد عوائق أمامك..